سباق الفضاء الجديد أبطاله إيلون ماسك وجيف بيزوس

التنافس بين شركتي المليارديرين ماسك وبيزوس هو عماد خطة ناسا لإعادة البشر إلى القمر بعد نصف قرن من وصول أول إنسان إليه

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

اعتلى جيف بيزوس خشبة مسرح خافت الإضاءة في العاصمة الأميركية قبل خمسة أعوام مرتدياً بزة رمادية وقميصاً أسود، وكانت بجواره منصة تخفيها ستارة سوداء. وراح يعدد فوائد استكشاف القمر أمام حشد من الصحافيين والمتحمسين لاستكشاف الفضاء. قال: "إنه قريب إذ يبعد ثلاثة أيام فقط، يمكنكم الذهاب إلى القمر متى شئتم".

رفع بيزوس يده، فأزيحت الستارة كاشفةً عن مركبة فضائية ضخمة حملت اسم "بلو مون" (Blue Moon)، وهي مركبة الهبوط القمري التي عملت عليها شركة البحوث الفضائية التي يملكها طيلة ثلاث سنوات، وقال إنها مصممة لنقل المعدّات، ثمّ البشر إلى سطح القمر.

ولكن ما أغفل ذكره ذلك اليوم أن المركبة لم تكن إلا نموذجاً للعرض في الفعالية، وأنه ما يزال أمام شركة "بلو أوريجن" (Blue Origin) سنوات قبل أن تتمكّن من صنع مركبة فعّالة.

اقرأ أيضاً: الصين والولايات المتحدة.. من سيهبط على القمر أولاً؟

"سبيس إكس" في الطليعة

بعد شهرين ونصف الشهر، أتت لحظة أكثر واقعية في هذا السباق المستجد إلى الفضاء في مكان يبعد عن ذلك المسرح نحو 2700 كيلومتر. وكان إيلون ماسك يتابع بثاً حياً لها عبر شاشات ظهر فيها صاروخ فولاذي مصغر، يشبه صومعة حبوب لدى إقلاعه من الأراضي الطينية في جنوب تكساس. تمكّن ذلك النموذج الأولي الذي صنعته شركة "سبيس إكسبلورايشن تكنولوجيز" (Space Exploration Technologies) من أن يهبط واقفاً بعد تحليقه لبضعة لحظات. كان ذلك واحداً من أولى تجارب القفز التي تُجرى لما سيصبح لاحقاً صاروخ "ستارشيب" من "سبيس إكس"، وكان الهدف استعراض التقنية التي ستستخدمها يوماً مركبة فضائية بالحجم الفعلي للهبوط على أجرام سماوية أخرى، منها القمر.

بعد مرور أكثر من نصف قرن منذ ترك آخر إنسان بصمة قدمه على تربة القمر، يذكّر السباق إلى الفضاء بتنافس الستينات، لكن المتنافسين تغيروا، فبدل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أصبحت المنافسة بين "بلو أوريجن" لبيزوس و"سبيس إكس" لماسك اللتين تتسابقان على إعادة روّاد الفضاء إلى سطح القمر، في سعي تمول معظمه الحكومة الأميركية.

اقرأ أيضاً: لماذا استغرقت الولايات المتحدة 51 عاماً للعودة إلى القمر؟

تأسست كلّ من "بلو أوريجن" و"سبيس إكس" في مطلع القرن على يد اثنين من عمالقة التقنية، ولكن وجه الشبه بين الشركتين ينتهي عند هذا الحدّ، فسرعان ما تفوقت "سبيس إكس" على "بلو أوريجن"، وذلك بفضل إجرائها الاختبارات وعمليات الإطلاق بسرعة، غير مكترثة باحتمال حصول انفجارات خلال عملية التطوير، وهو ما يحصل بين حين وآخر. مع ذلك، على الرغم من تقدم "سبيس إكس" الكبير على "بلو أوريجن" في السباق، فإن تعقيد المهمّة قد يتيح لـ"بلو أوريجن" أن تهبط بمركبة ستكون غير مأهولة على الأرجح، على سطح القمر قبل "سبيس إكس". وقد رفضت "بلو أوريجن" التعليق، كما لم تستجب "سبيس إكس" لطلب التعليق.

اقرأ أيضاً: انفجار مركبة "ستار شب" الفضائية التي أطلقتها "سبيس إكس"

المريخ هو الهدف

يدير ماسك عمليات شركته الفضائية مثل أي شركة أخرى تبغي الربح، فيموّل تطوير المنتجات باستخدام أموال العملاء الراغبين بتحميل تجهيزاتهم على متن صواريخه، ومنهم الحكومة. في المقابل، تعامل بيزوس حتى وقت قصير على الأقل مع "بلو أوريجن" وكأنها مختبر بحثي، وستظهر السنوات القليلة المقبلة أي استراتيجية ستفوز في السباق إلى القمر.

قالت كاريسا كريستنسين، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة "برايس تيك" (BryceTech) الاستشارية المتخصصة ببحوث الفضاء إن "(سبيس إكس) باعت منتجات فيما أنفقت (بلو أوريجن) الأموال"، مشيرة إلى أن "ثقافة (سبيس إكس) قائمة على الاستيلاء على سوق تلو الآخر والعثور على عميل تلو الآخر، فيما ثقافة (بلو أوريجن) تلتزم باستراتيجية بحوث وتطوير متطلبة جداً".

اقرأ أيضاً: مستقبل الفضاء أكبر من بيزوس و برانسون و ماسك

صورة من مقطع مصور لاختبار تحليق نموذج "ستارشيب" من "سبيس إكس" في تكساس عام 2019
صورة من مقطع مصور لاختبار تحليق نموذج "ستارشيب" من "سبيس إكس" في تكساس عام 2019 المصدر: سبيس إكس

بدأ المسعى لإعادة البشر إلى سطح القمر في 2017 مع إطلاق "وكالة الفضاء الأميركية" (ناسا) برنامجها الذي عُرف لاحقاً باسم "أرتميس" (Artemis).

منحت "ناسا" في البداية عقداً واحداً فقط لشركة "سبيس إكس" لصنع مركبة هبوط قمري، وكانت هنالك عدة أسباب لذلك منها أن الأموال المتوفرة لديها لا تكفي إلا لمركبة واحدة، ودفع ذلك "بلو أوريجن" لرفع دعوى قضائية.

تمكنت "ناسا" بعد الضغط على الكونغرس من الحصول على تمويل إضافي لإبرام عقد ثان بقيمة 3.5 مليار دولار، وقعته مع "بلو أوريجن". وقد خُصصت هذه الأموال لتطوير المنتجات فيما يمكن للشركات الاحتفاظ بالمركبات التي تصنعها. قال كينت شوجناكي، نائب مدير برنامج أنظمة الهبوط بالمركبات المأهولة في "ناسا": "نحن نشتري الخدمة، ولا نملك المنتجات".

يهدف ماسك في نهاية المطاف إلى الوصول بـ"سبيس إكس" إلى المريخ، وهذا يبينه مصدر الوقود المستخدم في "ستارشيب". إذ تستخدم مركبة الهبوط القمري من "بلو أوريجن" الهيدروجين الذي يمكن نظرياً استخراجه من المياه على سطح القمر يوماً ما، أما "ستارشيب" فتستخدم الميثان، وهو جزيء يمكن إنتاجه على المريخ، الكوكب الذي قال ماسك إنه يرغب أن ينهي حياته فيه (ولكن ليس في لحظة الهبوط).

تحدي التزود بالوقود

مع ذلك، أقرّ ماسك بفوائد السفر إلى القمر فيما كانت "ناسا" تضع الأسس لمهمتها، وقال في عام 2017: "إذا كنت تريد إثارة حماسة الجمهور، لا بدّ أن تكون لديك قاعدة على القمر".

تنصّ مهمة كلّ من الشركتين على بناء مركبة فضائية قادرة على البقاء في مدار القمر لانتظار وصول رواد فضاء "ناسا" القادمين على متن مركبة أخرى أو المتواجدين في محطة فضاء قريبة، ثم ينتقلون إلى مركبة الشركة التي ستنقلهم إلى سطح القمر، ثمّ يعودون بعد فترة إلى مركبة الهبوط ويتوجهون إلى مدار القمر.

أعطى العقد ماسك دافعاً لتسريع العمل على مكوكه المستقبلي "ستارشيب" الذي يستهدف المريخ، ويعدّ أضخم وأقوى نظام صاروخي طُوّر في التاريخ، حيث يُستخدم الجزء الأعلى منه كمركبة قمرية قادرة على الهبوط بشكل مستقيم ثمّ الإقلاع مجدداً. وتخطط "سبيس إكس" لإجراء اختبار هبوط بمركبة غير مأهولة على القمر بحلول العام المقبل، على أن تنفذ أول هبوط للإنسان في 2026، مع أن ماسك و"ناسا" معروفان بأنهما غالباً ما لا يلتزمان بالأهداف الزمنية.

يكمن التحدي الأساسي الذي يعرقل المهمة في نظام إعادة التزود بالوقود الذي لم يثبت فعاليته بعد بما أنه يستلزم إطلاق عدد من مركبات "ستارشيب". لأن الخروج من جاذبية الأرض يتطلب كماً هائلاً من الطاقة وكلما زاد الوزن، زادت تكلفة الوقود. بالتالي، يتعذر على صاروخ بحجم "ستارشيب" بلوغ القمر والعودة منه بخزان مملوء على الأرض. لذا يستدعي نظام "سبيس إكس" إطلاق مركبة "ستارشيب" إلى مدار الأرض حيث تركن وتعمل كمحطة للتزود بالوقود. تطلق بعدها "سبيس إكس" حوالي 10 مركبات "ستارشيب" إضافية مملوءة بالميثان والأوكسيجين ترسو عند المحطة لإعادة ملئها. وما إن تمتلئ المحطة بالوقود بالكامل، حتى تنطلق مركبة فضائية أخرى من الأرض وترسو عند المحطة، حيث تتزود بالوقود وتتجه إلى القمر.

فرصة فوز "بلو أوريجن"

استهزأت "بلو أوريجن" بهذه الخطة قبل بضع سنوات، عارضة رسوماً بيانية تبيّن أن نظام إعادة التزود بالوقود المستند إلى عدة صواريخ بالغ التعقيد ولا يعوّل عليه. لكن بحسب شوجناكي، عادت "بلو أوريجن" وغيرت رأيها بعيداً عن الأنظار، وتبنت نظاماً شبيهاً بنظام "سبيس إكس" لمهامها إلى القمر. وقال: "توصلوا إلى قرارات هندسية مشابهة في ما يخصّ عدد المركبات التي يتعين إطلاقها والتزود بالوقود"، إذ تتطلب تقنية "بلو أوريجن" أربعة إلى ثمانية صواريخ نقل لإعادة تعبئة المركبة الفضائية في المدار الأدنى للأرض، بحسب ما شرحته ليزا واتسون مورغان، مديرة برنامج الهبوط بمركبات مأهولة في "ناسا".

تسمي "بلو أوريجن" محطة التزود بالوقود "الساحبة الفضائية" لأنه بعد ملء مركبة الهبوط التي تدور حول الأرض، ستتبع الساحبة الفضائية مركبة الهبوط إلى مدار القمر من أجل إعادة تزويدها بالوقود عند بدء رحلتها إلى سطح القمر. ويمكن لهذه الساحبة أن تتنقل ذهاباً وإياباً بين المدارين لجلب المزيد من وقود الهيدروجين.

تخطط "بلو أوريجن" لإرسال نسخة عن مركبة الهبوط، مخصصة لنقل البضائع، إلى سطح القمر لا تحتاج إلى مركبة ساحبة. وفي حال نجحت محاولتها، قد تتمكن شركة بيزوس من التغلب على شركة ماسك، على الرغم من أن الأهداف الزمنية التي حددتها "بلو أوريجن" لنفسها أقل طموحاً، حيث تخطط لإرسال البشر إلى القمر بحلول 2029.

مهل غير ثابتة

إلا أن الأهداف الزمنية ليست ثابتة في مجال الاستكشاف الفضائي. فقد صُممت مركبة الهبوط القمري من "بلو أوريجن" لتُطلق على متن صاروخ "نيو غلين" (New Glenn) من إنتاج الشركة الذي كان يُفترض أن يقلع للمرة الأولى عام 2020، ولكن ذلك لم يحصل بعد، وتزمع حالياً إطلاقه في سبتمبر إذا سارت الأمور على ما يرام. قال بيزوس في مقابلة على بودكاست ليكس فريدمان في ديسمبر إنه "على (بلو أوريجن) أن تعمل بسرعة أكبر، وكان هذا أحد الأسباب التي دفعتني لترك منصبي كرئيس تنفيذي لـ(أمازون) قبل بضع سنوات".

من جانبه، ما يزال ماسك رئيساً تنفيذياً لعدة شركات منها "سبيس إكس" التي ما تزال تقود قطاع الفضاء. وتمكنت "سبيس إكس" في آخر تجربة إقلاع أجرتها لـ"ستارشيب" في مارس من نقل المادة الدافعة من خزان إلى آخر، في خطوة صغيرة ولكن ذات مغزى كبير. وقد أعلنت لجنة استشارية في "ناسا" في 26 أبريل أنه فيما لا تزال "سبيس إكس" تحلل النتائج، كانت التجربة "ناجحة بكافة المقاييس".