من عرض أوبرا "إخناتون" المصدر: ميت أوبرا
المصدر: بلومبرغ

حين شاهد ريتشارد بروس باركنسون عرض أوبرا "إخناتون" التي أخرجها فيليب غراس للمرّة الأولى في عام 1985، غادرها دون أن تخلّف انطباعاً جيداً لديه. فالعرض الذي يروي محاولة والد الفرعون توت عنخ آمون الفاشلة لإحداث تغيير في معتقدات المصريين القدامى، ونقلهم من تعدد الآلهة إلى عبادة إله واحد، بدت كأنها تجسيد لـ"نظرة رومانسية مفرطة بالمثالية".

بعد مرور ثلاثين عاماً على ذلك، وتقديم إنتاج جديد للعرض الأوبرالي، بات باركنسون، أستاذ المصريات في "جامعة أوكسفورد"، والقيّم السابق في المتحف البريطاني، أحد أكبر المعجبين بهذه الأوبرا. لدرجة أنه منح نجمها الممثل الأمريكي أنتوني روث كوستانزو لقب زميل زائر بمركز البحوث في الإنسانيات في "جامعة أوكسفورد".

تجسيد الفرعون

بدأ عرض النسخة الحالية المتأثرة بالثقافة القوطية المحتدمة من أوبرا "إخناتون" في عام 2016، وهي من إخراج فيليم ماكديرموت، فيما تولّى توم باي تصميم الديكور المسرحي، وكيفن بولار تصميم الأزياء. ومن المقرر أن يعود العرض إلى "أوبرا متروبوليتان" في نيويورك في 19 مايو الحالي، بعد استراحة نهاية الموسم، وفوزها بجائزة "غرامي" في أبريل عن أفضل تسجيل أوبرا. يقول باركنسون: "بصفتي عالم مصريات، ربما أنا أشعر بنوع من الصدمة إزاء كمية التحرر في هذا العمل، لكنه نُفّذ بخيال مبتكر، إنه أسلوب ذكي جداً".

الممثل الأمريكي أنتوني روث كوستانزو، في عرض أوبرا "إخناتون" المصدر: أوبرا متروبوليتان

قال النجم المؤدي لهذه الأوبرا، كوستانزو: "حين أخبروني عن الزمالة قلت: أنتم تعرفون أنّي لست فرعوناً حقيقياً، أليس كذلك؟"، مضيفاً: "أعتقد أنه أصبح أمراً ضمنياً -قد يبدو هذا سخيفاً بعض الشيء- لكني أصبحت بمثابة مرادف لإخناتون في هذه المرحلة".

في الواقع، فإن الأمر ليس سخيفاً على الإطلاق. يُعَدّ كوستانزو من مُغَنّي "كاونترتينور" النادرين في الأوبرا (أي من الرجال القادرين على الغناء ضمن المدى الصوتي الذي تتمتع به النساء تقليدياً)، وهو يؤدي دور البطولة في "إخناتون" منذ بداية عرض النسخة الحالية في دار أوبرا "لندن كولوسيوم". حتى إنه هو نفسه يشبه الفرعون.

عن ذلك يقول باركنسون: "إذا نظرت إلى صور أنتوني خلال أدائه، وقارنتها مع أحد تماثيل إخناتون التي تمثّل نصفه العلوي في متحف برلين، فسترى أنهما متشابهان فعلاً".

وسط الحرب.. إعادة قطع فنية روسية من مؤسسة برنار أرنو في باريس إلى موطنها الأصلي

تحرر من النمطية

يضيف باركنسون أنه منح كوستانزو الزمالة (التي تبدأ في نوفمبر) تقديراً لمساهمات أوبرا "إخناتون" وترويج كوستانزو لها، في إحداث تغيير في الأنماط التي قيّدت تاريخياً علم المصريات. وقال باركنسون إن "الثقافة المصرية القديمة بدأت تنفض عنها الأفكار النمطية التي أحاطت بها لفترة طويلة". وأضاف: "حان الوقت لذلك، تذكروا مثلاً أفلام (المومياء) و(إنديانا جونز)، إنها فعلاً مسيئة جداً". في المقابل فإن أوبرا "إخناتون" كما يقول، تصوّر الفرعون "شخصاً حداثياً يجب التعامل معه بجدية بصفته مفكراً وإنساناً".

أسلوب الأزياء يخرج عن التنميط المعتاد عند تناول الثقافة المصرية القديمة المصدر: أوبرا متروبوليتان

وقد تكون الطريقة الأنسب لوصف الأسلوب الجمالي لهذه الأوبرا هي أنه يذكّر بلمسة ناعمة من الثقافة القوطية مع لمحة من الحداثة. وهي تمثّل أبعاداً مختلفة تحمل مرونة في هوية شخصية إخناتون وجوانبها الذكرية والأنثوية، وتمثل ثورته الدينية أيضاً. كما أن الديكور المسرحي البسيط نسبياً يتجنب التصاميم المبتذلة في تصوير مصر القديمة، فهو لا يتضمن كتابات باللغة الهيلوغريفية أو أشجار النخيل كما هو معتاد. بدلاً من ذلك، تتولّى مجموعة من مؤدي الحركات البهلوانية تقديم رؤية بصرية درامية. وذلك يُعَدّ خياراً يتسم بالدقة التاريخية، حسب باركنسون الذي قال: "أداء الحركات البهلوانية هو إضافة ذكية جداً. فغالباً ما يقال إن هذه الفنون كانت أمراً يمارسه المصريون القدامى، لذا لا يطرح الأمر أي مفارقة تاريخية".

جولة في أبرز معالم معرض بينالي البندقية الشهير للعمارة 2021

الأزياء

وفي ما يخصّ الأزياء، يمضي كوستانزو الدقائق الستّ الأولى من عرض الأوبرا دون ملابس، بعكس التصوير التقليدي الذي يرتدي فيه المؤدون الملابس الداخلية الأمامية التي تمثل كابوساً للجماهير. وفي بقية الوقت يطلّ كوستانزو وأفراد الطاقم بملابس من الشاش وأغطية رأس مستوحاة من الحقبة الفيكتورية، في إشارة إلى الفترة التي كانت فيها الثقافة الغربية مفتونة بمصر القديمة. إلا أن الأداء الذي أثار انشراح باركنسون، المتخصص بالشِّعر في مصر القديمة، جاء في ذروة المشهد الثاني، حين يغنّي كوستانزو أغنية تستند إلى قصيدة مصرية قديمة، ثمّ يصعد سلّماً ليعبد جرماً مشعاً ضخماً. وقال باركنسون عنها: "إنها مقاربة فنية رفيعة المستوى لنصّ قديم، وهو أمر لا نصادفه دائماً".

ويبدو أن الجمهور يوافقه الرأي، فعند افتتاح العرض في لندن ثمّ انتقاله إلى لوس أنجلوس بِيع معظم تذاكر العروض. وبعد انتقاله إلى "أوبرا متروبوليتان" في نيويورك عام 2019 كان المسرح يمتلئ كلّ ليلة تقريباً. وقال باركنسون: "الملهِم في الأمر هو أن ما يفعله الباحث الأكاديمي بالبيانات التاريخية هو نفسه ما يفعله أنتوني". ومن خلال تسليط الضوء على هذا الدور "يقدّم ذلك شكلاً مختلفاً من إعادة ابتكار التاريخ القديم، إلا أن الأمرين يعبران عن الرؤية نفسها القائمة على بعث الحياة في الماضي".