تطور "كوفيد" لن يتوقف عند "أوميكرون"

المصدر: بلومبرغ
David Fickling
David Fickling

David Fickling is a Bloomberg Opinion columnist covering commodities, as well as industrial and consumer companies. He has been a reporter for Bloomberg News, Dow Jones, the Wall Street Journal, the Financial Times and the Guardian.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

مع رصد "أوميكرون" كأحدث متغيرات الفيروسات التاجية بعد "سارس كوف-2" أو متحورات كورونا، المسبّب لـ"كوفيد-19" في أكثر من عشرين دولة، ما الذي يمكن أن نتوقعه بعد ذلك من الفيروس الذي يسبّبه؟ هل "سارس كوف-2" أكثر براعة من الفيروسات الأخرى في تطوير سلالات جديدة؟ وهل سنكون قادرين على مواكبة ذلك في إطار السباق بين العدوى ومنع انتشارها؟ حول تلك القضية، أجرى ديفيد فليكنغ حواراً مع الأستاذ الجامعي بيتر وايت، خبير التطور الفيروسي، والذي يترأس مختبر "وايت" بجامعة "نيو ساوث ويلز" في سيدني، أستراليا.

اقرأ أيضاً: العالم يهرع إلى الجرعة المُعزِّزة ضد "أوميكرون" وسط تساؤلات حول فاعليتها

في ما يلي نص مختصر للحوار الذي تم تحريره للنشر.

ديفيد فيكلينغ: ما الذي يجعل التطور الفيروسي وتطور الأمراض الوبائية، بشكل عام، مختلفين عن التطورات في مناحي الطبيعة الأخرى؟ يبدو الأمر وكأننا نشاهد انتقاءً طبيعياً يحدث في غضون أيام وليس آلاف السنين.

اقرأ المزيد: دراسة جديدة: "أوميكرون" أكثر قابلية للانتقال من "دلتا" بـ4 مرّات

بيتر وايت: الإجابة عن هذا السؤال تكمن في سرعة التطور- سرعة توليد التنوع الجيني، أو الطفرات، إن شئت أن تسميها كذلك. تعد الفيروسات الأسرع من حيث سرعة التطور بين جميع الكائنات، تليها البكتيريا بمعدلات أبطأ، ثم نحن، بالطبع الأبطأ على الإطلاق في هذ الإطار. ولفهم ذلك، يمكنك رسم خط يوضح معدلات الطفرات ورؤية الرابط بينها: إذا كان لديك جينوم صغير مثل الفيروسات، فإنك تحصل على طفرة أسرع. فهي تتحول بسرعة، بعكس الإنسان. سيستغرق الأمر أجيالاً ومئات السنين لتغيير الأنماط الظاهرية لمعظم الثدييات، ولكن بالنسبة إلى الفيروسات، فإن ذلك يتم بشكل سريع للغاية.

تكاثر الفيروس

فيكلينغ: لذلك، تعد عملية توليد التنوع الجيني للفيروسات قصيرة للغاية مقارنةً بمفهومنا للعملية ذاتها؟

وايت: إذا وقعت بكتيريا الإشريكية القولونية على القليل من السكر، فإن لسان حالها يقول، "إنه أمر لطيف" وتبدأ في التكاثر ليتضاعف عددها من خلية واحدة إلى خليتين، ثم أربعة، ثم ثمانية، ثم ستة عشر، ثم اثنين وثلاثين، ويتتابع نمط تكاثرها بشكل أسي. وقد تظن أن الأمر "رائع، إنه معدل سريع". بينما إذا دخل فيروس إلى خلية، فلسان حاله يقول: "حسناً، أنا داخل الخلية الآن.. واحد، مئة ألف، شكراً جزيلاً، إلى الخلية التالية". ومن ثم، إذا أصبت ببضع جسيمات، يمكن للفيروسات ضخ مليارات النسخ في غضون ساعات قليلة. يستغرق ذلك، بالنسبة إلى معظم فيروسات الثدييات، ما بين 14 إلى 20 ساعة تقريباً. لذلك، عندما تعطس، يخرج من أنفك مليون فيروس. وعندما تصاب بالإسهال يتكون لديك 10 مليارات فيروس لكل غرام من البراز، إنها مثل حبوب اللقاح. فوظيفة الفيروسات الأساسية هي العثور على المضيف التالي. وهذا هو السبب في أنها تتطور، لأنها إذا لم تفعل، سينتهي وجودها، فالأمر يدور حول انتقاء المضيف الأنسب.

آلية التطوّر

فيكلينغ: غالباً ما نتحدث عن التطور الفيروسي كأمر يحدث بين الأفراد في المجتمع، ولكن مع مثل تلك الأرقام، من المحتمل تواجد ضغوط تطورية مهمة للغاية تحدث داخل جسم المضيف. فهل أحدهما أهم من الآخر، وكيف يتفاعل الاثنان؟

وايت: سيتحول الفيروس داخل جسم المضيف، ثم إذا كانت أي من هذه الطفرات جيدة، ستتمكن من الهيمنة. وفي هذا الإطار، تشكل سلالة المؤتلف أحد توقعاتي بشأن فيروس كورونا، لكن أحداً لم يتحدث عنها. على سبيل المثال، كانت السلالة التي اكتشفتها، وتسببت في جائحة "نوروفيروس" (norovirus) المعدية، في عام 2012، نتاج سلالتين سابقتين. فقد انقسمت شفرتها الجينية إلى قسمين، الأول جاء من نيو أورلينز، بينما كان الآخر ينتمي لجينوم فيروس هولندي. أما في حالة "كوفيد"، فإننا نعلم بوجود خمسة أنواع مختلفة من الفيروسات المثيرة للقلق، وهي فيروسات كاملة وفعالة. فماذا سيحدث إذا أخذنا أفضل الأجزاء من جينوم أحدها والأفضل من الأخر وقمنا بتخليق فيروس هجين من كليهما؟ عندها سنحصل على فيروس المؤتلف. إنه أمر يحدث طوال الوقت، فمثلاً، كان ذلك كيف أصبنا بجائحتي عامي 1957 و1968 من الإنفلونزا. إنها طفرة على نطاق واسع تتم عبر مبادلة الفيروسات شفراتها الجينية مع بعضها البعض، وهو أفضل بكثير مما لو حاولت تغيير خصائصها والتطور من تلقاء أنفسها. وهذا ما سيبحث العلماء عنه في التسلسل الجيني لتلك الفيروسات.

تحوّل وانتشار

فيكلينغ: لقد سمعنا باندهاش الكثير من الأشخاص من قدرة "كوفيد" على التكيف بالتزامن مع ظهور متغيرات "دلتا" و"أوميكرون". كيف ترى ذلك؟

وايت: لست مندهشا. ولا أعتقد بأنه أكثر مرونة من أي فيروس آخر. إنه يفعل بالضبط ما كانت فيروسات "نوروفيروس" أو "الإنفلونزا" لتفعله، التحول والانتشار. وهذا بالضبط ما يحدث لكل فيروس يسبب جائحة. ماذا عن فيروس نقص المناعة البشرية؟ فنحن لا نتحدث عنه باعتباره جائحة على الرغم من أنه أودى بحياة 36 مليون شخص. إنه بالطبع يشكل جائحة، غير أنها طويلة الأمد وحسب، فقد استمرت منذ الثمانينيات لثلاثة أو أربعة عقود. ثم كيف ظهر هذا الفيروس؟ لقد كان مؤتلفاً من الفيروسات في قردين صغيرين اصطادهما الشمبانزي، أصاب الشمبانزي بفعالية، ولكن المؤتلف كان أيضاً قادراً على إصابة البشر، ما أدى إلى انتشار الوباء.

فيكلينغ: هل للتدخلات المختلفة ،مثل اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات والتباعد الاجتماعي، تأثيرات متباينة على الضغوط الانتقائية التي يواجهها الفيروس؟

وايت: معظم التدخلات هي ضغوط انتقائية، وإذا تعرض الجينوم لمثل تلك الضغوط فسيؤدي ذلك إلى تطوره. لنبدأ بالأسهل، إذا صنعنا دواءً ضد إنزيمات معينة من الفيروس، فإن الفيروس سيولد طفرات لأنه إذا لم يتحور، سيقضي عليه الدواء. لذلك تنتج الفيروسات تنوعاً هائلاً من تسلسلات الحمض النووي الريبي (RNA). سيتم اختيار الحمض النووي الذي يحمي الفيروس من العقار، لأن هذا الفيروس سيهيمن على كل النسخ الأخرى وستندثر الفيروسات الأخرى، وبعد ذلك تحصل على ما نسميه طفرة الإفلات من العقار أو الطفرة المقاومة للعقار. لذلك فهو أمر يحدث، وقد تم توثيقه لكل فيروس.

ضغط المناعة

أما الضغط الآخر فهو ضغط المناعة التطوري. فقد أعطي كل شخص لقاحات بناءً على سلالة "ألفا"، بينما نواجه الآن "دلتا" أو أسوأ. إننا نعلم أن هناك من 20 إلى 50 تغييراً في الأحماض الأمينية بين المتغيرات، وقد جعلت تلك التغييرات انتقال الفيروس أفضل، لكن لم يفلت أي منها من اللقاح بالفعل. لذا، يتلخص القلق الذي يراودنا جميعاً في افتراض أنه إذا ما تلقى 100% من سكان العالم اللقاحات المصصمة ضد "ألفا"، ثم تحور الفيروس بعد ذلك، فإن الأجسام المضادة التي أنتجتها أجسامنا للارتباط ببروتين "سبايك" الخاص بـ"ألفا" لن ترتبط بعد الآن ببروتين "سبايك" الخاص بالمتغير الجديد. ويصبح ذلك ما نطلق عليه طفرة الإفلات من اللقاح، ومن ثم يصبح اللقاح غير فعال. سيحدث هذا في المستقبل، ولكن يمكن تعديل المعززات بسهولة، لذلك ينبغي أن نكون قادرين على استباق تطور الفيروس.

أيضاً، لديك ضغوط انتقائية مثل التباعد الاجتماعي، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى انتقاء فيروس كورونا أكثر قدرة على الانتشار والعدوى.

فيكلينغ: يجادل بعض الناس بأنه من الأفضل لنا توفير المزيد من المعززات في الدول الأكثر ثراءً حيث يكون السكان الأكبر سناً أكثر عرضة للخطر، بدلاً من إرسال الجرعات الأولى والثانية إلى الدول النامية ذات الكثافة السكانية الأصغر سناً. ما رأيك من منظور ظهور المتغير الجديد؟

وايت: يجب أن نفعل كل ما في وسعنا لإعطاء اللقاح للدول النامية. من الواضح أننا لم نفعل ذلك بصورة كافية في ظل بلوغ معدل التلقيح المزدوج 25% في جنوب أفريقيا. كلما زادت معدلات التلقيح، زادت فرصتنا في منع ظهور المزيد من المتغيرات. وعل أية حال، يتعين علينا إرسال جرعات اللقاح، لأنه الخيار الأخلاقي. الأمر ليس بهذه الصعوبة، وهو للصالح العام، كما أنه لا ينطوي على تكلفة باهظة، غير أن التكلفة ستكون أكبر بكثير إذا لم نفعل ذلك.

تطوير اللقاحات

فيكلينغ: يبدو أن معظم شركات الأدوية واثقة تماماً من قدرتها على إعادة تركيب اللقاح بسرعة إلى حد ما. هل يمكنك تفسير سبب ذلك؟

وايت: بشكل أساسي، توجد مشكلتان فقط في ما يتعلق بلقاح الرنا (mRNA). الأولى، الجسيمات النانوية الدهنية، والتي تحتوي على جزء من الحمض النووي الريبي (RNA). ويعد أمر تلك الجزيئات سهلاً، إذ ليس على الشركات تعديلها بين لقاحات المتغيرات. لنفترض مثلاً إن الحمض النووي الريبي يشكل 2000 نيوكليوتيد. الآن، سيتعين علينا تغيير هذا التسلسل في لقاح المتغير الجديد. لذلك سنقوم بتعديل 100 زوج أساسي، على سبيل المثال، في هذا التسلسل. بعد ذلك، سنقوم فقط بإعادة تشغيل الكمبيوتر، وإضافة مكونات مختلفة قليلاً، وهكذا نصل إلى اللقاح الجديد. ستكون المشكلة الوحيدة الأخرى، هي موافقة إدارة الغذاء والدواء، غير أنها من المرجح أن توافق بسرعة كبيرة لأنه من غير المحتمل أن يكون اللقاح الجديد مختلفاً بشكل كبير عن سابقه من حيث الأضرار الجانبية. من جهة أخرى، سيظل نظام التنفيذ وكل شيء آخر كما هو، ولا ينبغي أن يكون للقاح الجديد تأثير كبير من حيث السمية. غير أنه قد يكون له أثر مختلف من حيث الاستجابة المناعية، وهذا ما ستأخذه شركات الدواء بعين الاعتبار.

فيكلينغ: غالباً ما تسمع سؤالاً حول ما إذا كانت الأمراض الوبائية تتطور بشكل طبيعي إلى أنواع أكثر اعتدالاً، والتي سنقوم باتخاذ إجراءات أقل صرامة لمواجهتها. هل هذا صحيح؟

وايت: مع تطور الفيروس داخل جسم المضيف، هل يقل المرض؟ ولماذا؟ في معظم الأوقات، ربما تشير الأدلة إلى أن الأمر يسير على هذا النحو. لذلك، فأنا أفضل استخدام أنفلونزا الطيور (H5N1) كمثال. يبلغ معدل الوفيات لهذا الفيروس بين البشر 50%، ولكن للإصابة به يتعين التعرض إلى حمل فيروسي مرتفع للغاية، كأن تتعامل مع الطيور المصابة بالفيروس مباشرة. عيب الفيروس في هذه الحالة، أنه إذا كان يقتل المضيف بسرعة كبيرة فلن يحصل أبداً على فرصة جيدة للانتشار على نطاق واسع. ما يريده الفيروس هو قتل المضيف ببطء شديد وإنتاج أطنان منه قبل موت ذلك المضيف. فكلما كان الأمر أقل وضوحاً بشأن كونه يتسبب في أي ضرر للمضيف، طالت مدة بقاء الفيروس. ومع ذلك، فقد شهدنا حالات في فيروسات الأرانب حيث تنتشر الفيروسات بشكل أفضل وتتطور إلى هذا النوع الأكثر اعتدالاً إذا قضت على مضيفها بسرعة. وحالات أخرى، تنتشر الفيروسات فيها بشكل أفضل وتتطور إلى هذا النوع إذا قضت على مضيفها ببطء.

بين الحياة والموت

فيكلينغ: الأمر المذل بالنسبة لنا هو أن الفيروس لا يهتم بما إذا كنا نحيا أو نموت. إنه يهتم فقط بمدى سهولة تكاثره. ما يجعل حياتنا أو موتنا أمراً عرضياً في هذه العملية!

وايت: هذا هو الشيء الوحيد الذي يحيا الفيروس من أجله. هناك الكثير من الفيروسات التي يجري إنتاجها بحيث تجد دائماً أفضل طريقة لتتكاثر، وهي تتمتع بالكثير من الخيارات في هذا الإطار.

فيكلينغ: بما أننا نفرض هذا الشكل الجديد من الضغط الانتقائي الذي لم يكن موجوداً في الطبيعة، فهل غيرت العلوم الطبية الطريقة التي يعمل بها التطور الفيروسي؟

وايت: إن الضغط الانتقائي يغير، بالفعل، من تطور الفيروس قليلاً. أيا كان الفيروس الذي تقوم بدراسته، ستجد أموراً تظهر مثل طفرات الإفلات من اللقاح، لكنها ليست أبداً بمثل سوء عدم وجود لقاح من الأساس. ولن يؤثر ذلك كثيراً في مدى نجاح اللقاح في التعامل مع المرض. على سبيل المثال، كانت الحصبة الألمانية تقتل 20 ألف طفل سنوياً في الولايات المتحدة قبل التوصل إلى لقاح لمواجهتها. كما ينسى الناس أنه مع شلل الأطفال والحصبة الألمانية، حتى في أواخر الستينيات، كانت معدلات الوفاة بين البشر ترتفع بصورة هائلة. ثم فجأة، تراجعت بنسبة 99%. ولكن بينما يمنع ذلك وفاة البشر، فإنه لا يوقف انتشار الفيروسات. وبالنظر إلى أن تجربتنا مع "كوفيد" تقارب عامين فقط، فحتى أفضل العلماء لم يكونوا ليتنبؤوا بمدى نجاح استجابتنا للقاحات.

فيكلينغ: إذن فمن وجهة نظرك، ربما لن نقضي على هذا الوباء، ولكن إذا تمكنا من الوصول إلى حالة من الجمود بحيث لا يؤدي الفيروس إلى قتل الناس بهذه المعدلات، ستكون تلك نهاية جيدة.

وايت: هذا الفيروس سيبقى معنا دائماً، مثل الإنفلونزا، ومن المحتمل أن يقتل أشخاصاً أكثر من الإنفلونزا لبضع سنوات أخرى. لكن الطريقة الوحيدة للتغلب على ذلك هي التطعيم.