الصين تٌغرق جيبوتي بالأموال والقروض وتثير قلقًا أمريكيًا فرنسيًا

ميناء دوراليه متعدد الأغراض.
ميناء دوراليه متعدد الأغراض. المصور: Sarah Waiswa for Bloomberg Markets
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

داخل عربة قطار دامت رحلته 10 ساعات، عبر إثيوبيا- التي تحيطها اليابسة من جهاتها الأربع- وحتى وصوله إلى دولة جيبوتي الصغيرة المطلة على البحر الأحمر، اختلطت أصوات الهواتف المحمولة بمزيج اللغات المحلية وهمسات المصلين، بينما تنقلت امرأة بردائها الأصفر بين المقاعد المنجدة بالقماش الخمري تجر عربتها وتنادي: "قهوة، مشروب البنّة، شاي، مشروب التشاي".

عندما تنظر حولك للمرة الأولى، لن تشتبه بأي وجودٍ صينيّ في سكة حديد أديس أبابا، إلى أن تلاحظ سائق القطار الصيني وبعض الركاب الصينيين المتكدسين فوق أحد أسرّة القطار، إلا أن "إلياس موسى دواله" (Ilyas Moussa Dawaleh)- وزير المالية الجيبوتي- أشار في الواقع إلى أهمية الصين في بلاده، حيث تأسست السكة الحديد بفضل ما ضخته بكين من قروض هائلة في البلاد، حتى بات معظم اقتصادها يعتمد على الديون الصينية.

الصين تضع جيبوتي ضمن مبادرة طريق الحرير

لربما لم تكن الصين لتظهر اهتمامها في جيبوتي لولا موقعها الجغرافي الاستراتيجي؛ حيث تمر نحو ثُلث ناقلات البضائع في العالم بمحاذاة هذه الأرض القاحلة في الطرف الشمالي الشرقي لإفريقيا، في الطريق الذي يصل بين قناة السويس والبحر الأحمر والمحيط الهندي.

اختارت الصين هذا الموقع المثالي في إطار مبادرة "الحزام والطريق" (Belt and Road)، التي تمزج فيها بين استراتيجيتها الاقتصادية وسياستها الخارجية ونفوذها الدولي، وتضخ فيها حصة طائلة من أموالها، في سبيل إعادة التوازن إلى التحالفات الدولية.

وكما هو الحال مع عشرات المحطات الأخرى، التي أنشأتها الصين على "طريق الحرير" الجديد، تثير هذه المعاملة الخاصة- التي تتلقاها جيبوتي من الصين- حفيظة باريس وواشنطن، دون أن تأبه بكين بذلك بتاتًا، ففي تعليقٍ للمتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "جينغ شوانغ" (Geng Shuang)، في بيان صحفي مقتضب، في 18 مارس 2019، قال إن "التعاون الصيني- الإفريقي يعم بالخير على القارة بأكملها، ويستطيع مواطنو تلك الدول الحكم على آثار المشاريع التي أسفر عنها هذا التعاون بشكل أفضل من غيرهم".

ستربط السكة الحديد- في نهاية المطاف- بين عدة مشاريع كبرى للبنية التحتية في جيبوتي، تملك الصين فيها مصالح أساسية، وتديرها من خلال شركات حكومية، تشمل "ميناء دوراليه متعدد الأغراض" (Doraleh Multi-Purpose Port)، و"محطة دوراليه للحاويات" (Doraleh Container Terminal)، و"مشروع التجمعات الصناعية الدولية" (Djibouti International Industrial Parks Operation)، الذي يمثل مركزًا صناعيًا ضخمًا، باستثناء سكة حديد تبعد في إحدى جهاتها مسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر عن قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني المقامة هناك عام 2017، وهي أول قاعدة عسكرية بحرية للصين خارج حدودها.

أما شركة "تشاينا ميرشنتس بورت هولدينغز" (China Merchants Port Holdings Co) الحكومية، فترغب في تحويل جيبوتي إلى "شيكو شرق إفريقيا"، على حد تعبير "دواله" ، في إشارة إلى منطقة التجارة الحرة على طول شاطئ مدينة "شنزن" في هونغ كونغ، الأمر الذي قد يكون مفيدًا لجيبوتي، حيث بلغ إجمالي ناتجها المحلي 1.85 مليار دولار عام 2017.

42 بالمئة من سكان جيبوتي يعيشون في فقر مدقع

ووفقًا لـ"برنامج الأغذية العالمي" (World Food Program)، يعيش 79 بالمئة من سكان جيبوتي في حالة فقر، بينما يعيش 42 بالمئة منهم في فقر مدقع. يذكر أن عدد سكان هذه الدولة- التي لا تتجاوز مساحة ويلز- يبلغ مليون نسمة، يعتمد ثلثهم- في معيشتهم- على تربية المواشي، في حين تحتاج الدولة- التي تشمل مواردها الشحيحة الملح والجبس- إلى استيراد 90 بالمئة من كمية الطعام التي تحتاجها.

يشير صوت الآلات- التي تعمل بنشاط- وغبار البناء المتصاعد على طول الشاطئ؛ إلى إحراز جيبوتي بعض التقدم في هذا الصدد، إلا أن ذلك لم يأت دون ثمن؛ فلا تزال هذه الدولة- ذات الحزب الواحد برئاسة "إسماعيل عمر غيله" (Ismail Omar Guelleh)- في منتصف طريقها نحو إكمال هذا المشروع الهائل، الذي بدأ كبرنامج لتحسين البنية التحتية، وبلغ تمويله 12.4 مليار دولار أمريكي، يأتي معظمها من قروض "بنك التصدير والاستيراد الصيني" (Export-Import Bank of China).

الشركات الصينية تسيطر على حصص كبيرة من أهم الموانئ في جيبوتي

قطعت الصين شوطًا كبيرًا في بعض هذه المشاريع، مثل "مشروع التجمعات الصناعية الدولية" (International Industrial Parks Operation)، حيث كانت المصابيح الحمراء- المتروكة منذ احتفالات السنة الصينية الجديدة- لا تزال معلقة في شهر مارس 2019.

وتعود ملكية 10 بالمئة من منطقة التجارة الحرة إلى "هيئة ميناء داليان" (Port of Dalian Authority) في الصين، في حين تعود 30 بالمئة منها إلى شركة "تشاينا ميرشنتس" (China Merchants)، التي تملك نحو خُمس "ميناء داليان" (Dalian Port)، أما ما تبقى فتملكه شركة "غريت هورن إنفستمنت هولدينغ" (Great Horn Investment Holding) التابعة بشكل كامل لـ"هيئة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي" (Djibouti Ports and Free Zones Authority).

كما تملك "تشاينا ميرشنتس" (China Merchents) نحو 23.5 بالمئة من شركة جيبوتية قابضة، تبيّن أنها تملك "محطة حاويات دوراليه" (Doraleh Container Terminal) و"ميناء جيبوتي الجاف" (Djiouti Dry Port) و"ميناء دوراليه متعدد الأغراض" (Doraleh Multi-Purpose Port)، فيما بدأ الأخير عملياته التشغيلية عام 2018، معتمدًا على قروض بلغت 580 مليون دولار، من "إكسيم بنك" (EximBank) الصيني، اعتبرها وزير المالية الجيبوتي "دواله" "تساهلية إلى حد ما".

صندوق النقد الدولي ينتقد تفاقم ديون جيبوتي.. والصين الدائن الأكبر

زادت قبضة الصين إحكامًا مع استمرار قروض جيبوتي بالتراكم، فوفقًا لتقرير نشره "صندوق النقد الدولي" (International Monetary Fund) عام 2017، ارتفع الدين العام لدولة جيبوتي- الذي تعود حصة كبيرة منه إلى الصين- من 50 إلى 85 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال عامي 2017 و2018.

كما انتقد الصندوق في ديسمبر 2018 حكومة جيبوتي على استمرار تراكم ديونها، قائلًا: "إن استراتيجية جيبوتي في الاستثمار في البنية التحتية لتحويل الاقتصاد وجعل الدولة مركزًا لوجستيًا وتجاريًا يوفر فرصًا عظيمة للنمو والتطور الاقتصادي، إلا أن تمويل هذه الاستراتيجية- بمراكمة الديون- أدى إلى أزمة ديون تفرض مخاطر جمة، وهو ما أدى إلى التنبؤ ببلوغ نسبة الدين 104 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية عام 2018".

غير أن الحكومة ترى الأمر من منظور آخر، حيث يقول "دواله": إن على "صندوق النقد الدولي" (IMF) ألا يذكر ديون الشركات الحكومية الجيبوتية في تقييمه، كون هذه الشركات (إما تفوق الأداء المتوقع منها أو تملك القدرة على تحقيق ذلك)، مضيفًا أن "ذلك لن يضر البلاد"، وذلك بعد عودته إلى مكتبه في مدينة جيبوتي، بعد اجتماعه مع نائب الرئيس الصيني "وانغ كيشان" (Wang Qishan) وممثلين صينيين رسميين آخرين في بكين، التي سعى فيها إلى إعادة جدولة القروض التي تلقتها جيبوتي من "إكسيم بنك".

جيبوتي تسعى لإعادة جدولة قروض صينية لمشروعات لم تدر الإيرادات المتوقعة بعد

كانت زيارة "دواله" للحديث عن قرضين بعينهما، أولهما بقيمة 460 مليون دولار لحصة جيبوتي من سكة الحديد، والآخر بقيمة 340 مليون دولار لشبكة أنابيب المياه.

يذكر أن سكة الحديد التي يبلغ طولها 750 كم هي مشروع مشترك بين إثيوبيا وجيبوتي، أنشئ بتمويل يزيد على 4 مليارات دولار من قروض "إكسيم بنك"، حيث يعبر 656 كم منها إثيوبيا، ليوفر لها خطًا تجاريًا مهمًا إلى البحر.

وترغب جيبوتي في إعادة تمويل هذين القرضين، لأن أيًا من المشروعين لا يدر الإيرادات المتوقعة منه في هذه المرحلة، حيث بدأت عمليات خط سكة الحديد عام 2018 متأخرة سنة ونصف السنة عن موعدها، في حين أنها لا تشغل- حاليا- سوى قطار واحد لنقل البضائع، بدلًا من ثلاثة، وفق ما خطط له. كما أدت مشاكل توليد الطاقة الكهربائية إلى الحيلولة دون عمل شبكة أنابيب المياه على الإطلاق، الأمر الذي علق عليه "دواله" بقوله: إن توقعات جيبوتي الكبيرة "لا تطابق الواقع دائمًا".

بينما كانت شمس أحد أيام شهر مارس تقترب من مغيبها، كان عشرات الأطفال يلعبون على قضبان السكة الحديد على أطراف مدينة جيبوتي، بإطلالة رائعة على المدينة ومنطقة الميناء وخليج تاجورة في الأفق البعيد. يقول "حمزة محمد عثمان" (Hamza Mahamad Osman) البالغ من العمر 14 عامًا: إن أكثر ما يمتعهم في اللعب على السكة الحديد هو مرور قطار بطيء من إثيوبيا خالي العربات، حيث "يمكنك القفز والاختباء بداخله، على أن تقفز خارجًا قبل أن يصل بك إلى الميناء، أو يُلقى بك على ظهر سفينة".

الصين تتواجد عسكريا في جيبوتي.. لكنها ليست الوحيدة

وعلى مسافة أبعد على السكة الحديد، يمكنك من محطة القطار في "ميناء دوراليه متعدد الأغراض" (Doraleh Multi-Purpose Port) رؤية الجدران العالية التي يتوارى خلفها معظم قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني عن الأنظار، حيث تبدو سطوح العديد من المباني، ذات الطوابق الثلاثة أو الأربعة، أشبه ما تكون بالمدينة المحرّمة في بكين. وحول هذه القاعدة، يقول الرئيس التجاري للميناء "هابون عبد الرحمن تشير" (Habon Abdourahman Cher): "نعم، إنها جميلة للغاية، غير أنه من الممنوع التقاط الصور".

ليست الصين الدولة الوحيدة التي تملك وجودًا عسكريًا لها في جيبوتي، حيث تحتضن البلاد مقر "القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا" (The U.S. Africa Command) في "معسكر ليمونيه" (Camp Lemonnier)، وهي منشأة عسكرية بحرية استكشافية تعد القاعدة الأمريكية الدائمة الوحيدة في إفريقيا. كما توجد فيها قواعد عسكرية يابانية وإيطالية وإسبانية، في وقت تخطط فيه السعودية لإنشاء قاعدة لها أيضًا. كما كان لفرنسا موطئ قدم في البلاد منذ 1894 على الأقل، فجيبوتي الحالية كانت حتى عام 1977 مستوطنة فرنسية تدعى "أرض الصومال الفرنسي".

"ما يمكن أن يبدو جيدًا على المدى القريب قد يتبين أنه أمر سيئ على المدى المتوسط أو البعيد"

عندما زار الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" (Emmanuel Macron) جيبوتي في شهر مارس 2019، لم يكتفِ بتوضيح نية بلاده بسط نفوذها في شرق إفريقيا وما حولها، بل أدان- إلى جانب ذلك- جيبوتي، لاعتمادها المفرط على سخاء الصين، قائلًا إن "ما يمكن أن يبدو أمرًا جيدًا على المدى القريب قد يتبين أنه أمر سيئ على المدى المتوسط أو البعيد"، مضيفًا أن باريس "لن ترغب في أن يقوّض سيادة شريكتها التاريخية ويضعف اقتصادها جيل جديد من الاستثمارات الدولية".

لهجة أمريكية حادة

وكانت الولايات المتحدة أكثر صرامة من فرنسا في تصريحاتها، حيث قال "جون بولتون" (John Bolton)- مستشار الأمن القومي للرئيس "ترمب" (Trump)- في خطاب ألقاه في واشنطن، في شهر ديسمبر 2018: "إن الصين تستخدم الرشاوى والاتفاقيات المبهمة والاستغلال الاستراتيجي للديون في إبقاء عدد من الدول الإفريقية رهينة رغباتها ومطالباتها"، علمًا بأن كلمته قوبلت برفض "جينغ" (Geng)- المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية- الذي لم يجد فيها سوى "اتهامات باطلة نابعة من عقلية الحرب الباردة".

ولكن "بولتون" (Bolton) حذر من العواقب في حال سيطرت شركة "تشاينا ميرشنتس" (China Merchents)، كما أُشيع، على "محطة دوراليه للحاويات" (Doraleh Container Terminal) عن طريق إعادة جدولة الدين، الأمر الذي علق عليه قائلًا: "لو حدث ذلك، سيميل توازن القوى في القرن الإفريقي إلى كفة الصين، ما سيمكنها من السيطرة أيضًا على جزء من التجارة البحرية بين أوروبا والشرق الأوسط وشمال آسيا".

أما "أبو بكر عمر هادي" (Aboubaker Omar Hadi) رئيس "هيئة الموانئ والمناطق الحرة بجيبوتي" (Djibouti Ports and Free Zones Authority)، فوصف تعليق "بولتون" (Bolton) بـ"الدعاية المضللة"، قائلًا: "إن لدينا خبرة محلية، فلماذا نضطر للطلب من جهات خارجية إدارة موانئنا؟"

في ذلك الحين، وبالقرب من خليج تاجورة، كان يجرى إنشاء برج للمكاتب وفندق وعدد من المخازن في "مشروع التجمعات الصناعية الدولية" (Djibouti International Industrial Parks Operation)، كما توجد بالقرب من منطقة التجارة الحرة الواسعة مجموعة من المشاريع التجارية الرئيسية في "محطة دوراليه للحاويات" (Doraleh Container Terminal) و"ميناء دوراليه متعدد الأغراض" (Doraleh Multi-Purpose Port).

حول ذلك، تقول "نعيمة عبد الله أحمد" (Neima Abdillahi Ahmed)- المديرة التجارية للتجمعات الصناعية- إنها رأت صورًا من القرن الماضي لمدينة "شيكو"، أي منطقة التجارة الحرة الصينية، وأدركت من خلالها ما يجرى في بلادها اليوم، قائلة: "قبل 30 عامًا، كانت شيكو تبدو كجيبوتي، خالية".

– كتب هذال المقال بمساعدة كل من "هان مياو" (Han Miao) يغطي "نزار مانك" (Nizar Manek) أخبار إثيوبيا والقرن الإفريقي لبلومبرغ في أديس أبابا.