ما الذي يجعل المدن الأميركية أقذر من نظيراتها عالمياً؟

تَكر كارلسون لم يجافِه الصواب كلياً حين تحدث عن تفوّق المدن الأجنبية على مدن الولايات المتحدة

بدأ التحسن يبدو في المدن الأميركية منذ الثمانينيات لكن هذه النهضة لم تعمها جميعاً
بدأ التحسن يبدو في المدن الأميركية منذ الثمانينيات لكن هذه النهضة لم تعمها جميعاً المصدر: بلومبرغ
Justin Fox
Justin Fox

Justin Fox is a Bloomberg Opinion columnist covering business. He was the editorial director of Harvard Business Review and wrote for Time, Fortune and American Banker. He is the author of “The Myth of the Rational Market.”

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم أر موسكو من قبل، لكنني سمعت أنها اكتسبت ألقاً خلال العقد الماضي وبضع من السنين التي سبقته، وقد نشرت بلومبرغ بزنيسويك تقريراً في 2017 بعنوان "موسكو تنفض عنها غبار الحقبة السوفيتية لتكتسي ببريق حضري). لكنني زرت كثيراً من مدن العالم المتقدم، وأشهد أنها تجنح لأن تكون أنظف وأكثر أماناً ولها بنية تحتية أفضل من المدن الأميركية.

لذا لن أنضم إلى جوقة المستهزئين بالإعلامي/الترفيهي تَكر كارلسون إثر تصريحه خلال مؤتمر في دبي في فبراير أن موسكو التي كان قد زارها حديثاً لأجل مقابلة مع رئيس روسيا فلاديمير بوتين "أجمل بكثير من أي مدينة في بلادي". ولكنني سأحاول الإجابة على أسئلته.

تحدث كارلسون عن موسكو، قائلاً: "إنها أنظف وأكثر أماناً وأحسن، سواء على الصعيد الجمالي أو المعماري أو من حيث الطعام أو الخدمات، من أي مدينة في الولايات المتحدة، لدرجة لا بدّ أن تسأل، ولا أعني ذلك من منطلق عقائدي، كيف حصل ذلك؟ كيف حصل ذلك؟"

أضاف: "زيارة موسكو تجربة ذات أثر عميق على المواطن الأميركي. لم أكن أعلم ذلك وقد اكتشفته هذا الأسبوع، وهو ينطبق أيضاً على زيارة سنغافورة وطوكيو ودبي وأبوظبي، لأن هذه المدن، وبغض النظر عن الطريقة التي قيل لنا إنها تدار بها، هي أماكن رائعة للعيش، فهي لا تعاني من تضخم متفلت، ولا ينتشر فيها خطر الاغتصاب. ما هذا؟"

دراسة: مدن الولايات المتحدة تعاني من انعدام عدالة توزيع الأشجار

دبي وأبوظبي من أكثر المدن أماناً

تعتري هذا التصريح مغالطات عديدة. فعلى الأرجح، الطعام في موسكو ليس أفضل من أي مدينة في الولايات المتحدة، أمّا التضخم الذي ألمّ بروسيا في السنوات الماضية فقد كان أسوأ بكثير مما كان في الولايات المتحدة. (وقد مرّت كلّ من سنغافورة والإمارات العربية المتحدة بموجات تضخم ولو أنها أخف قليلاً من تلك التي واجهتها الولايات المتحدة، أمّا اليابان فبعد عقود من الانكماش المتقطع، بلغ التضخم ذروته في العام الماضي عند معدل سنوي بلغ 4.3%). وتعدّ روسيا عموماً دولة فقيرة نسبياً، تعاني مشاكل ولا تستجلب حسد أحد في الولايات المتحدة.

مع ذلك، تتفوق عدّة مدن حول العالم على نظيراتها الأميركية من جوانب مختلفة تتعلق بجودة الحياة. على صعيد الجريمة، يختلف التعريف القانوني للاغتصاب كثيراً بين دولة وأخرى، ما يجعل المقارنة فيما بينها صعبةً، ولكن احتمال تعرضك للقتل يبدو أقل في موسكو مقارنة بأي من المدن الأميركية الكبرى (طالما أنك لا تنتقد بوتين)، وحتماً هو أقل بكثير في كلّ من سنغافورة وطوكيو ودبي وأبوظبي.

بالانتقال إلى البنية التحتية، فإن قائمة "سكايتراكس" (Skytrax) لتصنيف الركاب لأفضل 100 مطارات في العام تضمّ مطاراً أميركياً واحداً فقط ضمن المراتب الثلاثين الأولى، هو سياتل – تاكوما الذي يحتل المرتبة 18. ولو كان هناك من تصنيف مشابه لأنظمة النقل العام، أظن أن الولايات المتحدة كانت ستحتل مرتبة أدنى بكثير أيضاً. إلى ذلك، زرت مدينة مكسيكو قبل بضعة أسابيع، ووجدت شوارعها أنظف بكثير من الحيّ الذي أقطنه في نيويورك.

إذاً... ما هذا؟ وكيف حصل؟

تراجع منذ عقود

أولاً، لم يحصل ذلك بين ليلة وضحاها. فالتذمر من الأداء السيئ للمدن الأميركية وأنظمة النقل فيها بالمقارنة مع المنافسة الخارجية يستحوذ على جزء أساسي من الخطاب الجيوسياسي منذ عقود. وفيما تأتي مقتطفات من وصف كلاسيكي لخبير الاستراتيجية إدوارد لوتواك يعود إلى عام 1992، ويتحدث فيه عمّا يختبره المسافر عند وصوله إلى مطار جون إف. كنيدي "المعتم" و"المتهالك".

لقد قال: "إذا كان المسافر متجهاً إلى فندق في مانهاتن، يمكنه الاختيار بين حافلة قذرة ومتداعية وربما غير آمنة، وسيارة أجرة أقذر وأكثر تداعياً، يقودها عادةً سائق أرعن وأشعث، يشبه زملاءه في إسلام أباد وكنشاسا أكثر مما يشبه سائقي الأجرة في لندن وطوكيو، حيث شروط الترخيص صارمة وقواعد اللباس إلزامية. هنا يكون الزائر للمرة الأولى ما يزال يعتقد أن المطار وسيارة الأجرة استثناءات واضحة لأميركا التي كانت في ذهنه، النظيفة والحديثة وعالية الكفاءة، ولكن سرعان ما سيخيب أمله بعد الارتجاج الذي سيعيشه خلال الرحلة بالسيارة على طرق تعمها الحفر وجسور متهالكة، مجتازاً أميالاً من الأحياء الفقيرة أو المجمعات السكانية الحكومية المزرية".

رأى لوتواك أن هذه العلامات تدلّ على تردي المستوى الوطني، مرجحاً أن تصبح الولايات المتحدة "دولة عالم ثالث" بحلول العقد الثاني من الألفية. ولكن ذلك لم يحصل، ربما لأن أحداً ما عاد يستخدم مصطلح "عالم ثالث"، ولكن بشكل عام لأن الولايات المتحدة حققت مكاسب اقتصادية ضخمة بعد 1992 مقارنة باليابان وأوروبا الغربية، التي كان لوتواك يعتقد أنهما ستكونان الفائزتين في المستقبل.

شهد مطار جون كنيدي ومدينة نيويورك تحسينات منذ 1992. فبات بإمكانك التوجه إلى المدينة على متن قطار أو استقلال سيارة أجرة حالتها جيدة، أو طلب مركبات أفضل عبر "أوبر" أو "ليفت"، أمّا "الأحياء الفقيرة" التي تعبرها فربما تضمّ منازل سعر الواحد منها بضعة ملايين من الدولارات. ولكن ما تزال هناك حفر على الطرقات، ومجمعات سكنية حكومية رديئة الصيانة، أما المطار وخدمة النقل المتصلة به فما تزال درجتهما أدنى إذا نظرنا إليه كمطار عالمي.

إلا أن هذه الأمور لا تدلّ على تقهقر الولايات المتحدة، بقدر ما تؤشر إلى مقاربتنا الخاطئة للحوكمة الحضرية.

أحد العناصر الأساسية في هذه المقاربة هو مقت المدن. يحرم الناخبون في المدن الكبرى في الولايات المتحدة من التمثيل في مجلس الشيوخ الأميركي إلى حد أعتقد أنه لا يوجد مثيل له بين ديمقراطيات العالم، وقد تغلغل التحيز ضد المدن لفترة طويلة في السياسة الأميركية (كتب توماس جيفرسون في عام 1800: "أنا أعتقد أن المدن الكبرى ملوثة للأخلاق وللصحة وحريات الإنسان".

عداء للمدن وعنصرية

في القرن العشرين، فاقم النزوح الجماعي للريفيين السود الجنوبيين نحو مدن جنوب الولايات المتحدة وشمال شرقها والغرب الأوسط والغرب الأقصى من هذا الشعور المناهض للمدن، مدفوعاً بكمّ كبير من العنصرية. وقد أجج ظهور السيارات عاصفة الانحلال والدمار المدني. خسرت سانت لويس 54% من سكانها بين 1950 و1990، وبلغت التراجعات السكانية 45% في كليفلاند و44% في ديترويت و23% في كل من شيكاغو وفيلادلفيا. أمّا نيويورك التي عادت للنموّ سكانياً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فكانت قد خسرت 10% من قاطنيها بين الخمسينيات والثمانينيات. كانت هنالك محاولات لعكس هذه الموجة من خلال بناء الطرقات السريعة و"التجديد المُدني" الشرس، إلا أنها زادت من سوء الأوضاع.

وقد عانى من بقوا في المدن من الفقر أكثر من الذين غادروها. كما تفشت الجريمة العنيفة، حتى أن أحد الأفلام الأيقونية في 1981 تخيل مانهاتن المستقبلية (ما ستصبح عليه في عام 1997 بالتحديد) على أنها سجن ذو حراسة مشددة.

لكن هذا لم يحدث. على العكس، بدأت المدن الأميركية بالتعافي. ومن المؤشرات على ذلك أن أسعار المنازل الواقعة على بعد 15 كيلومتراً من وسط المدن أغلى من تلك الواقعة داخل المدينة في 1980، لكن هذه القاعدة انقلبت بحلول 2010. كما تراجعت معدلات الجريمة، وعادت بعض المدن القديمة لتسجيل النموّ، بل إن بعضها أصبحت مدناً ثرية ومنها سان فرانسيسكو وسياتل وواشنطن، وبحسب تقديرات 2022، بلغ متوسط دخل الأسرة 136692 دولاراً و115409 دولارات و101027 دولاراً في هذه المدن على التوالي، وكل ذلك أعلى من المعدل الوطني البالغ 74755 دولاراً.

أسعار عقارات الضواحي أكثر جاذبية من المدن في أمريكا

إخفاقات الحوكمة

إلا أن هذه النهضة لم تعمّ جميع المدن، إذ أن معدل دخل الأسرة في كلّ من كليفلاند وديترويت بقي دون المتوسط الوطني. وحتى المدن التي شهدت تحسناً، مرّت بعدة تقلبات.

بقيت المدارس الرسمية في المدن تتعثر حتى في المدن الثرية. وبعد أن استقطب قطاع النقل العام مزيداً من الركاب بين تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية، بدأ يفقدهم قبل نحو عقد، في زمن متاخم لتوقف انخفاض الجرائم في المدن.

مع ارتفاع أسعار المساكن، غادر مزيد من العمال منخفضي الأجور المدن، وزاد المتشردون في الشوارع. واستمر سكان نيويورك برمي القمامة في أكياس تتسرب منها الأوساخ على الأرصفة، وغير ذلك من الأمور. ثمّ حلّت الجائحة وفاقمت كل هذه المشاكل.

تجربة "الشوارع البطيئة" في أمريكا تُحْدِثُ تحولاً في تخطيط المدن

لا تفسر المشاعر المناهضة للمدن والعنصرية والسيارات وحدها مشاكل المدن المستمرة. فما يحدث هو أيضاً نتيجة إخفاقات الحوكمة الداخلية، ويبدو أن الحوكمة في المدن الثرية سيئة هي الأخرى. لعلّ ذلك يعود جزئياً لأنها تضم ناخبين مدنيين مثقفين وسياسيين يعطون الأولوية لإصلاح العالم بدل إصلاح الحفر على الطرقات، ولكن بالأساس يبدو أنه ولأسباب متعددة، أصبح البناء في المدن الكبرى أو التحسين والتغيير فيها صعباً ومكلفاً جداً.

مع ذلك، ربما تكون الحاجة للتغيير الفوري هنا أكبر من الدول الأخرى لأن العمل من المنزل أصبح متجذراً في الولايات المتحدة أكثر من أي مكان آخر، ولأن المدن الأميركية تميل لتكون متمركزة بشكل خاص حول المكاتب.

هذه إذاً أجوبتي على أسئلة كارلسون. لست متأكداً من أنها أجوبة صحيحة أو كاملة، ولكنني متأكد أنها أفضل من تبرير كارلسون المتكاسل الذي ألمح له في دبي، وهو أن جو بايدن هو سبب كلّ ذلك. وأنا متأكد أيضاً أنني أفضّل العيش في نيويورك أكثر من موسكو وسنغافورة ودبي وأبوظبي، ولكنني قد أكون منفتحاً على العيش في طوكيو.