الوباء جعل المدن أكثر هدوءاً.. لكنه زادها توتراً

الرسم من إعداد: إيغور باستيداس
الرسم من إعداد: إيغور باستيداس المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قبل الوباء كان الشارع الذي أسكُن فيه في لندن بمثابة بقعة نادرة من الهدوء في مدينة صاخبة، لكن عندما بدأت عمليات الإغلاق في 2020 انقلب هذا الوضع رأساً على عقب.

ففي أثناء قيادتي دراجتي باتجاه وسط لندن، مررت بعديد من الشوارع التي بدت مهجورة وهادئة. لكن، وعلى النقيض من ذلك، بدا أن الشارع أكثر ضوضاء حتى من دون هدير السيارات وأزيز الطائرات كما هي العادة. لم يكن ذلك فقط بسبب الجلسة الأسبوعية لـ"التصفيق لمقدمي الرعاية" -التي يصفق فيها الناس على عتبات الأبواب لإظهار الدعم لخدمة الصحة الوطنية- ولا حتى صوت الصفارة التي تطلقها سيارات الإسعاف من حين إلى آخر. ففي ظل وجود معظم السكان حالياً في منازلهم التي يعود تاريخ بنائها إلى عشرينيات القرن الماضي، أصبحت مضطراً إلى سماع صبي مراهق يصرخ على ألعاب الكمبيوتر خلف جدار غرفة معيشتي، فيما يقوم جيراننا في الطابق العلوي بتعويض الفرص الاجتماعية الضائعة عبر الرقص في حالة سكر فوق رؤوسنا. وفي الشقة المجاورة تقوم عائلتان بالشواء وعزف موسيقى السالسا في حديقتهما المشتركة، فيما يبدو وكأنها ساعات غريبة الأطوار.

اقرأ أيضاً: دراسة: الحياة في المدن الكبرى لا تجعلك مكتئباً

بناء برج سكني قد يكون أفضل للمناخ من إنشاء حديقة


ضوضاء ما بعد الوباء

سائقو التوصيل، ممن باتوا أكثر انشغالاً بعد إغلاق معظم المتاجر، يطلقون يومياً الصيحات وهم يكافحون للمرور في شارعنا الضيق، ما يثير نباح الجِرَاء الثلاثة الجديدة التي اشتُريَت بعد الإغلاق -واحد منها لي- وكأنهم كورال جماعي. كذلك تبدو الببغاوات البرية التي تتغذى على شجرة الكرز المجاورة وكأنها تصرخ بصوت أعلى، ربما لأنها تخشى من أنها لم تعُد تلفت الانتباه إليها.

حتى مع تغريد العصافير في الفناء الخلفي، التي تبدو وكأنها تكشط السطح في الآونة الأخيرة، اتضح لي أن شعوري قد يكون السبب فيه هو الحساسية المفرطة، إذ إنّ أذنيَّ تأقلمتا مؤخراً مع بيئة صوتية مجردة من الهمهمة الخلفية الحضرية.

إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أنني لست وحدي، إذ تؤكد دراسة أجرتها كلية لندن الجامعية ظاهرة متميزة، وهي أنه خلال عمليات الإغلاق العام الماضي انخفض متوسط ​​مستويات الضوضاء بالفعل في كل أنحاء لندن. وكان في الشكاوى من الضوضاء أيضاً تغيير كبير، ولكن ليس بالطريقة التي قد تتوقعها، إذ ارتفعت بنسبة تزيد على 47%، وفقاً لتحليل أجراه الباحثون أنفسهم من كلية لندن الجامعية، وكان معظم أسباب هذه الشكاوى من ضجيج الجيران في الأحياء.


إزعاج عالمي

ليست لندن أو المملكة المتحدة الحالة الوحيدة في هذا السياق، إذ أُبلغ عن زيادات في شكاوى الضوضاء من نيوزيلندا إلى البرازيل. قد تكون حركة المرور –التي كانت السبب الأكبر وراء ارتفاع ضجيج الضوضاء الحضرية إلى حد بعيد- قد هدأت، لكن في كل أنحاء العالم كان سكان المدن المحاصرون يجد بعضهم بعضاً أكثر إزعاجاً من أي وقت مضى.

اقرأ أيضاً: العالم يحتاج إلى تشييد مزيد من المباني المناسبة للجميع

مع عودة الحياة الطبيعية في المدينة ببطء، تستحق هذه الظاهرة التفكير فيها. فعلى الرغم من كون عمليات الإغلاق مرهقة، فإنها أعطت عديداً من سكان المدن فرصة للاهتمام بمحيطهم المباشر عن كثب، لاكتشاف (أو إعادة اكتشاف) مجتمعاتهم المحلية. وحصل البعض على مهلة من التنقل، كما يخططون الآن لمواصلة العمل من المنزل لجزء من الأسبوع على الأقل. سيُسعِد ذلك مخططي المدن، ممن كانوا يسعون -حتى قبل الوباء- إلى إيجاد تكامل بين الأماكن المتباينة التي يعيش الناس ويعملون ويتسوقون ويسترخون فيها (على سبيل المثال، يتخيل نموذج تخطيط "مدينة الـ15 دقيقة" في باريس أن سكان المدينة سيلبّون جميع احتياجاتهم الفورية ضمن مسافة قصيرة سيراً على الأقدام).

قد تكون نتيجة كل هذا عدداً أقل من التنقلات المليئة بالحركة، لكن سييكون هناك أيضاً مزيد من الاحتكاك، ليس فقط بين الجيران ولكن بين السكان والشركات أيضاً. وفي حين أن التحول الوشيك إلى المركبات الكهربائية سيجعل المدن أكثر هدوءاً إلى حد ما، فإنه سيجلب أيضاً ضوضاء الأحياء، مثلما حدث في أثناء عمليات الإغلاق، وستكون تلك الضوضاء أكثر قرباً لمحيط إدراك الأشخاص.


ضرر جسدي حقيقي

لذا يبدو أن الصوت أصبح جزءاً رئيسياً من إعادة التفكير في المناطق الحضرية بعد الوباء، فإلى جانب الحدود القصوى المعينة، يمكن أن تسبب الضوضاء ضرراً جسدياً حقيقياً، إذ ربط الباحثون ذلك بفقدان السمع، والتوتر، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض أخرى. لكن في كثير من الأحيان لا يؤدي تقليل حجم الضوضاء في مكان ما ببساطة -كما توضح تجربة الإغلاق- إلى جعل الناس أنفسهم أكثر سلاماً مع محيطهم الخارجي.

إذا أردنا تعزيز بيئة صوتية يمكن للمواطنين التعايش فيها بسعادة -وعلينا أن نعتقد بأن بمقدورهم فعل ذلك- فيجب علينا تغيير نهجنا. وبدلاً من الميل إلى التركيز على كمية الصوت في بيئتنا، علينا أن نفكر كثيراً في جودته.

لقد اتبعنا مدرسة فكرية حديثة بين عديد من الباحثين والمنظرين الصوتيين، تُعرف باسم "منهج المشهد الصوتي"، ويمكن لهذه المدرسة أن تساعد في التفكير بمزيد من الفروق الدقيقة حول كيف يجب أن تبدو أصوات المدن، وكيف يمكن لهذه الفروق أن تحافظ على الأماكن التي يريد الناس البقاء فيها. وبدأت هذه المدرسة في تغيير طريقة إدارة المدن في أوروبا، ما أثّر في التخطيط في برلين، وفالنسيا في إسبانيا، وليمريك في وأيرلندا، والحي المالي في مدينة لندن.

تحتاج الشركات والمخططون الحضريون إلى مراعاة هذه التفاصيل الدقيقة (يقوم البعض بذلك بالفعل، إذ يهتم تجار التجزئة بكيفية تأثير الموسيقى في سلوك العملاء، وتستخدم بعض المطارات نغمات عصافير متداخلة -أكثر نعومة وأقل صرامة من موسيقى الموزاك- للتغطية على الضوضاء الصادرة عن الطائرات، وتشجيع الناس على الاسترخاء).

إنها طريقة أكثر تعمّداً لإدارة الصوت، ويمكن أن تساعد في تنشيط شوارع التسوق التي تغمرها ضوضاء المرور، وتهدئة السكان بالقرب من الملاعب والأماكن الأخرى، التي تتجمع فيها الحشود الصاخبة، ناهيك بأن أرباب العمل الذين يرغبون في جذب العمال المترددين في العودة إلى المكاتب ذات المخططات المفتوحة من المرجح أن يجدوا مهمتهم أسهل إذا فكروا بحرص أكبر في البيئة السمعية المحيطة التي يحبها الناس بالفعل.

تقييم البيئة الصوتية

وفقاً لفرانشيسكو أليتا، الباحث في كلية بارتليت للهندسة المعمارية في كلية لندن الجامعية، فإن تقييم البيئة الصوتية بشكل منفرد على أنها عالية أو هادئة، يشبه "الحكم على الحساء فقط من خلال درجة حرارته، فإذا كان ساخناً جداً فستحتاج بالطبع إلى معرفة ذلك، ولكن إذا كنت تريد التفكير في التوابل والنكهة فأنت بحاجة إلى نهج مختلف".

هذا يعني الخوض في أعماق مجموعة من الخواص الذاتية، إذ تختلف المواقف تجاه الصوت على نطاق واسع وفقاً للعمر والفئة والخلفية الثقافية وقدرة السمع. ويحدد عديد من العوامل، إلى جانب مستوى الصوت، درجة الاستمتاع أو الضيق الذي يسببه لنا الصوت.

يمكن أن يصل ضجيج صوت عرض مباشر للأوركسترا إلى 100 ديسيبل، وهو مستوى الصوت ذاته الناتج عن بعض آلات ثقب الصخور، لكنه صوت ينمّ عن كثير من الحب، والغرض منه هو إرضاء المستمعين، كما اختار الجمهور بشغف الاستماع إليه لمدة زمنية متفق عليها. وعلى النقيض من ذلك، قد يشعر المرء وكأنه يتعرض للتعذيب بسبب الصوت الأكثر خفوتاً الناتج عن صفير إنذار الدخان في شقة فارغة مجاورة، وهو أمر مؤلم لأنه لا مفر منه ولا نهاية له.

بالابتعاد عن مستوى الصوت البسيط، قد يسأل باحثو المشهد الصوتي عمّا إذا كانت البيئة "مليئة بالأحداث" أو "هادئة"، وما إذا كان الناس في هذا المكان يجدونها ممتعة أم لا. هذان المحوران -المتمثلان في "ممتع/ غير ممتع"، و"مملوء بالأحداث/ هادئ"- يصفان بشكل أوثق التجربة الحية الفعلية للصوت، إذ تعتبر الحديقة الهادئة في يوم مشمس مشهداً صوتياً "هادئاً" يُنظر إليه في جميع أنحاء العالم تقريباً على أنه ممتع، في حين أن الشارع الليلي المهجور، الذي يكون هادئاً هو الآخر، قد لا يكون ممتعاً لأنه يبدو غير آمن. وبالمثل فإن الطريق المزدحم "المليء بالأحداث" والمدعوم بحركة المرور الصاخبة أمر مزعج لمعظم المستمعين، ولكن قد يبدو سوق الشارع الصاخب مع موسيقى شوارع جيدة ممتعاً.

اقرأ أيضاً: الجانب المظلم من حملات زراعة الأشجار في المدن


فروق فردية

تكمن مشكلة مخططي المدن الحضرية في عدم وجود اتفاق جماعي على ماهية بيئة الصوت الممتعة، سواء كان ذلك من حيث مستوى الصوت أو خواصه، فقد ينزعج الناس في إحدى ضواحي أمريكا الشمالية من مستويات الصوت التي يشعر سكان المدن في الصين بأنها طبيعية. مع ذلك، قد يرفضون أيضاً درجة الهدوء الكبيرة، التي يقدرها سكان سويسرا، إذ لا يشجع القانون الاتحادي هناك الناس على القيام بالأعمال المنزلية المزعجة، مثل: التنظيف بالمكنسة الكهربائية، وغسل الملابس، في أثناء المساء وأوقات الغداء وفي أيام الآحاد والعطلات.

"ما يبغضه الناس هو فرض مشاهد صوتية معينة عليهم، لكن إذا أعطيتهم إحساساً بالسيطرة فسيجعل هذا الأمر أكثر قبولاً لديهم".

لا يوجد إجماع حول أنواع الأصوات الدخيلة أيضاً. وجدت الأبحاث التي قارنت المملكة المتحدة مع الصين وتايوان اختلافات ملحوظة، فعندما سُئل سكان شيفيلد في إنجلترا عن نوع الأصوات التي يفضلون إدخالها إلى منطقة معيشتهم من الخارج، اختار 71.4% من المشاركين أصوات العصافير ولم يختَر أحد الموسيقى. لكن عندما طُرح السؤال ذاته على سكان بكين اختار 60% الموسيقى أولاً، و17.5% فقط اختاروا أصوات العصافير.

قد لا يتعلق الأمر بالأصوات نفسها، كما يشير جيان كانغ، أستاذ الصوتيات في جامعة شيفيلد والمؤلف المشارك في دراسة 2013، فقد تكون الموسيقى العامة مؤشراً ضمنياً على الانسجام المجتمعي في الصين، وهي رابطة تنبع من ممارسة أنشطة مثل تأدية رقصة المربع، التي تحظى بشعبية خاصة بين كبار السن. وفي حين أن الطيور لها ارتباطات إيجابية بالمساحات الخضراء في المملكة المتحدة، كما يقول كانغ، فإن المستويات العالية من التلوث في بكين تعني أن الطيور الحضرية لا يُنظر إليها بالضرورة على أنها طيور رعوية (ريفية). ويضيف كانغ: "لا يتعلق الأمر بصوت العصافير نفسها، بل بما ترتبط به مصادر أصوات العصافير".

اختلافات ديمغرافية

أيضاً يمكن أن تظهر الاختلافات بين الطبقة الاجتماعية والعمر في مقدمة الفروق، فقد وجدت دراسة أخرى شارك في تأليفها كانغ أن السكان الأصغر سناً في شيفيلد يقدّرون الهدوء في محيطهم بدرجة أقل بكثير من كبار السن. وكلما ارتفعت قيمة العقارات في منطقة ما في شيفيلد، زاد احتمال تقدير السكان لأهمية الهدوء. وتُظهِر لندن أيضاً ارتباطاً واضحاً بين الثروة النسبية للمنطقة وعدد شكاوى الضوضاء التي يجري تقديمها، إذ قُدِّم أكبر عدد شكاوى لكل مقيم في اثنين من أغنى أحياء المدينة، وهما: كنسينغتون وتشيلسي.

لكن هذا ليس دليلاً على أن الأشخاص ذوي الدخل الأكثر انخفاضاً يهتمون بالضوضاء بشكل أقل. ويقول أليتا إن الاختلافات بين الأجيال والفروق الاجتماعية "تطرح أسئلة حول العدالة البيئية". وأضاف: "ربما لو كنت تعيش في منطقة أكثر تدهوراً، وتعاني من مشكلات خطيرة أخرى، لن تكون الضوضاء من بين أولوياتك. لكن إذا كنت تعيش في منطقة أكثر ثراءً، فقد تكون أكثر عرضة للشكوى، لأنك ترى الضوضاء بوصفها انتهاكاً لخصوصيتك".

إن ثقافة التخطيط التي تحركها شكاوى الضوضاء قد تفضل أذواق ورغبات أولئك الذين لديهم وصول أقرب إلى السلطات -مثل كبار السن والميسورين مالياً- فيما تحرم الأصغر سناً والفقراء والأشخاص من الأقليات الدينية والعرقية من أي ميزة.


إخفاء الأصوات بالأصوات

إن فكرة استخدام صوت للتغطية على صوت آخر ليست جديدة. لقد أضاف المصممون والبناة أصواتاً لتحسين البيئات لآلاف السنين، وزرعوا أشجاراً تجذب الطيور المغردة، وركّبوا نوافير في الأماكن العامة لجعلها أكثر راحة. وتعود فكرة استخدام النوافير للتغطية على ضجيج حركة المرور إلى حقبة الستينيات على الأقل، عندما صُممت حديقة "بالي بارك" الصغيرة في مانهاتن، وفيها شلال متلاطم لتخفيف الضوضاء القادمة من شارع 53.

اقرأ أيضاً: كيف تصمم مدينة ذكية مائياً؟

ويمكن ببساطة احتضان بعض الضوضاء المرغوب فيها لتعزيز الأعمال. كان هذا هو التفكير الكامن وراء استراتيجية مدينة لندن، التي تحمي وتشجع رنين أجراس الكنيسة كعلامة رئيسية للهوية التاريخية للمنطقة، كما تشجع العمال المحليين على القيام "بجولات التنزه الصوتي" لتقدير الجمال المحيط بهم. وأصبحت المنطقة أكثر حيوية في السنوات الأخيرة، وفتحت لاحقاً الحانات وأماكن التلاقي بعد حلول الظلام، في المناطق التي كانت منبوذة في ما مضى.

في الآونة الأخيرة، جرّبت المدن إضافة أو تحويل الأصوات إلكترونياً. وفي عام 2016 حاول معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا في أستراليا زيادة جاذبية متنزهَين في سيدني وملبورن -كلاهما على جانبي الطرق السريعة- من خلال التغطية على ضوضاء حركة المرور، وذلك باستخدام برامج المعالجة. وجرى تحويل الأصوات التي جُمعت من الميكروفونات الموجودة في حواجز الضوضاء إلى أصوات أكثر وضوحاً وإمتاعاَ، وهي تلمح بشكل تجريدي إلى صوت الأمواج المتدفقة أو حك حافة الزجاج، ثم تُذاع بصوت منخفض عبر مكبرات الصوت. وأدت خواص التغطية الصوتية الموجودة في الموقع والتي تخفي صوت المركبات إلى تغيير العادات المحلية، إذ وجد السكان القريبون فجأة أنه من الممكن ترك نوافذهم مفتوحة. وقالت مديرة مدرسة ابتدائية بالقرب من أحد المتنزهَين إن تلاميذها بات بمقدورهم وللمرة الأولى استخدام هذا المتنزه للاستراحة.


استماع واستمتاع

الأداة الرئيسية لنهج المشهد الصوتي بسيطة للغاية، واختُرعت في أواخر الستينيات، عندما أطلق الملحن آر موراي شيفر مشروع "المشهد الصوتي العالمي" (World Soundscape WSP) في جامعة سايمون فريزر في فانكوفر، إذ تدعو المسيرة الصوتية المشاركين إلى الاستماع باهتمام في أثناء تجولهم في مكان ما، ثم مناقشة انطباعاتهم. ووفقاً لرائد مشروع المشهد الصوتي العالمي والملحنة هيلديغارد فستركامب، يكون الأمر في البداية أشبه بشكل من أشكال النشاط لتسليط الضوء على التلوث الصوتي، لكن الهدف ليس فقط زيادة الوعي بالبيئة التي تحيط بالإنسان، وإنما تكون أيضاً "فرصة لفحص علاقتنا كمستمعين إلى البيئة".

لقد زودتني جولة تنزه صوتيّ في الحيّ الذي أعيش فيه خلال مرحلة ما بعد الإغلاق بصورة مختلفة، مقارنة بتلك التي كونتها عندما كان الجميع يعملون من المنزل. وكان أكثر ما يلفت الانتباه هو الهمهمة الخلفية لحركة المرور، لأنه تبين أنها لم تكن همهمة على الإطلاق عندما استمعت إليها عن كثب.

كان ضجيج المرور الذي سمعته عبارة عن مجموعة صاخبة من الأدوات غير المنسقة، بما في ذلك: هدير الحافلات ذات الطابقين، وقعقعة الدراجات البخارية العالية، والأصوات الشبيهة بالرعد التي تطلقها الشاحنات. وحتى صوت السيارة الواحدة قمت بملاحظته من جديد وهي تصدر أصواتاً كثيرة، مثل: أزيز العجلات، وصرير المحاور، وهدير المحرك، مع إصدار نغمة مختلفة في كل حركة (عندما تسود المركبات الكهربائية ستنخفض ضوضاء المحركات بشكل حاد، لكن ضوضاء الطريق الأخرى ستبقى). وعلى ما يبدو فنحن ندرك ضجيج حركة المرور مثل صوت الطائرة من دون طيار في الخلفية، إذ لا يكون الأمر انعكاساً لأصواتها الرتيبة الفعلية بقدر ما هو محاولة منا لحجب الانزعاج.

إعادة تصميم الساحات

أفضل مثال حتى الآن على تنفيذ خطة المشهد الصوتي هي منطقة نوينر بلاتز في برلين، وهي ساحة غير جذابة تقع عند تقاطع مزدحم، أُعيد تصميمها بالتعاون بين السكان المحليين والجامعة التقنية في برلين في عام 2012. وعند تسجيل انطباعات السكان المحليين خلال جولات التنزه الصوتي، طلبوا وضع أصوات طبيعية أكثر وتقليل الضوضاء، وعدم حجب المناظر الطبيعية بالجدران العالية، حتى يتسنى للآباء الاستمرار في مراقبة الأطفال وهم يستمتعون باللعب. ولحلّ ذلك الأمر، أعيد تصميم الطرق المبطنة بحواجز بطول الصدر، وفرت ملاذاً لمناطق الجلوس، لكن لا يزال من الممكن كشف المنطقة بأسرها. وأصبحت هذه المناطق بمثابة جزر هادئة، إذ جرت تغطية الضوضاء المحيطة بالأصوات الطبيعية مثل تغريد العصافير أو صرير الحصى. وبينما ظلت ضوضاء المرور موجودة، عاد مزيد من العائلات إلى الساحة، التي أصبحت هادئة بما يكفي لاستضافة جلسات احتساء القهوة.

وبسبب اعتراف مخططات المشهد الصوتي بالاختلاف الثقافي والاجتماعي، فإنها تسلط الضوء على الكيفية التي يمكن لمفاوضات قضايا الصوت أن تؤدي بها إلى مزيد من الانسجام مع الحي. ويقول أليتا: "قال لي أحد زملائي ذات مرة إن العلاقات الطيبة مع المجتمع تكون جيدة بقدر تقليل الضوضاء بنحو 10 ديسيبلات". وأضاف: "ما يبغضه الناس هو فرض مشاهد صوتية معينة عليهم، لكن إذا أعطيتهم إحساساً بالسيطرة -عبر السماح للناس بمعرفة الشيء قبل وقوع الحدث، وحصره في مكان زمني محدد، وتشجيع الناس على المشاركة- فسيجعل هذا الأمر أكثر قبولاً لديهم، لأنهم كانوا جزءاً من المفاوضات".


سياسات مناسبة للجميع

إذا استشارت الحكومات المحلية ومديرو الممتلكات من يستخدمون مساحاتهم أكثر، فإنهم لن يفعلوا سوى ما يفعله الجيران دائماً. وتشير تجربتي الخاصة إلى مقدار ما يمكن أن تفعله العلاقات المجتمعية الجيدة لجعل صوت الآخرين أكثر احتمالاً. ففي أحد أيام الأربعاء من الصيف الماضي، أقام جيراني حفلة عائلية في الحديقة خلال فترة ما بعد الظهيرة، وكانت الحرارة شديدة جداً لدرجة لا تسمح بإغلاق النوافذ. وبينما كنت غير قادر على سماع مكالمات العمل، انحنيت فوق السياج وسألتهم ما إذا كان بمقدورهم الحفاظ على الأصوات هادئة حتى الساعة 6 مساءً. لكنهم لم يفهموني، وفعلوا عكس ما اقترحته، إذ أبقوا الموسيقى تنبض بأعلى صوت، ثم وقفوها في تمام الساعة 6 مساء.

ورغم أن هذا لم ينقذ يوم عملي، لكنه لا يزال يحرك مشاعري. فمن الواضح أن الأسرة أرادت أن تكون جارة جيدة، وكانت تحاول فقط الاستمتاع ببعض الوقت خلال الأوقات الصعبة. وشعرت أنني أستطيع التفاوض معهم على حل وسط يجعل الجميع سعداء، إذا كنت بحاجة إلى الإحساس بشعور أفضل.

ورغم أنه لا يمكن للمدن والشركات والمخططين الحضريين التحكم في مستويات الصوت بمجرد تدلية رؤوسهم من فوق السياج، لكن يمكنهم تجنّب فرض نهج موحد ليناسب الجميع، وبدلاً من ذلك توضع سياسات الضوضاء التي تفضل العلاقات المجتمعية على القياسات الكمية البسيطة. فقد تزعج المدن طبلة الأذن في بعض الأحيان، لكن إذا ضبطتها بحرص فيمكن أن تكون الأصوات التي تصدرها جميلة.