الذكاء الاصطناعي يعيد صناعة الرقائق إلى وادي السيليكون

شركة "مات إكس" الناشئة مؤشر لعودة الحماس تجاه شركات صناعة الرقائق إلى كاليفورنيا

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

استغرق الأمر نحو 25 سنة، ولكن وادي السيليكون بدأ أخيراً بالعودة إلى أصوله.

دفعت هيمنة شركة "إنفيديا" المطلقة على سوق الرقائق التي تشكّل أساس برمجيات الذكاء الاصطناعي، شركات أخرى لتحزم أمرها وتنطلق لتخوض غمار تصميم أشباه موصلات خاصة بها، رغم أن ذلك غالباً ما كان يفضي إلى نتائج كارثية.

تاريخياً، كان تصميم رقاقة من الصفر يستغرق سنوات، ويكلّف ملايين الدولارات، وعادة ما يكون مصير المشروع الفشل. مع ذلك، فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي واعد لدرجة أن بعض الأشخاص قرروا أن يجربوا.

الانتقال من "غوغل"

مايك غونتير ورينير بوب من أولئك الشجعان، فقد أسسا شركة "مات إكس" (MatX) وهدفها صنع رقائق مصمّمة خصيصاً لمعالجة البيانات اللازمة لتشغيل النماذج اللغوية الضخمة.

في حال أن بضعاً منكم عاد لتوّه من معتزل أمضى فيه نحو عام ونصف العام ولم يسمع بهذا قبلاً، فليعلم أن النماذج اللغوية الضخمة هي أساس برمجيات مثل "تشات جي بي تي" من "أوبن إيه أي" و"جيميناي" من "غوغل"، ويتطلّب تشغيلها كماً هائلاً من الرقائق باهظة الثمن.

لذا إن تمكنت شركة ما من صنع رقائق أسرع بأسعار أرخص وبتصميم مناسب لتطوير الذكاء الاصطناعي، فيرجح أنها متجهة لنجاحات كبيرة في عالم يشهد توسعاً متواصلاً في برمجيات الذكاء الاصطناعي.

سبق أن عمل كل من غونتير وبوب لدى "غوغل" تابعة شركة "ألفابيت"، حيث كان غونتير يركز على تصميم المعدّات، وبينها الرقائق المستخدمة في تشغيل برمجيات الذكاء الاصطناعي، فيما تولّى بوب كتابة برمجية الذكاء الاصطناعي بحد ذاتها.

تصنع "غوغل" منذ سنوات رقائقها الخاصة التي تحمل اسم وحدات المعالجة "تنسور"، إلا أن تصميم هذه الرقائق بدأ قبل موجة النماذج اللغوية الضخمة، بالتالي فإن تصميمها عمومي جداً بمقاييس هذه المهمة، حسب ما قال مديرا "مات إكس" التنفيذيان.

قال بوب، الذي كان يتحدث عن شركته علناً لأول مرة: "كنّا في (غوغل) نحاول أن نجعل النماذج اللغوية الضخمة تعمل أسرع، وقد حققنا بعض التقدم على هذا الصعيد، لكن الأمر كان صعباً نوعاً ما... داخل (غوغل) كان هناك كثير من الأشخاص الذين أرادوا إدخال تغييرات على الرقائق لأسباب متنوعة، وكان يصعب حصر التركيز على النماذج اللغوية الضخمة، لذا قررنا أن نغادر".

اقرأ أيضاً: ما أهمية شريحة "بلاكويل" من "إنفيديا" للذكاء الاصطناعي؟

الرقائق أفضل بعشر مرات

جاءت هيمنة "إنفيديا" على سوق الرقائق المستخدمة في الذكاء الاصطناعي من قبيل المصادفة. فقد بدأت بصنع الرقائق المعروفة باسم "وحدات معالجة الرسومات" بهدف تسريع ألعاب الفيديو وبعض أعمال التصميم بواسطة الكمبيوتر. تتميز رقائق "إنفيديا" بقدرتها على التعامل مع كمّ هائل من المهام الصغيرة، وتصادف أنها قادرة على تشغيل برامج الذكاء الاصطناعي، التي بدأت تنتشر قبل عقد، بشكل أفضل بكثير من الرقائق الأخرى التي تنتجها شركة "إنتل".

اقرأ أيضاً: إنتل بصدد تلقي 3.5 مليار دولار لإنتاج رقائق للجيش الأميركي

تقسم "إنفيديا" مساحة وحدات معالجة الرسومات بما يمكّنها من التعامل مع مجموعة متنوعة من مهام الحوسبة، بما فيها نقل البيانات بين أجزاء الرقاقة. إلا أن بعض اختياراتها التصميمية تتناسب مع حقبات الحوسبة السابقة أكثر من فترة ازدهار الذكاء الاصطناعي، وتتخللها بعض مكامن الضعف في الأداء.

يرى مؤسسو "مات إكس" أن هذه المساحة الإضافية تأتي مع تكاليف وتعقيدات غير ضرورية في حقبة الذكاء الاصطناعي الجديدة. بالتالي تنتهج شركتهم أسلوباً جديداً بالكامل، إذ إنها تصمم الرقاقة بنواة معالجة ضخمة واحدة تهدف لغرض أوحد هو حساب مضاعفات الأرقام بأسرع ما يمكن، وتلك هي المهمة الأساسية في صلب النماذج اللغوية الضخمة.

تراهن الشركة بكل ما لديها على أن رقائقها ستكون أفضل بعشر مرات على الأقل في تدريب النماذج اللغوية الضخمة وتحقيق النتائج من وحدات معالجة الرسومات من "إنفيديا". قال بوب: "واضح أن (إنفيديا) منتج قوي جداً، وأنه المنتج المناسب لمعظم الشركات، لكن أعتقد أن بإمكاننا أن نقدم ما هو أفضل بأشواط".

اقرأ أيضاً: ثورة الذكاء الاصطناعي بحاجة للرقائق والبرامج.. وأنابيب الغاز

الاستفادة من أفكار الشركات الضخمة

تمكنت "مات إكس" من جمع 25 مليون دولار، حيث تصدّر آخر جولة تمويل رائدا الاستثمار في الذكاء الاصطناعي نات فريدمان ودانيال غروس. تقع الشركة في ماونتن فيو في كاليفورنيا، على بعض بضعة أمتار من "مختبر شوكلي لأشباه الموصلات" (Shockley Semiconductor Laboratory)، أول مصنع ترانزيستور في وادي السيليكون، وتضم عشرات العمال الذين يجهدون لصناعة الرقاقة التي تعتزم الشركة إنجازها بحلول العام المقبل.

قال غروس إن "مؤسسي (مات إكس) يجسدون إحدى الموجات السائدة في عالم الذكاء الاصطناعي الذي نعيش فيه، لأنهم يأخذون بعض أفضل الأفكار التي طورتها شركات ضخمة، لكنها إما بطيئة أو تعتريها البيروقراطية، ثم يجعلون منها سلعة تجارية بأنفسهم".

إذا ما استمرت برمجيات الذكاء الاصطناعي على مسارها الحالي، فسينجم عنها حاجة ضخمة لخدمات الحوسبة باهظة التكلفة. إذ تُقدّر تكلفة تدريب كل واحد من النماذج قيد التطوير حالياً بحوالي مليار دولار، في ظل توقعات بأن تبلغ تكلفة تدريب النماذج اللاحقة 10 مليارات دولار لكل منها.

تتوقع "مات إكس" أن تتمكن من بناء تجارة مزدهرة من خلال استقطاب عدد من كبريات شركات الذكاء الاصطناعي، ومنها "أوبن إي أي" و"أنثروبيك بي بي سي" (Anthropic PBC). قال غونتير إن "النموذج الاقتصادي لهذه الشركات مختلف تماماً عن الشركات العادية، فهي تنفق كل هذه الأموال على الحوسبة وليس على الرواتب، وإذا لم يحدث تغيير في الوضع، سوف تنفد أموالها".

رقائق تخصصية

كان وادي السيليكون في ما مضى، كما يوحي اسمه، مليئاً بشركات الرقائق، فقد ضمّ عشرات الشركات الناشئة وحتى الشركات الضخمة في مجال الحوسبة مثل "هيوليت باكارد" و"أي بي أم" و"صن مايكروسيستمز" (Sun Microsystems) التي تصنع رقائقها بنفسها.

لكن في الآونة الأخيرة قضت "إنتل" على كثير من هذه الأنشطة بفضل هيمنتها على أسواق أجهزة الكمبيوتر الشخصية والخوادم، فيما هيمنت شركات مثل "سامسونغ إلكترونيكس" و"كوالكوم" على مكونات أجهزة الهواتف الذكية.

بالتالي، بدأ المستثمرون ينصرفون عن الاستثمار في الشركات الناشئة المتخصصة في صناعة الرقائق، بما أنهم ينظرون إليها على أنها أكثر كلفة واستهلاكاً للوقت وخطورة من البرمجيات. قال راجيف كيماني، خبير الرقائق الذي يستثمر في "مات إكس"، إنه "في حوالي عام 2014، كنت أزور شركات الاستثمارات الرأسمالية وأجد أنها تخلت عن كافة شركائها ذوي الدراية بأشباه الموصلات، كنت أتعامل مع أناس لا يفهمون ما كنت أتحدث عنه".

إلا أن صعود الذكاء الاصطناعي قلب معادلة المخاطر مقابل الربح. فقد استثمرت الشركات ضخمة الموارد مثل "أمازون" و"غوغل" و"مايكروسوفت" في تصميم رقائق على غرار "تنسور" لتقوم بوظائف الذكاء الاصطناعي. وقبل سنوات، ظهرت على الساحة شركات ناشئة مثل "غروك" (Groq) و"سيريبراس سيستمز" (Cerebras Systems) التي رافقت الانطلاقة الأولى للرقائق المخصصة للذكاء الاصطناعي. إلا أن هذه المنتجات كانت قد صُمّمت قبل أن تؤدي الإنجازات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي إلى بروز النماذج اللغوية الضخمة كمنتج مهيمن.

لذا اضطرت الشركات الناشئة للتأقلم فجأة مع الاهتمام المستجد بالنماذج اللغوية الضخمة وراحت تحاول تعديل منتجاتها دون إبطاء. وتمثّل "مات إكس" على الأرجح بداية ظهور موجة جديدة من الشركات الناشئة المتخصصة بالرقائق التي تركز على النماذج اللغوية الضخمة من الألف إلى الياء.

إمبراطوريات جديدة

يعترض الدخول إلى قطاع الرقائق مشكلة أساسية كبرى، لأن تصميم رقاقة جديدة وتصنيعها يتطلب ثلاث إلى خمس سنوات. (وخلال ذلك، لن تبقى "إنفيديا" متفرجة طبعاً، حتى إنها كانت أعلنت هذا الشهر عن صنع نسخة أسرع من وحدات معالجة الرسومات لديها).

سيتعين بالتالي على الشركات الناشئة توقع اتجاهات التقنية والمنافسين المحتملين في المستقبل، دون مجال لأخطاء قد تبطئ الإنتاج. كما سيتعين على شركات التقنية إعادة كتابة شيفرتها من أجل اعتماد رقائق جديد، وتلك عملية مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، ولن تفعل هذه الشركات ذلك إن لم تتوقع أن تحقق مردوداً كبيراً من هذا التحول. القاعدة العامة هي أنه يتعين على الرقاقة الجديدة أن تكون أفضل بعشر مرات على الأقل من سابقاتها ليقتنع العملاء بتغيير كافة برمجياتهم.

قال غروس إننا لا نزال في المراحل الأولى من إنشاء البنية التحتية اللازمة لدعم التحول إلى الذكاء الاصطناعي كقوة مهيمنة في مجال الحوسبة، وأضاف: "أعتقد أننا نتجه نحو دورة أشباه موصلات تجعل ما سواها يبدو باهتاً". إن أصاب في استشرافه، سيكون شبه حتمي أن إمبراطوريات جديدة في مجال الرقائق على وشك أن تنشأ.