لماذا لم تحفز "المدينة المستدامة" في دبي التطوير العقاري الأخضر؟

%80 من المدينة خالية من السيارات مع وجود ممرات ممهدة لركوب الدراجات وعربات كهربائية مشتركة

المدينة المستدامة تنتج 80% من طاقتها الخاصة في الشتاء و40% في أشهر الصيف، عندما تصل درجة الحرارة الخارجية عادة إلى 45 درجة مئوية
المدينة المستدامة تنتج 80% من طاقتها الخاصة في الشتاء و40% في أشهر الصيف، عندما تصل درجة الحرارة الخارجية عادة إلى 45 درجة مئوية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في عام 2017، قام ليوناردو دي كابريو بزيارة سرية إلى دبي لتفقد مشروع سكني جديد يتمتع بميزة فريدة تمكن المطورين من التفاخر بها. إذ يضم المشروع المعروف باسم "المدينة المستدامة" 600 منزل، و11 قبة حيوية، ومزرعة حضرية ممتدة عبر مركزها، ويقال إنه أكثر المجتمعات السكنية استدامة من الناحية البيئية في منطقة الخليج، ونموذجاً محتملاً لمستقبل أكثر اخضراراً.

ولكن بعد مرور سبع سنوات وإنفاق 1.3 مليار درهم (354 مليون دولار) على تكاليف البناء، لم يتحقق سوى بعض ما قيل عن ذلك المشروع. إذ يبلغ عدد سكان المدينة المستدامة حالياً نحو 3 آلاف نسمة، وهي واحدة من المشاريع العقارية القليلة منخفضة الكربون في منطقة من أقسى الظروف المناخية في العالم، ظروفها المناخية من أشد الظروف قسوة في العالم. وتنتج المدينة كمية كبيرة من استهلاكها من الكهرباء، وتجمع بين التكنولوجيا والتصميم المعماري التقليدي للحفاظ على راحة السكان، من دون استخدام الطاقة إلى أقصى درجة.

غير أن المدينة المستدامة لم تطلق توجهاً جديداً حتى الآن. فبعد الدفع نحو تنمية أكثر مراعاة للبيئة في بداية العقد الأول من الألفية الجديدة، وعلى الرغم من الوعود الكبيرة في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في دبي العام الماضي، لا تزال الإمارات تفتقر بشدة إلى المباني والمجتمعات العمرانية التي تتماشى مع أهدافها البيئية. كان من المفترض أن تكون "المدينة المستدامة" نموذجاً للبناء عليه، لكنها لا تزال مجرد استثناء.

اقرأ أيضاً: نجاح قمة "كوب 28" يتجاوز الأقوال إلى الأفعال

يقول كريم الجندي، زميل مركز البيئة والمجتمع في "المعهد الملكي للشؤون الدولية- تشاتام هاوس" في بريطانيا إنه "لفترة من الزمن، كانت هناك رغبة في تحقيق مستويات عالمية من الاستدامة. لا أعتقد أن تلك الرغبة ما زالت قائمة في عالم التطوير العقاري، نظراً لأنها تتطلب تحولاً كبيراً في صناعة البناء والتشييد نفسها".

مدينة مصدر

وصلت المرحلة الزمنية التي يشير إليها الجندي إلى ذروتها في عام 2006، عندما أعلنت أبوظبي عن خطط لضخ ما يقرب من 20 مليار دولار في مشروع يعرف باسم "مدينة مصدر"، وهي عبارة عن حي تبلغ مساحته 2.5 ميل مربع، يقترب من مستوى الحياد الكربوني بفضل سحر الطاقة النظيفة، وتصميم المباني الحائز على شهادة "LEED" للريادة في الطاقة والتصميم البيئي، ومزرعة للطاقة الشمسية.

استوحت شركة "فوستر بلس بارتنرز" (Foster + Partners)، وهي الشركة المعمارية التي اضطلعت بالتصميم الأولي لـ"مدينة مصدر"، أفكارها من المدن العربية والأوروبية في العصور الوسطى، معتمدة على وفرة المساحات الخضراء وانتشار الظل بشكل استراتيجي للحفاظ على برودة المساحات. وكان مقرراً للمشروع أن يستوعب 50 ألفاً من السكان، وتم الترويج له بوصفه أول مدينة خالية من الكربون والنفايات في العالم.

بينما كانت "مدينة مصدر" تحت الإنشاء، كان فارس سعيد، وهو مهندس مدني أردني ومؤسس شركة "دايموند ديفيلوبرز" (Diamond Developers) للتطوير، يبني ناطحات سحاب في منطقة مارينا في دبي. ثم جاءت الأزمة المالية في عام 2008، التي دفعت كثيراً من المطورين العقاريين إلى حافة الإفلاس وأضرت باقتصاد المدينة. تضاءل الاهتمام بالتعامل مع تكلفة وتعقيدات البناء المستدام، وأدى ضعف طلب المشترين إلى تحجيم طموحات المطورين الناشئة في مجال البناء الأخضر.

ولادة الفرصة من الأزمة

وجد سعيد في ذلك فرصة سانحة. يقول: "بدأنا نفكر في كيفية بناء نموذج فريد من نوعه، وربما أكثر حصانة ضد الأزمات. وأردنا أن نبلغ درجة الإتقان في التنمية الخضراء والمستدامة، ولكننا كنا نعلم أن ذلك لن ينجح ما لم يكن مجدياً من الناحية التجارية".

شرفات مظللة مع شاشات منقوشة في المساكن الخاصة بالطلاب في "مدينة مصدر"
شرفات مظللة مع شاشات منقوشة في المساكن الخاصة بالطلاب في "مدينة مصدر" المصدر: بلومبرغ

في عام 2012، اشترت شركة "إس إيه إيه هولدينغ" -الشركة القابضة التابعة لشركة "دايموند ديفلوبرز" المملوكة لسعيد أيضاً- مساحة 460 ألف متر مربع (5 ملايين قدم مربع) من الصحراء على أطراف دبي، مع التخطيط لبناء مجتمع يتميز بتصميمه المستدام. وعلى الفور، ظهرت العقبات. بمجرد أن سمعت البنوك عن طابع الاستدامة في المشروع عانت شركة "إس إيه إيه هولدينغ" لإقناعها بمنح القروض. وقال سعيد إنه كان يؤكد بشكل روتيني للمصرفيين أن المدينة المستدامة ستنجح تماماً مثل أي مشروع سكني تقليدي.

لكن المشترين لم يقتنعوا أيضاً. عندما وضعت المدينة المستدامة حجر الأساس في عام 2014، علّق سعيد لافتة خارج موقع البناء تؤكد أن الشركة لن تحصّل أي رسوم عن الخدمات، والتي تشبه رسوم المباني السكنية لتغطية تكاليف الصيانة. (تخصص المدينة المستدامة 40% من إيرادات مركزها التجاري لتعويض الفرق). وقد أدت هذه الميزة الغرض منها: بحلول الوقت الذي بدأ فيه البناء، كانت 60% من وحدات المدينة المستدامة قد بيعت مسبقاً.

بدأ السكان في الانتقال إلى المجمع السكني في عام 2016، ولكن جاءت ميزة أخرى بعد أربع سنوات، عندما خصص بنك "إتش إس بي سي" أول "قروض عقارية خضراء" له في الإمارات لأصحاب المنازل في المدينة المستدامة. تقدم القروض خصماً على سعر الفائدة بنسبة 0.25% للعقارات التي تلبي معايير مستدامة معينة، وتخفيضاً بنسبة 50% على رسوم الخدمة المصرفية، وفقاً لما ذكره البنك. يقول سعيد إن العديد من الملاك الحاليين اشتروا العقارات بعد أن عاشوا فيها لعدة سنوات كمستأجرين.

المدينة المستدامة

اليوم أصبحت وحدات المدينة المستدامة مأهولة بالكامل، مع قائمة انتظار لمدة ثلاث سنوات للعائلات التي تتطلع إلى الانتقال إليها، ولا يزال لدى سعيد 10% من المنازل التي يقوم بتأجيرها. وإلى جانب 500 فيلا و89 شقة سكنية، يضم المشروع مدرسة وسوقاً لتجارة التجزئة ونادياً للفروسية، بالإضافة إلى واحدة من أكبر المدارس في المنطقة للأطفال الذين يعانون من التوحد. وتنتج مزرعة المشروع الحضرية و11 من الصوبات الزجاجية ذات القبة الحيوية، منتجات تُباع للمطاعم ومحلات السوبر ماركت القريبة.

نحو 80% من المدينة المستدامة خالية من السيارات، مع وجود ممرات ممهدة لركوب الدراجات وعربات كهربائية مشتركة للتنقل بين المنازل. تتشارك مجموعات من المنازل في مواقف السيارات -المظللة بألواح الطاقة الشمسية– على أطراف المشروع، مما يعني أن على السكان السير على الأقدام للوصول إلى سياراتهم، حتى أثناء صيف دبي الحار والرطب. (تضم العديد من البنايات السكنية في المدينة إما موقف سيارات تحت الأرض أو موقف سيارات أمام الفيلا).

يهدف التصميم المعماري في جميع جوانب المشروع إلى تقليل أشعة الشمس المباشرة، وضمان العزل المناسب. ويقول سعيد إن مبانيه تستخدم مياهاً أقل بنسبة 40% بفضل تركيبات خاصة، مما يؤدي إلى تقليل مياه الصرف الصحي بنسبة 30%. ويقوم مصنع للغاز الحيوي بتحويل النفايات العضوية إلى طاقة، كذلك تم تركيب ألواح شمسية على كل سطح. وينتج المشروع 80% من احتياجاته الخاصة من الطاقة في الشتاء و40% في الصيف، عندما تتجاوز درجة الحرارة بشكل روتيني 45 درجة مئوية.

يقول سعيد عن عروضه للمشترين: "نبدأ بالجانب المالي. فالاهتمام الأول للناس هو المال، ثم تأتي بعد ذلك الأمور الاجتماعية والبيئية".

تعهدات واستثمارات خضراء

تطورت الإمارات أيضاً منذ أول ظهور للمدينة المستدامة. فقد تعهدت الدولة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050، وأعلنت عن خطط لاستثمار ما يصل إلى 54 مليار دولار في مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030.

كما ألغت جانباً من دعم الوقود، وبدأت في تشجيع النقل العام، وفرضت ضريبة على الشركات. وانعقد مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ "كوب 28" في دبي العام الماضي برئاسة سلطان الجابر، الذي يدير أيضاً شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك". وعلى الرغم من ردود فعل على تعيينه رئيساً للقمة، فقد انتهت بأول اتفاق على الإطلاق للتوقف عن استخدام الوقود الأحفوري.

اقرأ أيضاً: كيف توصل "كوب 28" لأول صفقة عالمية للتحول عن الوقود الأحفوري؟

سيثبت أن هذا الزخم بالغ الأهمية مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب، خاصة مع ارتفاع درجة الحرارة في دول مجلس التعاون الخليجي بمعدل ضعف المعدل العالمي. وتحتل دولة الإمارات الترتيب الثاني من حيث أعلى نسبة انبعاثات كربونية للفرد في العالم، وذلك بعد دولة قطر المجاورة لها. ستزداد أهمية التصميم المستدام للمباني، مع تكليف صناع السياسة وقادة الأعمال بالحد من استخدام الطاقة في منطقة يُستهلك فيها ما يصل إلى 70% من الكهرباء في تبريد المنازل.

لكن الإمارات ما زال أمامها طريق طويل لتقطعه. إذ تحتل "شركة أبوظبي لطاقة المستقبل- مصدر"، التي تدير مشاريع للطاقة المتجددة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات، المركز 62 عالمياً بين شركات الطاقة المتجددة، وفقاً لـ"بلومبرغ إن إي إف". وتلقي "مدينة مصدر"، التي لا تزال فارغة بشكل واضح، بظلالها على السجل البيئي للإمارات. وكذلك تنفرد المدينة المستدامة إلى حد كبير بكونها مشروعاً مأهولاً بالسكان تم بناؤه مع مراعاة المعايير البيئية. ويؤكد الجندي من معهد "تشاتام هاوس" أن هذا النموذج ليس قابلاً للانتشار بسهولة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى القيود المفروضة على استخدام السيارات.

ويقول: "وجدت المدينة المستدامة فرصة في نوع معين من المستأجرين وضعوها في إطار أنها نمط للحياة. ولا أعتقد أن الشخص العادي الذي يسكن في دبي هو العميل النموذجي لهذه المدينة. فبدون وضع سياسة تحفيزية، من الصعب أن نجد مطورين آخرين يقيمون مدناً أخرى مماثلة".

شهادة الريادة "LEED"

تقول تاتيانا ليسكوفا، المديرة المساعدة لتصنيفات الشركات في وكالة "إس آند بي غلوبال"، إن حكومة دبي ألمحت إلى أن القواعد التنظيمية القادمة ستجعل هذا القطاع أكثر استدامة. ولكن بالنسبة للمطورين العقاريين، قد يترتب على الشروط البيئية الأشد صرامة، تكاليف إضافية وعقبات إدارية وتحديات تقنية.

يتزايد الطلب على المساحات التجارية الحاصلة على شهادة "الريادة في الطاقة والتصميم البيئي" (LEED) في المدينة، وفقاً لتقرير صدر في نوفمبر عن شركة "سي بي آر إي غروب" (CBRE Group). ويعكس ذلك إلى حد كبير توجهاً نحو الجودة، ففي دبي، تُستأجر المكاتب الحاصلة على شهادة "LEED" بقيمة أعلى بنسبة 34% تقريباً من تلك التي لا تحمل هذه الشهادة، وفقاً للتقرير.

كما أن نحو 24% من المساحة الإجمالية القابلة للتأجير في المدينة من الأصول التي ترصدها شركة "سي بي آر إي غروب" حاصلة على شهادة الريادة– بإجمالي يصل إلى 12.2 مليون قدم مربع. وفي الربع الثالث من العام الماضي، بلغ متوسط معدل الإشغال لتلك الأصول 96%، مرتفعاً من 91% في نفس الفترة من 2022.

يقول سعيد إنه يخطط لتطوير مشروع آخر في دبي، لكنه لم يذكر أي تفاصيل أو جدول زمني محدد. كما تقوم شركة "إس إيه إيه هولدينغ" بتكرار مشروعها النموذجي في أماكن أخرى، إذ تقوم ببناء مجتمعات مماثلة في أبوظبي والشارقة وعُمان- بإجمالي 3850 منزلاً تقريباً قيد التخطيط أو تحت الإنشاء و4 مليارات درهم (مليار دولار)، قيمة الوحدات المبيعة مسبقاً قبل البناء في جميع المشاريع الجارية. ويقول سعيد إن مشروع عُمان سينتج كل احتياجاته من الطاقة من المصادر المتجددة. كما أنه سينتج 70% من الغذاء ويعيد تدوير جميع المياه الخاصة به.

طرح مشروعات "إس إيه إيه هولدينغ"

ولتمويل جهود التوسع تلك، تخطط شركة "سي هولدينغ" لطرح مشروعاتها طرحاً أولياً للاكتتاب العام، بما في ذلك المدينة المستدامة، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر. في أواخر العام الماضي، كانت الشركة تدرس تكليف بنوك، من بينها "باركليز" و"سيتي غروب"، للعمل على الطرح العام الأولي، والذي سيشمل أيضاً وحداتها الهندسية والتصميمية والاستشارية. وقال هؤلاء الأشخاص إن التفاصيل مثل حجم وتوقيت الصفقة لا تزال قيد المناقشة وقد تتغير.

كذلك تدرس الشركة عقد شراكات للقيام بمشاريع في الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا، ويقول سعيد إنه يتوقع إبرام صفقة في قبرص في الأشهر القليلة المقبلة. ولإقناع الشركاء والمشترين المحتملين، فإنه يركز على أن تظل تكاليف البناء على نفس مستوى تكاليف المشاريع التقليدية. وتقدم الشركة أيضاً السكن بإيجارات قصيرة الأجل لمواجهة ارتفاع أسعار المنازل.

لكن الجندي يحذّر من أن هناك مزيداً من المعارك الصعبة في المستقبل. ويقول: "إنه في الواقع عمل شاق للغاية. فحتى مع جميع التقنيات الذكية، وجميع تقنيات التصميم المعماري التي من شأنها أن تقلل الحاجة إلى تكييف الهواء في المقام الأول، لا تزال كمية تكييف الهواء المطلوبة لضمان الراحة مرتفعة للغاية، بحيث لا يمكن لعدد قليل من الألواح الشمسية أن توفر الطاقة اللازمة لها. فهناك حدود لتحقيق الاستدامة والسيطرة على انبعاثات الكربون في منطقة الخليج بشكل عام".