هل بريطانيا جاهزة للاعتراف بانحدارها؟

تظهر الأرقام تراجع بريطانيا اقتصادياً مقارنة بنظيراتها في أوروبا

علم بريطانيا يرفرف بالقرب من ساعة "بيغ بن" في وستمنستر، لندن، المملكة المتحدة (أرشيفية)
علم بريطانيا يرفرف بالقرب من ساعة "بيغ بن" في وستمنستر، لندن، المملكة المتحدة (أرشيفية) المصدر: بلومبرغ
Matthew Brooker
Matthew Brooker

Matthew Brooker is an editor with Bloomberg Opinion. He previously was a columnist, editor and bureau chief for Bloomberg News. Before joining Bloomberg, he worked for the South China Morning Post. He is a CFA charterholder.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

التغيير صعب، وربما أكثر ما يحتاجه هو الصدق. فلسبب وجيه، يشتمل برنامج "مدمنون مجهولون" المؤلف من 12 خطوة على "إجراء مراجعة أخلاقية دقيقة وجريئة لأنفسنا". فكيف نأمل أن نعرف أين نتجه إذا لم نكن مستعدين لاستيعاب واقعنا الحالي والاعتراف به؟ لذا ربما أن التحدّي الأكبر الذي يعترض معالجة بريطانيا تدهورها الاقتصادي نسبياً هو الاعتراف بأنه يتدهور أصلاً.

أدّت المؤسسة البحثية "ذا ريزولوشن فاونديشن" (The Resolution Foundation) في لندن خدمة للقضية هذا الشهر بأن قدمت شرحاً بالأرقام وبالنسب المئوية تناول مدى التراجع الذي تعيشه البلاد. ينظر الكثير من البريطانيين إلى فرنسا وألمانيا على أنهما دولتان نظيرتان، ربما تبليان أفضل قليلاً في بعض المناسبات، ولكنهما تنتميان إلى المستوى نفسه كبريطانيا بشكل عام. لذا لا شكّ أنهم شعروا بالصدمة لاكتشافهم حجم الفجوة بين بلدهم وهاتين الدولتين. فالأسر ذات الدخل المتوسط في بريطانيا أفقر بنسبة 20% مقارنة بالأسر في ألمانيا، وبنسبة 9% مقارنةً بالأسر في فرنسا. والوضع أسوأ بالنسبة للأسر منخفضة الدخل، التي تبيّن أنها أفقر بواقع 27% مقارنة بنظرائها من الأسر في الدولتين.

بريطانيا تتطلع لجذب المستثمرين من الصين والشرق الأوسط

مشكلة انخفاض الإنتاجية في بريطانيا

بالمقارنة مع مجموعة أوسع من الدول، تشمل أستراليا وكندا وألمانيا وهولندا، تبدو بريطانياً أفقر بمعدل 16% (تشكل الولايات المتحدة فئة خاصة بحدّ ذاتها بما أنها أغنى كثيرا). وحتى تغلق بريطانيا الفجوة في متوسط الدخل وفي عدم المساواة مقارنة مع هذه الدول، ينبغي أن يرتفع دخل الأسرة العادية بـ8300 جنيه إستريليني (10400 دولار)، ودخل الأشخاص الأكثر فقراً بنسبة 37%. فمستوى معيشة الأسر البريطانية الأفقر هو دون مستوى معيشة الفئة عينها من الفرنسيين بـ4300 جنيه إستريليني، وهذه أرقام صادمة جداً.

استُخلصت هذه الأرقام إلى جانب مجموعة من الإحصائيات الأخرى من دراسة "إنهاء الجود الاقتصادي" (Ending Stagnation) المؤلفة من 291 صفحة وتشكّل التقرير النهائي من المشروع التحقيقي "اقتصاد 2030" الذي أجرته مؤسسة "ريزولوشن فاونديشن" طوال سنتين لتبيان طبيعة المحاولات الجادة لوقف التدهور النسبي لبريطانيا. تعليقاً على ذلك، قالت لي إيميلي فراي، الخبيرة الاقتصادية في المؤسسة والتي شاركت في إعداد التقرير إن تراجع بريطانيا بعض الشيء مقارنة مع الدول الأخرى كان متوقعاً، غير أن حجم هذه الفجوة كان صادماً.

أرجع الباحثون ذلك بشكل رئيسي إلى انخفاض الإنتاجية، فمستوى كفاءة الاقتصاد في المزج بين العمل ورأس المال ليحوّلهما إلى إنتاج يمثّل الركيزة الأساسية لرفع الأجور ومستوى المعيشة، وهذا الأمر على صلة وثيقة بمشكلة بريطانيا المزدوجة الناجمة عن نموّ اقتصادي دون المستوى وتفاقم انعدام المساواة. في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة، كانت بريطانيا قادرة على اللحاق بركب الدول الأعلى إنتاجية مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، إلا أنها توقفت عن ذلك في منتصف العقد الأول من الألفية، وهي في مسار انحداري منذ ذلك الحين. فقد ارتفع مستوى الإنتاجية في بريطانيا بنسبة 0.4% على أساس سنوي خلال الأعوام الـ12 الماضية بعد الأزمة المالية العالمية، وهو نصف معدل الدول الـ25 الأغنى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

هَنت يحذر من تفاقم التضخم في بريطانيا وسط توقعات خفض الضرائب

معاناة الطبقتين الوسطى والأدنى

تتناول دراسة "إنهاء الجود الاقتصادي" مجموعة واسعة من المسائل والتحديات على صعيد السياسات، منها استمرار انخفاض الاستثمارات وتقلباتها في المملكة المتحدة والتفاوتات المناطقية وتراجع أداء المدن خارج لندن والأنظمة الضريبية والمالية غير الفعّالة، وعدم كفاية بناء المساكن والإصلاحات التخطيطية ولا مركزية السلطة والتجارة في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) والانتقال نحو تصفير الانبعاثات الكربونية.

أزمة الإسكان في لندن الأسوأ خلال عقد

معظم هذه الأمور ليست بجديدة، فهي محطّ جدل منذ سنوات، بالتالي كان من اللافت أن يحضر وزير الخزانة جيرمي هَنت وليس فقط زعيم المعارضة كير ستارمر في المؤتمر الذي استمر يوماً كاملاً الاثنين الماضي لإطلاق التقرير. يعني ذلك أن ثمّة إقرارا من الحزبين بأهمية التحديات التي طرحها البحث الذي أجرته المؤسسة.

هذا أمر لا يستهان به، فجزء من صعوبة إقناع البريطانيين أن بلادهم وصلت إلى مفترق طرق دقيق يتطلب تغييراً جوهرياً يكمن في عدم انسجام ذلك مع التجربة المعاشة بالنسبة لكثير من أصحاب الثروة والسلطة. فالأسر الأغنى هي على مستوى متقارب مع نظرائها الأوروبيين، ولكن الفجوة تتسع على مستوى الطبقتين الوسطى والأدنى. وأشار التقرير إلى أن تجربة الركود أقل قسوة في أعلى الهرم الاجتماعي منها في الطبقتين المتوسطة أو الدنيا.

نقطة القوة: قطاع الخدمات

يطرح الجمود تحدياً إذاً، وكذلك انتظار المعجزات، فبريطانيا لن تعيد ابتكار نفسها كقوّة صناعية مثل ألمانيا، ولن يمهّد خروجها من الاتحاد الأوروبي طريقاً ذهبياً كي تصبح أرض ميعاد عالمية. على العكس، أصبح الاقتصاد البريطاني أقلّ انفتاحاً على التجارة (قياساً على الصادرات والواردات كنسبة من الناتج الإجمالي المحلي) منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما فاقم هذا الخروج تحديات الإنتاجية في بعض النواحي، حيث عرقل سلسلة إمداد تجارة المركبات الأوروبية شديدة التكامل وذات القيمة العالية، فيما زاد صناعة المواد الغذائية المحلية منخفضة الإنتاجية.

لكن الأمور ليست كلّها سيئة، إذ تمتلك بريطانيا بعض نقاط القوة بالأخص في قطاع الخدمات. فالبلاد هي ثاني أكبر مصدّر للخدمات في العالم بعد الولايات المتحدة. إذ تتخطى ركائز نموّ هذا القطاع الخدمات المالية فقط التي انخفضت حصتها من الصادرات إلى 9% في العام الماضي مقارنةً بـ12% في عام 2022، بحيث تمتلك بريطانيا موسيقيين ومهندسين معماريين ومحامين ناجحين، ولا بدّ أن تركز سياساتها التجارية على ذلك، أي على إبرام اتفاقيات تجارية خدماتية مع دول ذات دخل مرتفع مثل سنغافورة وأستراليا واليابان، بدل مطاردة الأوهام.

إقبال الملايين من الأشخاص على بنوك الطعام، ومرور 15 سنة من دون أي زيادة في الأجور يفترض أن تكون إشارات كافية إلى ضرورة إحداث تغيير، مع ذلك تسهم دراسة "إنهاء الركود" في تسليط الضوء أكثر على ما يجري. فهل بريطانيا جاهزة لإجراء هذا الحوار؟