الاعتماد على أميركا لدفع النمو العالمي ينطوي على مخاطر

قوة الاقتصاد الأميركي كانت كافية لدرء تباطؤ عالمي أعمق ولدفع صندوق النقد لرفع توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تشهد الولايات المتحدة وفرة في الوظائف، ويشعر المستهلكون بالثقة، لذا يتجهون للإنفاق، بالتوازي مع ذلك ارتفعت الأسهم إلى مستوى قياسي في فبراير، والدولار قوي. نما الاقتصاد الأميركي خلال العام الماضي بأكثر من حجم اقتصادات إسبانيا أو إندونيسيا، منهياً 2023 بأسرع مكاسب لفصول متتالية منذ 2021. لكن الاعتماد على الولايات المتحدة لدفع النمو العالمي يشكل مخاطر للدول الأخرى، وللولايات المتحدة ذاتها.

ما تزال الصين متعثرة بسبب تباطؤ القطاع العقاري، كما فرّ مستثمرون من البلاد وسط الهبوط الذي شهدته سوق الأسهم، والذي شطب 7 تريليونات دولار من قيمتها بعدما بلغت أعلى مستوياتها في مطلع 2021. تراجعت الأسعار على مدى ثلاثة فصول متتالية، وهي أطول فترة متتالية من انكماش الأسعار منذ الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات.

في أوروبا، دخلت المملكة المتحدة في ركود طفيف في النصف الثاني من 2023، كما أن اقتصاد ألمانيا عرضة للانكماش مجدداً في 2024، ما قد يؤثر سلباً على بقية منطقة اليورو. أما اليابان، فقد دخلت في ركود مفاجئ العام الماضي. قال مارك زاندي، كبير اقتصاديي "موديز أناليتكس" (Moody’s Analytics) إن الاقتصاد الأميركي "سيواصل تفوقه على اقتصادات الدول في معظم أنحاء العالم هذا العام، وخصوصاً الصين وأوروبا".

مركز تجاري شبه خاوٍ في شينجن، الصين خلال الصيف الماضي
مركز تجاري شبه خاوٍ في شينجن، الصين خلال الصيف الماضي المصدر: بلومبرغ

قوة الاقتصاد الأميركي

كانت قوة اقتصاد الولايات المتحدة كافية لدرء تباطؤ عالمي أعمق، كما كانت جزئياً ما دفع صندوق النقد الدولي في 30 يناير لرفع توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي لهذا العام إلى 3.1% بعدما كانت 2.9% في أكتوبر.

ما يزال تقدم مسعى خفض التضخم متقطعاً، إذ قفزت أسعار المستهلكين في بداية العام، فعرقلت الزخم الناشئ في انحسار التضخم، وأحبطت المستثمرين الذين كانوا يأملون بأن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة قريباً.

تساهم أسعار الفائدة الأميركية الأعلى في إبقاء تكاليف الاقتراض مرتفعة حول العالم. يمثل ذلك الأمر مشكلة على نحو خاص للاقتصادات الناشئة التي اقترضت بالدولار، خصوصاً أن آمال خفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة في وقت مبكر مهدت الطريق أمام المصارف المركزية في الاقتصادات الناشئة لتبدأ في خفض تكاليف الاقتراض. وعلى سبيل المثال، افتتحت سندات الدين المحلي في أميركا الجنوبية العام الجاري بأفضل موجة صعود منذ 2009، مدفوعة بخفض الفائدة في تشيلي والبرازيل.

اقرأ أيضاً: معضلة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أمر جيد

يدعم الاقتصاد الأميركي النشط أيضاً الدولار القوي. وارتفع أحد مقاييس بلومبرغ لقوة الدولار نحو 11% منذ نهاية 2020، رغم تراجعه بشكل طفيف العام الماضي. يمثل ارتفاع الدولار 2.6% في 2024 أفضل بداية سنة منذ 2015. كما بيّن تحليل من صندوق النقد الدولي العام الماضي، أن ارتفاع الدولار 10% يخفض نمو الاقتصادات الناشئة 1.9% بعد عام، ويضرّ بالتجارة، ومدى توافر الائتمان، وأداء سوق الأسهم.

علامات الضعف

إن استمرار قوة الاقتصاد الأميركي ليس أمراً مسلماً به، إذ يظهر بعض علامات الضعف فعلاً. تراجعت مستويات تفاؤل الشركات الصغيرة الشهر الماضي بأكبر نسبة خلال أكثر من عام، متأثرة بتدهور الأرباح وتراجع توقعات المبيعات، وفقاً للاتحاد الوطني للأعمال المستقلة.

كما أن الأميركيين لديهم ديون أكبر بسبب بطاقات الائتمان، ما يضغط على الأسر منخفضة الدخل على نحو خاص. وكان متوسط أسعار الفائدة على حسابات بطاقات الائتمان بالفائدة المقدّرة 22.75%، أي عند أعلى مستوى تقريباً في بيانات الاحتياطي الفيدرالي التي تعود إلى 1995، فيما كان متوسط سعر الفائدة على قروض السيارات لمدة 60 شهراً هو الأعلى في البيانات التي تعود إلى 2006.

اقرأ أيضاً: الحرب والمقاطعة وفوضى الشحن تهدد انتعاش الأسهم الأميركية

قال روبرت سوكين، محلل الاقتصاد العالمي الأول في "سيتي غروب" إن شروط الائتمان خضعت للتشديد بشكل ملحوظ، ومؤشرات الطلب على الائتمان ضعيفة".

تهديد آخر

هناك تهديد آخر يتمثل في مزيد من الضعف في اقتصادات الصين وأوروبا، ما قد يعرض الولايات المتحدة لصدمة تترك العالم من دون قائد للنمو. في 14 فبراير، حذّر أوستان غولسبي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، من الركون إلى التداعيات التي قد تطال الولايات المتحدة، إن حدث تحول نزولي عالمي أعمق أو صدمة جيوسياسية.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد الألماني ينكمش وسط تراجع الاستثمار في نهاية 2023

أوضح غولسبي أن الاقتصاد المحلي ليس الدافع الوحيد للاقتصاد الأميركي، محذراً من أن مزيداً من الضعف في الاقتصادات الكبرى الأخرى في العالم قد يكون له تداعيات كبيرة على الولايات المتحدة. قال غولسبي في فعالية عقدها مجلس العلاقات الخارجية إن "قناة الثقة في الأعمال والاستثمار المفاجئة حقيقية، وربما علينا أن ننظر إلى ما هو أكثر من مجرد الأثر على التجارة، ربما علينا أن ننظر إلى التأثير على الاستثمار".

رغم ذلك، تبدو الولايات المتحدة في الوقت الحالي عازمة على مواصلة دور الدولة صاحبة الأداء المتفوق في اقتصاد العالم. قال غابرييل مخلوف، العضو في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، في 14 فبراير إن "النظرة المستقبلية قصيرة الأمد لاقتصاد منطقة اليورو تشير إلى ركود، في وجه شروط تمويل أشد وضعف ثقة المستهلكين والشركات وانخفاض الطلب الأجنبي".

متسوقون في وولنَت كريك بولاية كاليفورنيا في أواخر العام الماضي
متسوقون في وولنَت كريك بولاية كاليفورنيا في أواخر العام الماضي المصدر: بلومبرغ

معنويات ضعيفة

بعبارة أخرى، كما بيّنت فريا بيميش، كبيرة اقتصاديي "تي إس لومبارد" (TS Lombard) فإن المعنويات في الصين وأوروبا تبقى ضعيفة، وقالت: "المعنويات ضعيفة في أوروبا، ولأسباب أخرى في الصين، فيما لم تستنفد المعنويات في الولايات المتحدة طاقتها بعد".

اقرأ أيضاً: ضعف المعنويات يهبط بأسهم الصين لأدنى مستوى في نحو 5 سنوات

تعني المدخرات الفائضة التي تراكمت في الولايات المتحدة خلال الجائحة، والدفعة التي حصلت عليها الأسر حديثاً من تراجع التضخم، أن تحسن القوة الشرائية يساهم في دفع الولايات المتحدة للأمام. التوقعات بخفض أسعار الفائدة في 2024 فيما يستجيب الاحتياطي الفيدرالي إلى اعتدال ضغوط التضخم، هي أحد أسباب أن كثير من من المحللين تراجعوا عن توقع انخفاض النمو الاقتصادي دون معدل 2% السائد هذا العام.

على سبيل المثال، أعلن الاقتصاديون في "دويتشه بنك" في 5 فبراير أنهم يتوقعون نمواً يبلغ 1.9% في الناتج المحلي الإجمالي وليس ركوداً.

في تحول أقل درامية بقليل، حدّثت "إس آند بي غلوبال ماركت إنتليجنس" (S&P Global Market Intelligence) في 6 فبراير توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 إلى 2.4% بعد أن كان 1.7%. يبين كل ذلك أن الولايات المتحدة تتمتع بالزخم هذا العام، وهو ما ألمح رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول إليه خلال مؤتمر صحفي في 31 يناير، إذ قال: "لنكن صريحين. إن هذا اقتصاد جيد".