لماذا أصبحت "ASML" الهولندية نقطة مواجهة بين أميركا والصين؟

تحتكر الشركة إنتاج آلة شديدة التعقيد تُستخدم في تصنيع الرقائق الإلكترونية

المقر الرئيسي لشركة "إيه إس إم إل" ومصنعها في فيلدهوفن، هولندا
المقر الرئيسي لشركة "إيه إس إم إل" ومصنعها في فيلدهوفن، هولندا المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يسكن مدينة فيلدهوفن جنوب هولندا قرابة 45 ألف نسمة، ثلثهم تقريباً يعملون في شركة واحدة تُدعى "إيه إس إم إل" (ASML Holding NV)، وهي اليوم في قلب حرب التكنولوجيا الباردة بين الصين والولايات المتحدة.

تحتكر هذه الشركة، دون أي منافسة، إنتاج آلة شديدة التعقيد في مجال التصوير الضوئي الحجري (Photolithography)، وهي تقنية ضرورية لإنتاج الرقائق الإلكترونية الأكثر تطوراً. مؤخراً، أوقفت شركة "إيه إس إم إل" شحن بعض هذه الأجهزة للصين، بناء على طلب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في أحدث حلقات الحرب بين واشنطن وبكين في مجال تقنيات الرقائق الإلكترونية.

فما هي هذه التقنية، وما أهميتها، وكيف أصبح مستقبل تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية كله مرهوناً بأداء شركة واحدة؟

ما أهمية ماكينات الليثوغرافي لصناعة الرقائق؟

تُصنع الرقائق الإلكترونية من سطح رقيق من السليكون عليه طبقات عديدة من المحولات الكهربائية. قبل وضع المحول على شريحة السليكون يجب أولا طباعة تصميم الشريحة على هذا السطح، وهو التصميم الذي يحدد مكان وضع كل محول في مراحل التصنيع اللاحقة.

في التصوير الفوتوغرافي التقليدي، يتعرض الفيلم لنور الشمس أو المصباح، فتتكون صورة سلبية أو ما اصطُلح على تسميته بـ"النيغاتيف". أما في مجال الرقائق الإلكترونية، فالعملية أكثر تعقيداً. تُغطى شريحة السليكون بمادة حساسة للضوء ثم تتعرض للأشعة فوق البنفسجية لينطبع فوقها تصميم الرقاقة.

بدايات عصر الرقائق الإلكترونية بخمسينيات القرن الماضي، لم يكن هناك حاجة لهذه الماكينات شديدة الدقة. كان يمكن للمهندس أن يرسم تصميم الرقاقة بالورقة والقلم، ثم يصغره ويطبعه على شريحة السليكون. أما اليوم، فالهاتف الذكي قد يحوي داخله عشرات المليارات من المحولات. من هنا، أصبحت دقة ماكينات الطباعة على الرقائق أحد المفاتيح الرئيسية لأي تقدم تكنولوجي ممكن في مجال تصنيع الرقائق الإلكترونية، التي هي بدورها أساس أي تقدم في تصنيع المكونات الإلكترونية في كل شيء، من ألعاب الأطفال للغواصات النووية.

لذلك، صارت هذه التقنية التي كانت مهمشة قديماً، في قلب الصراع الجيوسياسي بين كبرى دول العالم اليوم.

اقرأ أيضاً: أميركا تمنع "ASML" الهولندية من توريد معدات إلى الصين

لماذا تتميز "إيه إس إم إل" عن غيرها؟

كلما صار طول موجة الأشعة فوق البنفسجية المستخدمة في تصميم الرقائق أقصر، كلما زادت دقتها، ما يسمح بدوره بطباعة تصميم أكثر دقة. هناك عدة شركات تنتج آلات الليثوغرافي بتقنية الأشعة البنفسجية العميقة (DUV)، التي يصل طول موجتها بين 248 و193 نانومتراً. أما شركة "إيه إس إم إل" فهي الوحيدة في العالم التي تصنع آلات قادرة على الطباعة بتقنية الأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUV)، والتي يصل طول موجتها إلى 13.5 نانومتراً.

هذه الآلة الأسطورية التي تحتكر الشركة المعرفة التقنية المعقدة لإنتاجها، يزيد سعر الواحدة منها عن 150 مليون دولار، وتتكون من أكثر من 100 ألف مكون، ويتطلب شحنها 3 طائرات بوينغ، و40 حاوية شحن، و20 سيارة نقل ثقيل.

كيف استطاعت "إيه إس إم إل" أن تصل لهذه المكانة المتفردة؟

لسنوات طويلة، كانت الشركات اليابانية مثل "كانون" و"نيكون" رواد تصنيع ماكينات الطباعة الضوئية بالأشعة فوق البنفسجية، والموردين الرئيسيين لشركات تصنيع الرقائق الأميركية مثل "إنتل" (Intel). وكان تقدمهم التكنولوجي في السبعينيات والثمانينيات شهادة نجاح للسياسات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية بفوائد التحالف مع اليابان وضمان تحييدها عن المعسكر الشرقي.

وعلى الهامش، دخلت "فيليبس" الهولندية في تحالف مع شركة لآلات تصنيع الرقائق، وأنشأتا شركة (ASM Lithography) عام 1984، آملين في اقتطاع جزء من كعكة صناعة الرقائق التي يزداد حجمها يوماً بعد يوم. بحلول 1988، نمت الشركة إلى أكثر من 100 موظف، وخرجت من تحت عباءة "فيليبس" إلى مقرها الخاص في فيلدهوفن. عام 1995، أًدرجت الشركة في البورصة الهولندية واستخدمت أموال الطرح لتمويل أبحاث التطوير. أما "فيليبس" فقد باعت نصف أسهمها في الشركة وقت الطرح، ثم تخارجت من الشركة تدريجياً ببيع أسهمها الباقية على مدار عدة سنوات.

أميركا تشدد قيود حصول الصين على تكنولوجيا الرقائق المتقدمة

لم تظهر الحاجة لآلات أكثر دقة تستخدم تقنية الأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUV) إلا في تسعينيات القرن الماضي. في هذه الحقبة دخلت أميركا في نزاع تجاري ممتد مع اليابان، متهمة إياها بالتلاعب في قيمة الين واتباع سياسات تجارية عدائية تعطي لشركاتها أفضلية ومزايا غير عادلة.

ولما كان تطوير هذا النوع من أجهزة الليثوغرافي يتطلب إنفاق مئات الملايين من الدولارات وسنوات من البحث والتطوير، رفضت الحكومة الأميركية الضلوع في مساندة أو تمويل أي أبحاث قد تستفيد منها الشركات اليابانية. هنا اتجهت الأنظار إلى "إيه إس إم إل"، الشريك المثالي وقتها. من ناحية، لم تكن الشركة محسوبة على المعسكر الشرقي للحرب الباردة، ولا حليفة لليابان، ومن ناحية أخرى لم تعد منافساً حقيقياً للشركات الأميركية.

أكبر صانع أوروبي يستبعد تأثير محاصرة صناعة الرقائق الصينية على أرباح 2023

تميزت "إيه إس إم إل" أيضا بمرونتها وانفتاحها على التعاون والدخول في شراكات استراتيجية. في حين كان صناع آلات الليثوغرافي يتسابقون على تصميم وتنفيذ عشرات الآلاف من المكونات التي تدخل في تصنيع الآلات. استعارت "إيه إس إم إل" تقينات شركات أخرى، فتعاونت مثلاً مع عملاق البصريات الألماني (Zeiss) لإنتاج العدسات شديدة الدقة المطلوبة لتوجيه الأشعة فوق البنفسجية.

بحلول عام 2010، شحنت "إيه إس إم إل" أول نموذج لآلة تصوير ضوئي بتقنية الـ(EUV)، وفي 2016 بدأت انطلاقة الشركة الحقيقة، مع الطلب التجاري على هذه الآلات. اليوم، تتجاوز القيمة السوقية للشركة 270 مليار دولار، وتمتد عملياتها في 60 موقعاً بـ16 دولة.

حصة أجهزة EUV من إجمالي إيرادات شركة إي إس إم إل
حصة أجهزة EUV من إجمالي إيرادات شركة إي إس إم إل المصدر: الشرق

ما مستقبل "إيه إس إم إل" وسط المنافسة بين الصين وأميركا؟

عام 2018، سمحت الحكومة الهولندية لشركة "إيه إس إم إل" بتصدير بعض آلاتها الأكثر تطوراً إلى الصين، وعندها أدركت الولايات المتحدة أن السيطرة على هذه التقنية خطوة رئيسية لضمان تفوقها التكنولوجي. مارست إدارة ترمب ضغوطاً كبيراً من أجل منع إتمام الصفقة، واستمرت إدارة بايدن على نفس النهج.

وقع بايدن في أغسطس 2023 قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، الذي يهدف لتوطين صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية داخل أميركا، وقدم عشرات المليارات من الدولارات في صورة تسهيلات ضريبية ومزايا لشركات تصنيع الرقاقات حول العالم كي تتوسع وتبني مصانع جديدة لها في أميركا، بشرط تقييد وصول تقنياتها إلى الصين.

يأتي القرار الأخير بمنع تصدير آلات الـ(EUV) للصين كآخر حلقات المواجهة بين الصين وأميركا. وفي حين لم يتضح بالضبط عدد الآلات وطرزها التي تصدرها الشركة للصين، إلا أن أسهمها تأثرت لحظياً بهذا القرار، وقدر بعض محللي بلومبرغ أن مبيعات الشركة ستتراجع في حدود 5% خلال 2024، وقد تظل إيراداتها مساوية للعام 2023 عند 27 مليار دولار، كما قد يتراجع الطلب على آلات الـ(DUV) التي تنتجها.

لكن المحللين متفقون على أن تأثير العقوبات الأميركية ضد الصين على أداء الشركة لن يطول، كما أن بياناتها تكشف عن مشاريع تحت التنفيذ بقيمة 35 مليار يورو (نحو 38 ملياراً و100 مليون دولار). صناعة الرقائق الإلكترونية شديدة التركيز، وعدد المتنافسين فيها محدود، فأكثر من 60% من إيرادات "إيه إس إم إل" تأتي من 3 مشترين فقط لمنتجاتها، وهم (TSMC) التايوانية، و"سامسونغ" الكورية، و"إنتل" الأميركية. وستظل "إيه إس إم إل" بلا منافس حقيقي في تقنية الـ(EUV) لهؤلاء المشترين لسنوات طويلة مقبلة.

بحسب بحث لـ"بلومبرغ"، فزيادة عدد المحولات داخل الرقاقة الإلكترونية سيظل عنصراً مهماً في تطور الإلكترونيات على مدار الخمس عشرة سنة المقبلة. وفي حين أن عوائد هذا التصغير متناقصة مع وصوله لحدوده القصوى، إلا أنه سيظل عنصراً مهماً في زيادة كفاءة استهلاك الأجهزة الإلكترونية للطاقة، وتقليل تكلفة إنتاجها وزيادة كفاءتها.

لذلك يتوقع المحللون أن يتضاعف ثمن الجيل القادم من آلات "إيه إس إم إل"، وأن تنجح الشركة في 2025 بتحقيق هامش ربح إجمالي بين 54% إلى 56%، وهامش ربح تشغيلي بين 36% إلى 38%.أما الصين، فيقدّر الخبراء أنها قد تحتاج لعقد من الزمان، وعشرات المليارات من الدولارات، كي تطور آلاتها الخاصة بالطباعة بالـ(EUV). ولحين وصول الصين لهذه التقنية، ستكون "إيه إس إم إل" قد سبقتها بخطوات عديدة.