لا مفر من خسائر "بريكست" طويلة الأمد على بريطانيا

الانهيار المفاجئ للإسترليني وفشله في التعافي يشيران إلى أن بريطانيا تودّع فترات ازدهارها

علم بريطانيا يرفرف بالقرب من ساعة "بيغ بين" في وستمنستر، لندن، المملكة المتحدة
علم بريطانيا يرفرف بالقرب من ساعة "بيغ بين" في وستمنستر، لندن، المملكة المتحدة المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم يكن الخروج من الاتحاد الأوروبي يشبه أي حدث في تاريخ بريطانيا الحديث. فلم يتصور المستثمرون المؤسسيون أن يصوّت غالبية البريطانيين ضد مصلحتهم الخاصة.

وعندما حدث ذلك، كانت الصدمة مباغتة. ففي غضون دقائق من التصويت انخفض الجنيه الإسترليني بـ8.05% مسجّلاً أدنى مستوى له منذ 31 عاماً مقابل الدولار.

جاءت الخسارة من استفتاء 23 يونيو 2016 بأكثر من ضعف أي من الأيام الثمانية الأسوأ منذ عام 1981، ويظل الانخفاض غير المسبوق بقيمة العملة بـ13% تقريباً في أقل من أسبوع، أشبه بكارثة أسعار صرف العملات الأجنبية في المملكة المتحدة.

أثبت الانهيار المفاجئ للجنيه الإسترليني وفشله في التعافي، أنه إشارة إلى أن بريطانيا تودّع أفضل أيام ازدهارها. على مدار أكبر فترة من القرن الحالي، كانت المملكة المتحدة المستفيد الأكبر بين دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين. ومن خلال قياس الناتج المحلي الإجمالي، ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والبطالة والديون المهيمنة، وتقييم الأسهم والعملة، كانت بريطانيا هي الرائدة الدائمة.

لكن جميع هذه المزايا انتهت بـ"بريكست" قبل ثماني سنوات تقريباً. منذ ذلك الحين، يتفوق أداء الاتحاد الأوروبي على المملكة المتحدة، التي أصبح اقتصادها الهزيل حالياً تفصله خطوات معدودة عن الاقتصاد الفاشل.

يحظى الاتحاد الأوروبي، الذي سيتسنى له قريباً إعادة انتخاب أورسولا فون دير لاين لخمس سنوات أخرى كرئيسة للمفوضية الأوروبية، بأفضل وضعية مقارنة بالمملكة المتحدة، منذ أن بدأت ولايتها الأولى في هذا المنصب في عام 2019 استناداً إلى تقييم الأسهم المدرجة، وفقاً للبيانات التي جمعتها "بلومبرغ".

يبلغ متوسط العلاوة التي يدفعها المستثمرون مقابل الأرباح المستقبلية المتأتية من الأسهم في الدول العشرين التي تجمعها عملة اليورو، والمعروفة بمنطقة اليورو، 25% وفقاً لقياس 197 شركة ضمن مؤشر "بلومبرغ" لمنطقة اليورو، و71 عضواً في مؤشر "بلومبرغ" للمملكة المتحدة.

خلال الفترة بين عامي 2006 و2019، كان متوسط العلاوة صفراً، مما يدل على أن المستثمرين لم يلفت اهتمامهم أي فارق بين الشركات في منطقة اليورو ونظيراتها بالمملكة المتحدة. لم يحدث ذلك إلا في عام 2020، خلال جائحة كورونا العالمية، عندما ارتفعت القيمة النسبية المفضلة للاتحاد الأوروبي بشكل مفاجئ إلى 19%، واستمرت في التزايد بعد غزو روسيا لأوكرانيا.

اقرأ أيضاً: هل بريطانيا جاهزة للاعتراف بانحدارها؟

مؤشرات الأسواق

أدركت السوق هذا الأمر بشكل صحيح، كونها وسيلة أخرى لوصف حالة الأشخاص الأكثر عُرضةً للتعثر المالي. فقد أقرّ أكثر من 50% من الناخبين البريطانيين في مرحلة متأخرة بضعف الجنيه الإسترليني في يونيو 2016 عندما اعترفوا لشركة استطلاعات الرأي "يوغوف" في يوليو الماضي بأنهم سيصوّتون للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مجدداً.

كان ينبغي أن تشكّل حالة رفض الرأي العام لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ناقوس خطر بالنسبة إلى الحزبين الرئيسيين في البلاد - العمل والمحافظين - اللذين يتنافسان في الانتخابات الوطنية هذا العام.

وبدلاً من ذلك، لا يُبدي الساسة البريطانيون أي تردد في تقديم وصفات لحل أزمة قطاع غزة التي تبعد عنهم 3 آلاف ميل، ومع ذلك فهم لا يكلفون أنفسهم عناء مناقشة الوسائل التي تعالج الفشل في حماية الصناعات الحيوية في المملكة المتحدة، مثل التمويل والبيانات، في الوقت الذي يلقي فيه الجمهور باللوم بشكل متزايد على التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باعتباره السبب وراء ارتفاع أسعار المتاجر، وانخفاض مستوى الرعاية الصحية والخدمات العامة المنهارة.

بعيداً عن البيروقراطية المتضخمة وغير الفعالة التي سخر منها المشككون في الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتهم رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق بوريس جونسون عندما كان صحفياً بارعاً في صحيفة "لندن تلغراف"، حيث زيّن للرأي العام حلاوة السرد الإعلامي السائد بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن اقتصاد الاتحاد الأوروبي ينمو بشكل أسرع بنسبة 2.3 نقطة مئوية، مقارنة بالمملكة المتحدة على أساس سنوي، مع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 24% منذ عام 2016، مقارنة بـ6% في المملكة المتحدة.

خلال السنوات العشر التي سبقت استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هبط الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي مقارنة بالمملكة المتحدة بمقدار 12 نقطة أساس سنوياً، ومنذ عام 2000 بمقدار 9 نقاط أساس، وهبط بمقدار 149 نقطة أساس مقارنة بالعقدين السابقين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفقاً للبيانات التي جمعتها "بلومبرغ".

اقرأ أيضاً: مساوئ "بريكست" تتربص باقتصاد المملكة المتحدة

تغير مماثل بمنطقة اليورو

يسري هذا التغير نفسه بمقدار النصف على الناتج المحلي الإجمالي للفرد بين الدول العشرين التي تشكّل منطقة اليورو. فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بنسبة 19%، أو 2.19 نقطة مئوية أكثر من المملكة المتحدة على أساس سنوي منذ عام 2016، وهو انعكاس جذري مقارنة بالعقد الذي سبق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

خلال السنوات العشرة السابقة على خروج بريطانيا، كان النمو السنوي في منطقة اليورو أفضل بثماني نقاط أساس بالكاد من النمو في المملكة المتحدة، وبين عامي 2000 و2016، تخلفت منطقة اليورو عن المملكة المتحدة بمقدار ست نقاط أساس.

على النقيض من التصور السائد، فإن بريطانيا لديها كل ما يمكن أن تجنيه من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ولن تخسر الكثير مع توسع الاتحاد مع انهيار الاتحاد السوفييتي الأشبه بسقوط جدار برلين، والتكامل السريع لدول أوروبا الشرقية.

خلال السنوات بين 2011 و2015، توسع معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي بمقدار 1.3 نقطة مئوية عن المملكة المتحدة إلى 4.6 نقطة مئوية إضافية. لم ينعكس المسار إلا بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع تقلص معدل البطالة الإضافي في الاتحاد الأوروبي إلى 2.9 نقطة مئوية مع حصول مواطنيه على فرص العمل بمعدل أسرع من نظرائهم في المملكة المتحدة.

لا تزال اليونان النموذج الأكثر وضوحاً على الاستفادة من مظلة الاتحاد الأوروبي. فعلى النقيض من تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رفض الناخبون في الجمهورية اليونانية التخلي عن العملة الموحّدة والسوق المشتركة، على عكس ما كان متوقعاً على نطاق واسع في استفتاء عام 2015 الذي كان من المفترض أن يكون التصويت فيه لصالح "خروج اليونان".

من يُمعن النظر في مراقبة حال سوق السندات آنذاك كان سيدرك أن الدولة لم تكن لتعود إلى عملتها القديمة "الدراخما" التي كانت ستصاحب الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ لأن العائد على الديون هذه كان أقل بكثير من الذروة التي وصلت إليها في عام 2012 خلال أسوأ فترات أزمتها المالية.

من المؤكد أن الناتج المحلي الإجمالي اليوناني انكمش بنسبة 45% خلال فترة الكساد بين عامي 2009 و2015. لكن اليونان كانت عقلانية، ومنذ ذلك الحين، توسع اقتصادها بـ11%، وهو ما يمثل معدلاً سنوياً قدره 1.53%، ويتجاوز بسهولة النمو السنوي الهزيل في المملكة المتحدة والذي بلغ 0.7%.

اقرأ أيضاً: دراسة: "بريكست" قلصت اقتصاد المملكة المتحدة بنسبة 5.5%

نموذج النمو في اليونان وغيرها

قدر كبير من نموذج اليونان، قائم بالفعل بين دول في الاتحاد الأوروبي لا تحظى باهتمام كبير في ظل الاقتصادين الرئيسيين للاتحاد، فرنسا وألمانيا. فقد حظيت 10 دول بالاتحاد على الأقل بنمو متزايد منذ عام 2016، وتجاوزت المتوسط العالمي البالغ 35%، وهي: أيرلندا 82%؛ وبلغاريا 78%؛ وليتوانيا 71%؛ وإستونيا 66%؛ وجمهورية التشيك 55%؛ ولاتفيا 50%؛ وقبرص 47%؛ وبولندا 44%؛ والمجر 42%؛ وكرواتيا 41%، بحسب البيانات التي جمعتها "بلومبرغ".

أما بالنسبة إلى الجنيه الإسترليني، فيمكن تقييم ضعفه النسبي المستمر منذ عام 2016 من خلال تقلبات الأسعار المتوقعة، والمعروفة بالتقلبات الضمنية. بين عام 2000 و"بريكست"، كان متوسط تقلبات أسعار اليورو المتوقعة أكبر بمقدار 1.2 نقطة مئوية من الجنيه الإسترليني. تحول الفارق إلى سلبي في عام 2017، حيث أصبح الجنيه الإسترليني في المتوسط أكثر تقلباً بنسبة 1.8 نقطة مئوية مقارنة باليورو، نتيجة لتراجع الثقة في المملكة المتحدة.

من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا بـ0.4% هذا العام، و1.2% في 2025، وهي معدلات نمو أقل مقارنة بـ24 دولة بالاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، وفقاً لـ61 اقتصادياً استطلعت "بلومبرغ" آراءهم.

اقرأ أيضاً: "بريكست" يكلف بريطانيا 124 مليار دولار كإنتاج مهدر سنوياً

تدهور قيمة السندات

بالمثل، فإن قيمة الأسهم والسندات البريطانية أقل مقارنة بنظيراتها في الاتحاد الأوروبي منذ "بريكست".

دفعت المملكة المتحدة في عام 2023 فوائد للاقتراض بمقدار نقطتين مئويتين أعلى من حكومات منطقة اليورو، وهو أوسع هامش في القرن الحالي. ارتفعت الشركات ضمن مؤشر "بلومبرغ" لمنطقة اليورو بنسبة 86% في المتوسط منذ عام 2016، بينما صعدت أسهم المملكة المتحدة بنسبة 46%. يمثل هذا عائداً إجمالياً (الدخل بالإضافة إلى التقدير) يصل إلى 3.1 نقطة مئوية عن التقدير السنوي الأكبر.

خلال الساعة الأولى من إغلاق صناديق الاقتراع يوم الخميس الثاني إلى الأخير من شهر يونيو قبل ثماني سنوات، ارتفع الجنيه الإسترليني إلى 1.5 دولار من 1.48 دولار وسط تكهنات بأن البريطانيين سيوافقون على إجماع رؤساء الوزراء والرؤساء ومسؤولي المالية المحليين والدوليين، وقادة الأعمال والاقتصاديين، ويصوتون لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه كان يُنظر إليه على أنه الأفضل لبريطانيا.

بالطبع، لم تكن هذه هي الحال، وأصبحت الإنتاجية وتجارة المملكة المتحدة مع العالم في حالة من الفوضى منذ ذلك الحين.

لا أحد يشك الآن في أن "بريكست" عرقل الاقتصاد البريطاني المتعثر بدلاً من مساعدته. وعلى النقيض من الاتحاد الأوروبي، لم تبدِ بريطانيا أي ثقة في شعار الولايات المتحدة الذي أصبح مصدر إلهام للاتحاد الأوروبي: "واحد من المجموعة".