نقص السباكين يضر بالاقتصاد الأميركي

ينفر الشباب من مهنة السباكة لمشقتها وقذارتها رغم دخلها الجيد

جان بوسكو نشيميمانا طالب سباكة في مدرسة آن أروندل المجتمعية في أرنولد، ميريلاند
جان بوسكو نشيميمانا طالب سباكة في مدرسة آن أروندل المجتمعية في أرنولد، ميريلاند المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تزين نسخ من براءات اختراع شكلت تحولات في مهنة السباكة، أروقة المدرسة المهنية في فرع نقابة السباكين وعمال صيانة أنابيب الغاز بمدينة لانهام في ماريلاند، منها مفتاح لربط صواميل الأنابيب الذي تعود براءة اختراعه لعام 1888، ومقص أنابيب سُجلت براءة اختراعه في 1945. تُعرض هناك أيضاً نسخة عن ملصق قديم لصورة سباك في ملابس العمل يحمل مفتاح ربط يقف بشموخ وسط جمهور من المعجبين، وقد جاءت تحت الصورة عبارة "السباك يحمي صحة الأمة".

أجر جيد

يهدف هذا الديكور إلى تدعيم الرسالة التي ترغب المدرسة بإيصالها إلى المتدربين، وهي أن مهنة السباكة صمدت في وجه الزمن، وتقدم فرص عمل وفيرة. بيّن المكتب الأميركي لإحصاءات العمالة أن عدد الوظائف التي سيقدمها قطاع السباكة وتركيب وصيانة الأنابيب سيبلغ نحو 42600 وظيفة سنوياً، كما أنها تدرّ دخلاً لا بأس به. إذ قُدر متوسط الدخل السنوي للسباكين وعمال الأنابيب بـ65190 دولاراً حتى مايو 2022، بحسب مكتب إحصاءات العمل، وهو أعلى من المعدل الوطني لكافة المهن ويبلغ 61900 دولار.

مع ذلك، ثمة تفاوت كبير في الأجر بين أرجاء مختلفة من البلاد. مثلاً، يجني سباك في منطقة بيدمونت في كارولاينا الشمالية 43 ألف دولار سنوياً، فيما قد يصل أجر سباك في وادي السيليكون في كاليفورنيا إلى نحو 100 ألف دولار.

برغم الأجر الجيد، فإن وتيرة دخول سباكين جدد إلى سوق العمل أدنى من وتيرة التقاعد، وبات النقص المتنامي في عدد السباكين يكبّد الأسر تكاليف بالغة من أجل إصلاح تسربات الأنابيب مثلاً، كما يلحق الضرر بالشركات التي تحاول إنجاز أبنية جديدة ضمن مهل وميزانيات محددة.

بيّن تحليل لشركة "جون دونهام وشركاؤه" البحثية في لونغبوت كي في فلوريدا، أن نقص السباكين كلّف الاقتصاد نحو 33 مليار دولار في 2022، وهي تتوقع أن يصل النقص إلى 50 ألف سباك بحلول 2027.

اقرأ أيضاً: مرشات الاستحمام منخفضة التدفق تعود مع مواسم الجفاف

شحّ بالمتدربين الجدد

التحق 125 طالباً بالمدرسة المهنية في العام الدراسي الذي بدأ في نهاية سبتمبر. ولكن مدير التدريب كريستوفر بيوندي قال إنه استناداً إلى التجارب السابقة، فإن نحو 40% من المتدربين ينسحبون عادةً قبل انتهاء الدورة التي تستمر خمس سنوات.

يغطي صندوق للتدريب معظم تكاليف الدورة، فتبلغ التكلفة على الطالب الواحد 1500 دولار على امتداد خمس سنوات، بالإضافة إلى بعض التكاليف المتواضعة الأخرى لشراء أحذية العمل الإلزامية وشريط قياس. يُكلّف الطلاب خلال البرنامج بمهام مثل تصميم حمام والتخطيط له خلال 12 ساعة، على أن يتضمن مرحاضاً وحوض حنفية وسخّان مياه وحوض استحمام. ويتضمّن هذا المشروع أيضاً إعداد رسم تخطيطي وطلب كافة المعدات اللازمة من متجر المدرسة.

قال مايسون هولدن، مدرس أساسيات الجبر والهندسة والرسم وغيرها من المهارات: "نؤكد حقاً على المهنية وأخذ الوقت الكافي والتخطيط، ليصبح القيام بمثل هذه المشاريع أمراً سهلاً... بعض الأشخاص لم يدرسوا الكسور منذ فترة طويلة، وأنا قاسٍ بالعلامات، ولكنني أشرح لهم أن ذلك لمساعدتهم، لا لتحطيمهم".

اقرأ أيضاً: المياه الرمادية ترشيد وتوفير أخضر

قدمت كلية المجتمع "آن أرونديل" في أرنولد ماريلاند مقرراً إعدادياً للتدريب على السباكة للمرة الأولى في هذا الخريف يستوعب 18 طالباً، ولكن لم يتسجل إلا 3 طلاب. يوم زيارة المراسل إلى الفصل، كان أحد الأساتذة يفكك منهجياً مجموعة من الأنابيب المتشابكة على رسم هندسي لأحد الأبنية، مستخدماً اللون الوردي لأنابيب الصرف والبرتقالي لرشاشات الحريق.

قال ألن جونز الذي أمضى 50 عاماً في المهنة قبل أن يعود لتعليم الجيل الجديد: "من هنا تبدأ حياتكم المهنية في مجال السباكة، حين تنظرون إليها قد تتساءلون بماذا ورطتم أنفسكم، ولكن مع بلوغ العام الثالث أو الرابع من التدريب، سيبدو الأمر أشبه بقراءة مجلة هزلية".

مهنة لا تهددها الروبوتات

قال جون بوسكو نشيمييمانا، 34 عاماً إنه انجذب إلى السباكة بعدما بدا له أنها ستصمد في وجه الأتمتة أكثر من مجال عمله الحالي، مضيفاً: "يكثر استخدام الروبوتات في مجال التلحيم، ولكن لم أر الروبوتات تقوم بأي أعمال سباكة، لذا فكرت بخوض هذا المجال".

قال عدد ممن أجريت معهم مقابلات لإعداد هذا التقرير إن الاعتقاد السائد بأن السباكة عمل شاق بدنياً، يتطلب ساعات طويلة والتعامل مع القذارات من الأسباب التي تنفّر الشباب من المهنة.

يعمل جمال كاسيميرو، 29 عاماً، وهو متدرب في العام الثاني في برنامج لانهام، في مواقع بناء مدارس ومرائب سيارات. عليه أن يصل إلى العمل في الخامسة فجراً، لذا يحضّر ملابسه وغداءه في الليل، وتتضمن عصيراً في الصيف وحساءً في الشتاء، كما يتناول فطوره خلال انتقاله بالسيارة في رحلة تستغرق 40 دقيقة. قال: "أنهض من سريري عند الساعة 3:15 فجراً، ستكون مرهقاً جداً حين تنتهي من العمل".

بعد التخرج من الكلية، تنقّل كاسيميرو بين عدّة وظائف، فقد عمل نادلاً وأيضاً لصالح منظمة غير حكومية ناشطة في مجال البيئة، قبل أن يقرر العمل في السباكة. ليس لديه أي أقارب يعملون في هذه المهنة، لكنها أثارت اهتمامه بعدما أن زار رجل صيانة منزل أسرته ذات شتاء ليصلح سخّان المياه، وقال: "سألته هل جنيت كل هذا المال خلال 15 دقيقة؟ لقد أثار ذلك اهتمامي".

أعجبته أيضاً فكرة المساهمة إيجابياً في البيئة من خلال اعتماد أساليب البناء المستدامة بيئياً مثل صنع أنظمة أكثر كفاءة لناحية استهلاك المياه. وقال: "من الرائع اكتساب مثل هذه المهارات، لن تكون مجرد شخص يزعج الناس في منازلهم بأن يضطرهم لإزاحة كل مستلزمات العناية الشخصية التي يبقونها في الحمام من طريقه".

اقرأ أيضاً: الشركات الأميركية تضيف وظائف أكثر من المتوقع في فبراير

مشكلة جيل

تواجه ماري تومسون، مسؤولة العمليات في شركة "نيبورلي" (Neighborly)، أكبر شركة خدمات منزلية في العالم، عن كثب أثر النقص في السباكين وغيرهم من العاملين في قطاع البناء. وقالت تومسون التي تحمل رخصة في السباكة: "يواجه الجميع مشكلات في ملء الشواغر، إذا ذهبت إلى مدرسة مهنية وقلت لدينا وظائف شاغرة، سيجيبون: نعلم أن لديكم شواغر، الجميع لديهم شواغر".

يقول المسؤولون التنفيذيون إن لا حلّ سريع يلوح في الأفق. كما بيّن إيد برايدي، الرئيس التنفيذي لمعهد بناة المساكن في العاصمة واشنطن، الذي يقدم تدريبات على العمل في قطاع البناء، أن زيادة عدد عاملي السباكة سيتطلب استثمارات كبرى في التوظيف والتدريب، بدءاً من مرحلة المدرسة المتوسطة وما بعدها. أضاف: "سيستمر هذا الوضع لوقت طويل، فهو لا يتعلق بدورة السوق، هذه مشكلة تتعلق بجيل كامل".

من جهته، رأى بيوندي من المدرسة في لانهام أنه لا بدّ أن تبدأ التوعية حتى قبل المرحلة المتوسطة في المدرسة. واستذكر أنه خلال زيارة لإحدى المدارس الابتدائية، سأل التلامذة ما الذي يفعله السباك، وأجابوا أنه ينظف المراحيض. قال: "كان الأمر مضحكاً لأنهم مجرد أطفال، ولكن هذه الفكرة الخاطئة لن تتغير إلا إذا صُححت".

تأثير اقتصادي

يثير العدد الكبير في الشواغر، ليس في مجال السباكة فحسب، بل أيضاً في عدّة مجالات مختلفة اهتمام صنّاع السياسات في الاحتياطي الفيدرالي. فقد قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول وزملاؤه إنهم يعتزمون إعادة التضخم إلى هدف الـ2% الذي يتبنونه منذ وقت طويل، إلا أن استمرار سوق العمل الضيقة قد يؤثر على مدى سماحهم بخفض معدلات الفائدة، إذ أظهرت أحدث البيانات أن نسبة الشواغر إلى عدد العاطلين على العمل تبلغ 1.4 على 1، وهي نسبة مرتفعة تاريخياً.

يرى بعض الخبراء الاقتصاديون أن زمن القروض منخفضة الفائدة الذي سبق الجائحة لن يعود قريباً، لأن ما يُعرف بسعر الفائدة الطبيعي الذي يتيح استمرار النشاط الاقتصادي مع تجنب الاقتصاد التضخمي، يتعين أن يكون أعلى من أجل التصدي لضغوط التضخم.

إذاً ما يزال الشعار على ذلك الملصق القديم صحيحاً، فأميركا تحتاج إلى المزيد من السباكين من أجل صحة الأمة.