عودة ترمب المحتملة لا تقلق اليابان

طوكيو تسعى للاستقلال الأمني بزيادة الإنفاق العسكري وبناء روابط دفاعية بمنطقة المحيطين الهندي والهادي

شينزو آبي لم يعد موجوداً لتطويع ترمب
شينزو آبي لم يعد موجوداً لتطويع ترمب المصدر: بلومبرغ
Hal Brands
Hal Brands

Prof JHU-SAIS, scholar AEI, Bloomberg Opinion columnist. https://bloomberg.com/opinion Co-author of The Lessons of Tragedy.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

مع اقتراب دونالد ترمب من الفوز بترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية، تتأهب الدول جميعها لما قد تعنيه عودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض. غير أن قلة منها تولي اهتماماً بهذه الانتخابات أكثر من اليابان، التي تسعى منذ فترة طويلة لضمان أمنها من خلال التحالف مع الولايات المتحدة في ظل وجودها في منطقة ملتهبة.

ستشكل عودة ترمب، كما علمت من أوساط السياسة الخارجية خلال رحلتي الأخيرة إلى اليابان، تحديات حقيقية بدايةً من صعوبة العثور على قائد يمكنه إقامة علاقات طيبة معه مثلما فعل رئيس الوزراء السابق شينزو آبي، إلى الطرق التي قد يعقّد بها تبني أميركا لسياسة أكثر أحادية وتقلباً قضايا حيوية بالنسبة للدبلوماسية الإقليمية.

مع ذلك، ليس بالضرورة أن تتمخض استعادة ترمب للسلطة عن تغيير عنيف يعصف بطوكيو. كما أنها لن تغير سياسة خارجية تجعل اليابان دولة لا غنى عنها للاستقرار في آسيا ومختلف أنحاء العالم.

تجدر الإشارة إلى أن فترة رئاسة ترمب الأولى مرت بسلام نسبي على اليابان. لكن لا شك أن تصرفات الرئيس السابق، التي تراوحت بين الاستخفاف بتحالفات الولايات المتحدة والتخلي عن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي والتأرجح بين المواجهة والاسترضاء في مواقفه مع كوريا الشمالية وتعامله مع الحكام المستبدين حول العالم، أضرت في كثير من الأحيان بالعلاقات السياسية مع الدول الأخرى أو سببت التباساً على أقل تقدير. كما تسرب التوتر إلى التحالف الأميركي-الياباني بسبب القضايا المتعلقة بالتجارة وتقاسم الأعباء.

قوة اليابان العسكرية الجديدة تصعد من أحد مصانع هيروشيما

لكن بفضل آبي، الذي برع في الابتعاد عن جانب ترمب السيئ، تجنبت طوكيو ثورات غضب ترمب وانفجاراته التي أزعجت حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا. كما أبقى آبي النسخة المعدلة من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي قائمة بمشاركة 11 دولة بعد انسحاب الولايات المتحدة.

بل أكثر من ذلك، دفع رئيس الوزراء الياباني المخضرم إدارة ترمب لتبني اثنتين من مبادراته الرئيسية ركيزة لاستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، والمتعلقتين بمفهوم "منطقة محيط هادي حرة ومفتوحة" وإعادة تنشيط تحالف "ماسة الأمن الديمقراطي" الرباعي بين أميركا واليابان وأستراليا والهند.

تأهب حذر

لكن الخبرة تغذي التوقعات. بالتأكيد، لن يكون فوز ترمب بفترة رئاسية ثانية أمراً مريحاً لليابان، حيث سيجدد إحياء سياسة "أميركا أولا" الانعزالية الجديدة الشكوك الجوهرية حيال القيادة الأميركية. غير أن المحرك الرئيسي لترسيخ العلاقات الأميركية-اليابانية، المتمثل في زيادة حدة المنافسة مع الصين، سيظل قائماً مهما حدث في نوفمبر.

وفي فترة ثانية لترمب، سيسعى القادة اليابانيون جاهدين من جديد إلى تجنب إثارة حفيظة رجل يشخصن السياسات على نحو غير مسبوق. كما يعد أهم أسباب عدم تخوف طوكيو من حدوث هذا السيناريو هو أن مسارات السياسة اليابانية الرئيسية ستمضي قدماً بغض النظر عمن يفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة.

وعلى الصعيد الدفاعي، تعتزم اليابان زيادة إنفاقها في هذا المجال إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بعد إبقائها لعقود السقف المفروض ذاتياً عند 1%. (اليابان في طريقها لتصبح ثالث أكبر ميزانية دفاعية على مستوى العالم بحلول 2027). كما تسعى قوات الدفاع الذاتي اليابانية لامتلاك صواريخ بعيدة المدى وزيادة تحصين سلسلة جزر ريوكيو الاستراتيجية.

كما تعمل اليابان على تعزيز العلاقات الدفاعية والدبلوماسية مع العديد من الجهات الفاعلة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مثل كوريا الجنوبية والفلبين والهند وأستراليا وغيرها، فيما تنسق عن كثب مع واشنطن بشأن سلاسل توريد التقنيات الفائقة والتواصل مع بلدان الجنوب العالمي. وانحازت طوكيو بقوة أيضاً إلى أوكرانيا منذ 2022 على الرغم من المخاطر التي تهدد علاقاتها مع روسيا، تلك القوة العظمى الاستبدادية المجاورة بحجم قارة شاسعة، التي يتعين على اليابان التعامل معها دائماً.

وإذا أبقت واشنطن على مشاركتها والتزامها إزاء القضايا العالمية، فإن تحول اليابان من شأنه أن يجعلها حليفاً أقوى وأكثر قيمة للولايات المتحدة. بالمقابل، إذا تخلت أميركا عن عملها الدؤوب في الحفاظ على النظام العالمي، سواء في عهد ترمب أو رئيس آخر، فإن هذه الإصلاحات من شأنها تقليل المسافة التي على طوكيو أن تقطعها للاعتماد على نفسها اعتماداً كاملاً.

أبرز التحديات

بالطبع، سينطوي فوز ترمب على تحديات، وقد عبر محللون يابانيون عن ثلاثة من المخاوف الرئيسية في هذا الصدد.

أولاً، سيكون التعامل مع ترمب أصعب هذه المرة لأن آبي، الذي جعلته شخصيته الطاغية ومكانته السياسية نداً مناسباً لترمب، استقال من منصب رئيس الوزراء في 2020، قبل اغتياله في 2022. وربما لن يحيط ترمب نفسه بمستشارين مخضرمين يكبحون جماحه خلال فترته الرئاسية الثانية، ما سيصعب إدارة العلاقات بين البلدين بشكل يومي.

كيف سيكون اقتصاد الولايات المتحدة إن عاد ترمب رئيساً؟

ثانياً، قد تخسر الولايات المتحدة واليابان القوة الدافعة اللازمة لبناء تحالفهما. ربما لن يدمر ترمب التحالف الثنائي، لكن بالنظر إلى نزعاته الأحادية وازدرائه للعمل الدبلوماسي الجاد، فمن المؤكد أنه لن يكون مؤثراً للغاية في تنمية التحالفات الأكبر القادرة على كبح القوة الصينية مثل حوار الأمن الرباعي "كواد" (QUAD) و اتفاقية "أوكوس" (AUKUS) الأمنية والتحالف الثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، وغيرها من التحالفات. قد تبقى العلاقات الإقليمية الرئيسية على حالها دون تغيير، أو ربما تنتكس بينما تمضي الصين قدماً في مساعيها نحو الهيمنة.

ثالثاً، ستتطلب السنوات المقبلة الانضباط والحذر، بالإضافة إلى الردع. يكفي أن نقول إن تلك الصفات لم تكن يوماً أقوى خصال ترمب.

يدرك المسؤولون في واشنطن وطوكيو أن عليهم تعزيز موقفهم الدفاعي بصورة عاجلة، فضلاً عن حث تايوان، الهدف الأكثر ترجيحاً لبكين، على تعزيز موقفها الدفاعي سريعاً. لكن مع وصول الرئيس التايواني الجديد، لاي تشينغ تي، الذي لا يروق للصين، إلى السلطة، يتعين على الولايات المتحدة أيضاً تجنب العثرات الخطابية أو الدبلوماسية التي من شأنها مفاقمة التوتر بلا داعٍ. قد يفشل ترمب، الذي يميل إلى البوح بآرائه دون تفكير والذي يعتبر على ما يبدو تايوان ورقة مساومة أكثر منها شريكاً استراتيجياً، في تحقيق هذا التوازن بشكلٍ صحيح.

تترد مقولة شائعة في طوكيو، وغيرها من العواصم الحليفة، مفادها أن هامش الخطأ الدبلوماسي يتقلص مع تزايد المخاطر التي تهدد السلام والاستقرار الدوليين. مع ذلك، ستستمر الثورة الهادئة في السياسة الخارجية اليابانية بغض النظر عما قد يحدث في الانتخابات الأميركية المقبلة. في الواقع، إذا نجح ترمب في العودة إلى البيت الأبيض، ستصبح القوة اليابانية أكثر أهمية بالنسبة لمصير العالم الحر.