برنامج بوتين النووي الفضائي "جنوني" ولكنه فرصة

شبح التصعيد النووي في الفضاء قد يوحد جبهة واشنطن وبكين ضد الرئيس الروسي

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المصدر: بلومبرغ
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي، عن أفضل صورة لوجهه الخالي من التعابير والذي اكتسبه أيام عمله في جهاز الاستخبارات السوفييتية، عندما وقف إلى جانب وزير دفاعه المداهن، وفعل ما اعتاد أن يفعله قبل أن يرتكب أي فظاعة جديدة. وقال بوتين: "لقد كنا دائماً ضد نشر الأسلحة النووية في الفضاء، ونعارض هذا بشكل قاطع الآن".

هذا التصريح جعلني أستعيد ذكريات فبراير 2022، عندما نفى بوتين تماماً وجود أي نية لمهاجمة أوكرانيا، ثم شن الغزو عليها بعدها بأسبوع.

ومن جديد كان لدى جواسيس أميركا معلومات مناقضة لما يصرح به بوتين. وتأكيداً لما تسرب بالفعل من الكونغرس، أخبروا الحلفاء أن بوتين قد يطلق هذا العام جهازاً نووياً في أحد المدارات، والذي يدور فيه نحو 7800 قمر اصطناعي حول الأرض في سحابة نفايات فضائية ناتجة عن حطام الأقمار القديمة، تتزايد يوماً بعد يوم.

تسلح روسيا نووياً في الفضاء

السؤال الأول والأكثر إثارة للحيرة هو: لماذا قد يفعل بوتين مثل هذا التصرف الذي لا معنى له؟ وأعني بذلك أنه قرار عبثي من وجهة نظر المصالح الاستراتيجية لروسيا. فإذا أراد الرئيس الروسي تدمير قمر اصطناعي تابع للعدو؛ لديه بالفعل الكثير من الخيارات، كما تفعل الولايات المتحدة والصين والهند وجميع القوى الأخرى التي لديها مثل هذه المعدات في المدار.

فعلى سبيل المثال، يمكن لبوتين تنفيذ ما يُسمى بـ"القتل الحركي"، عبر إطلاق صاروخ -أو حتى قمر اصطناعي آخر- في مسار الهدف الذي يدور حول الأرض بسرعة 18 ألف ميل في الساعة، بسرعة كافية لسحق الجسمين، حسبما يوضح عالم الفيزياء الفلكية نيل ديغراس تايسون.

كما يمكنه أيضاً استخدام الليزر أو التشويش الكهرومغناطيسي، أو إطلاق صواريخ "الصعود المباشر" من الأرض؛ واختبرت روسيا مثل هذه الضربة على أحد أقمارها الاصطناعية عام 2021.

الولايات المتحدة تغيّر استراتيجيتها

ولأن إسقاط الأقمار الاصطناعية أمر في غاية السهولة كما هو متعارف عليه، غيرت الولايات المتحدة استراتيجيتها في الفضاء بالفعل. وكما قال أحد الجنرالات في سلاح الجو الأميركي، فإن البنتاغون أصبح يطلق عدداً أقل من الأقمار الكبيرة والمكلفة "التي تكون أهدافاً مغرية" للأعداء، ويعوض ذلك بإرسال مجموعات كبيرة من الأجهزة الصغيرة رخيصة الثمن، بحيث إنه حتى لو تم القضاء على مجموعة منها، تواصل البقية العمل.

اقرأ أيضاً: لماذا تعتمد أميركا وأوروبا على الوقود النووي الروسي حتى الآن؟

وتشبه هذه الاستراتيجية الفكرة التي ألهمت "تقنية تبديل الحزم" في ستينيات القرن العشرين، ومن ثم ظهور الإنترنت كتكنولوجيا اتصالات غير مركزية ومصممة للنجاة من أي هجوم نووي.

دوافع غير منطقية

أسمعك الآن وأنت تقول: نعم لا بد أن الأمر كذلك فعلاً، وإن بوتين يريد سلاحاً نووياً في الفضاء حتى يتمكن من تفجير جميع الأقمار الاصطناعية في مدار معين، وهو ما يعادل قصف شبكة الإنترنت الأرضية بأكملها بالأسلحة النووية.

لكن هذا لا يزال غير منطقي، إذ يمكن لروسيا والولايات المتحدة والصين والقوى الأخرى التي تمتلك صواريخ عابرة للقارات ورؤوساً حربية ذرية أن تشن بالفعل هجوماً نووياً في الفضاء من الأرض (من دون الحاجة لإطلاقه من الفضاء).

اقرأ أيضاً: شركة نووية روسية لا تستطيع أوروبا العيش بدونها.. فما قصتها؟

علاوة على ذلك، فإن بوتين لن يستطيع تركيز هجومه فقط على الأقمار الاصطناعية الأميركية العسكرية والتجارية التي من المفترض أنه يستهدفها، وإنما سيفجر معها أقمار روسيا كذلك، بما فيها الأقمار المصممة لتحذيره من الضربات الصاروخية الأميركية القادمة. كما سيدمر معها كل الأقمار الصينية، مما يهدد شراكته فائقة الأهمية مع بكين. وسيدمر الأصول المملوكة للهند ودول أخرى كذلك. كل هذا سيؤدي بالتأكيد إلى اندلاع فوضى عالمية، وقد يكون هذا هو هدفه من وراء ذلك أساساً. لكن في هذه الحالة سيقلب العالم كله ضده، وبالتالي فهو أمر مستبعد.

التلاعب النفسي بالأعداء

لكنه ربما يتخذ هذه الخطوة بغرض التلاعب النفسي أكثر من حسابها على أساس استراتيجي، بحيث يبرهن للعالم مرة أخرى على عدم وجود نظام. ومن خلال وضع سلاح نووي في الفضاء، ينتهك بوتين معاهدة الفضاء الخارجي متعددة الأطراف، التي وقعت عليها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في عام 1967 جنباً إلى جنب مع مجموعة من الدول الأخرى، وذلك بعدما اختبرت واشنطن وموسكو أسلحة نووية في الفضاء، وأدركتا أنها فكرة سيئة.

وحالياً يبلغ عدد الموقعين على المعاهدة 114 شخصاً، وتنص على أنه "لا يجوز للدول وضع الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل في المدارات الفضائية أو على الأجرام السماوية" من بين أمور أخرى.

ومن خلال انتهاك المعاهدة بهذه الوقاحة، سيواصل بوتين عادته في عدم احترام المعاهدات والقانون الدولي، أو "النظام الدولي القائم على القواعد"، كما يفضل الدبلوماسيون الأميركيون وصفه.

انتهاك روسيا للاتفاقيات الدولية

في السنوات الأخيرة، انتهك بوتين اتفاقاً ثنائياً مع الولايات المتحدة لحظر صواريخ معينة، مما دفع واشنطن إلى الانسحاب. وخلال العام الماضي، قام بتعليق معاهدة "نيو ستارت"، وهي آخر اتفاقية نووية متبقية بين موسكو وواشنطن. ثم ألغى التصديق على معاهدة "حظر التجارب النووية متعددة الأطراف".

اقرأ المزيد: بوتين يلغي التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية

في الوقت نفسه، كسر بوتين الخطوط الحمراء النووية الأخرى من خلال إرسال تهديدات مبطنة بأنه قد يستخدم أسلحة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا أو حتى دول حلف شمال الأطلسي (ناتو).

كما واصل تطوير أسلحة "غريبة" مثل الطوربيدات النووية العابرة للقارات تحت سطح البحر. ووضع بعض الرؤوس الحربية في بيلاروس، وهي دولة تابعة بحكم الأمر الواقع لروسيا وحلف شمال الأطلسي.

استفزازات متكررة

تشبه حركة وضع بعض الرؤوس النووية الاستفزازية في بيلاروس جزئياً فكرة نشر بوتين لأسلحة نووية في الفضاء، حيث لم يكن لكليهما أي معنى استراتيجي. فروسيا قادرة بالفعل على الوصول إلى أوروبا الغربية من عندها، والدولة تمتلك صواريخ وربما رؤوساً حربية بمقدورها عمل ذلك، ومتمركزة في مدينة كالينينغراد الروسية المنعزلة عن حدود الدولة الرسمية، حيث تقع بين بولندا وليتوانيا العضوين في حلف شمال الأطلسي.

لذا فإن نقل الرؤوس الحربية إلى بيلاروس لا يجعل الخوف من ترسانة بوتين النووية أكبر، لكن ربما يكون المقصود من وراءه هو جعل الجميع أكثر توتراً.

اقرأ أيضاً: تركيا وروسيا تسويان نزاعاً نووياً بعودة الشركة التركية للمشروع

لعبة الروليت الروسية النفسية هذه خطيرة للغاية. وكلما زاد تصعيد بوتين شفهياً وتقنياً؛ كلما زاد توتر البنتاغون وجميع القوى الأخرى، حتى تلك المحايدة اسمياً، حيث يزداد خطر وقوع سوء تقدير بشري، أو حوادث مفاجئة. ونحن في غنى تام عن وجود سلاح نووي يدور حولنا إلى أجل غير مسمى، ويشق طريقه عبر كل تلك النفايات الفضائية.

تقارب دبلوماسي

لكن على الجانب الآخر، ولأن الأمر جنوني للغاية، فإن خطوة بوتين بشأن إطلاق سلاح نووي فضائي قد تمنح الرئيس الأميركي جو بايدن، فرصة دبلوماسية. فبايدن يعتبر أن أكبر منافس لأميركا على المدى الطويل هو الصين، وليس روسيا. ويعمل الرئيس الصيني شي جين بينغ، من الناحية الأخرى على بناء علاقات "صداقة" غير سلسة مع بوتين، وذلك في الأساس لتوسيع الجبهة الجيوسياسية ضد الولايات المتحدة.

لكن شي لم يتلق تحذيراً ولم يكن سعيداً بشأن غزو بوتين لأوكرانيا، كما أنه لا يرغب في اندلاع فوضى عالمية. ولن يرضى بالتأكيد عن فقدان كل أقمار الصين الاصطناعية بسبب انفجار روسي. وبالتالي قد يكون شبح التصعيد النووي الروسي في الفضاء سبباً يدفع بايدن وشي لتوحيد جبهتهما في كبح وردع بوتين، الذي لا يستطيع تحمل خسارة الدعم الصيني. وإذا عزز ذلك الثقة بين واشنطن وبكين، سيكون هذا أفضل وأفضل.

تعاون عالمي أكبر

في غضون ذلك، قد يؤدي هذا إلى تعاون الولايات المتحدة والصين مجدداً في تحجيم كوريا الشمالية، وخفض انبعاثات الكربون، وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، ودعم الملف الدولي الأحدث الخاص بتنظيم الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن إطلاق محادثات جديدة للحد من انتشار الأسلحة في هذا الصدد، بحيث تضم طاولة المفاوضات هذه المرة الولايات المتحدة وروسيا إلى جانب الصين. لكن لا داعي لوضع أهداف كبيرة جداً حالياً، فإيقاف الجنون في الفضاء الخارجي سيكون كافياً.

لقد اعتدى بوتين على كرامة ونظام وإنسانية وعقلانية العالم بما فيه الكفاية. والآن بات الأمر متروكاً للولايات المتحدة والصين لضمان عدم تسلح بوتين نووياً في الفضاء.