فضيحة تداولات نيكل "وهمية" بمليار دولار في سنغافورة

إنج يو تشي
إنج يو تشي المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد وقت قصير من ظهور فيروس كورونا المستجد في سنغافورة، والذي أجبر المدينة ذات الحكم الذاتي والصلات المتشعبة على إغلاق حدودها للمرة الأولى، انتشرت شائعة بين العديد من أصحاب الثروات الكبيرة وآخرين من محدودي الثراء، مفادها أن هناك مدير استثمار مغموراً يقدم أرباحاً فصلية مذهلة بنسبة 15% لأي شخص يستثمر معه، عن طريق تداول النيكل.

مع انتشار الشائعة، سعى كثيرون من السنغافوريين لوضع أموالهم في يد مدير الاستثمار هذا، وهو محاسب سابق يبلغ من العمر 34 عاماً، ويدعى إنج يو تشي. وسرعان ما جمعت مجموعة "إنفي" (Envy) التي يديرها إنج، ما يقرب من 1.5 مليار دولار سنغافوري (نحو 1.1 مليار دولار أمريكي) من مئات العملاء. وظهر الأمر وكأنه يبلي حسناً بشكل لافت، حيث قدم أرباحاً فصلية ثابتة ربعاً تلو الآخر، وبدت عليه مظاهر الثراء بوضوح، مع اقتنائه قصراً في أحد أغلى أحياء آسيا، ويختاً بطول 126 قدماً، وأسطولاً من السيارات الفاخرة.

اقرأ أيضاً: 21% نمو عمليات تزوير بطاقات الائتمان في الفلبين منذ تفشي كورونا

لكن الثقة في إنج ثبت أنها لم تكن في محلها، حيث اعتقلته شرطة سنغافورة في فبراير الماضي، واتهمته بالقيام بأكبر عملية احتيال، من حيث الخسارة المالية، في تاريخ الدولة الصغيرة. ووفقاً للشرطة والمحاسبين الشرعيين الذين جرى تعيينهم لفحص سجلات إنج، فإن التعاملات التي ادعى القيام بها، اتضح أنها وهمية. وبدلاً من ذلك، كما يقولون، كان متورطاً في عملية احتيال متكررة، حيث حوّل 475 مليون دولار سنغافوري من أموال المستثمرين إلى نفسه، واستخدم هذا المبلغ للاستمتاع بأسلوب حياة فاخر للغاية، حتى بمعايير فيلم "آسيويون أغنياء بجنون" (Crazy Rich Asians). ولم يتقدم إنج بعد بالتماس رداً على التهم الـ75 الموجهة إليه، ورفض الإدلاء بتعليق على هذه القصة، مشيراً إلى استمرار تحقيقات الشرطة في القضية.

اقرأ المزيد: ما بين الاحتيال والجنون.. كيف ينخدع المستثمرون في شركات "وادي السليكون" الناشئة؟

ضحايا مرموقون

كان من بين عملاء إنج، عدد من أكثر المواطنين نجاحاً في سنغافورة، بمن فيهم: محامون كبار، ومسؤولون تنفيذيون سابقون في البنوك، ورجال أعمال، ممن كان ينبغي عليهم أن يدركوا حقيقة الأمر بدلاً من الاستثمار بما هو ظاهر فقط، والذي تبين لاحقاً، أنه مخطط احتيالي ساذج على طريقة "بونزي"، وليس مخططاً متقناً أو معقداً. لكنهم لم يكونوا الوحيدين الذين لم يطرحوا أسئلة كافية. فوفقاً لملفات الإيداع القانونية، أجرى إنج أكثر من ألف عملية تحويل من أموال المستثمرين ومن حساب شركة "إنفي" إلى حسابات مصرفية، يحتمل أن يكون مسيطراً عليها، واختلس مئات الملايين من الدولارات قبل أن يتم القبض عليه.

اقرأ أيضاً: مغنية راب وزوجها خدعا الجميع وسرقا "بتكوين" بـ 4.5 مليار دولار..فما القصة؟

تحدث عمليات الاحتيال الاستثمارية في كل أنحاء العالم، ويمكن أن تستمر لفترة أطول بكثير مما استمرت "إنفي". فعلى سبيل المثال، أدار بيرني مادوف مخططاً احتيالياً كبيراً تحت أنظار المستثمرين والجهات التنظيمية لعقود. ومع ذلك، فإن المزاعم ضد إنج محرجة بالنسبة إلى سنغافورة التي تمر بمرحلة انتقالية وطنية حساسة. ففي ظل سياساتها المستقرة، وحدودها المفتوحة نسبياً، ونظامها القانوني المحترم، أصبحت المدينة أقرب من أي وقت مضى إلى إزاحة هونغ كونغ بوصفها المركز المالي الرئيسي لآسيا، وهو تطور من شأنه تعزيز اقتصادها القوي بالفعل.

مع ذلك، وعلى الرغم من سمعة سنغافورة الجيدة، إلا أنها شهدت كماً هائلاً من الفضائح الكبيرة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك انهيار مجموعة "نوبل" (Noble)، وهي شركة متخصصة في تداول السلع الأساسية متهمة بالتلاعب في سجلاتها، إلى جانب قضية الاحتيال المزعوم في "هايفلوكس" (Hyflux)، وهي شركة لتوصيل المياه إلى المرافق أجرت إعادة هيكلة لديونها بعد صدور حكم إلزامي من المحكمة ضدها خلال 2018، ما أثار غضب المستثمرين الأفراد.

تقصير الجهات الرقابية

بالنسبة إلى البعض في المدينة، فإن السهولة الواضحة التي عمل بها إنج، تشير إلى أن سلطاتها بحاجة إلى أن تراقب أكثر التيار النقدي المتزايد الذي يتعرض لهجمات الاستيلاء عليه بداخلها. ويقول ماك يوين تين، أستاذ المحاسبة في كلية إدارة الأعمال في جامعة سنغافورة الوطنية: "أعتقد قطعاً بأن سنغافورة بحاجة إلى تعزيز إجراءات الإنفاذ والمراقبة الخاصة بها، بالنسبة إلى جرائم موظفي المكاتب والشركات". ولفت إلى أنه في قضية "إنفي"، "كان هناك العديد من علامات الخطر التي تشير إلى وجود احتيال محتمل. لذلك علينا أن نسأل: أين كانت الجهات الرقابية؟".

اهتمام بالسلع

حتى سنوات قليلة ماضية، كان هناك القليل من العلامات التي تشير إلى أن إنج قد يحدث طفرة في أرقى طبقات عالم التمويل، حيث كان معسول الكلام، ومهذباً على الدوام، ويتميز بوجه ممتلئ ومستدير، وكان قد درس المحاسبة في إحدى الجامعات العامة في سنغافورة، ثم انضم إلى شركة التدقيق "كيه بي إم جي" (KPMG). وكانت مجموعة "بي إتش بي" (BHP) -أكبر شركة تعدين في العالم- أحد العملاء الرئيسيين الذين عمل معهم، ووجد إنج أنه كان مفتوناً بأعمال المعادن، بأسواقها الضخمة والمفعمة بالسيولة، واحتياجاتها الصناعية الواقعية، وتقلبها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. وبدأ تداول السلع كوظيفة جانبية، لكن في 2015 ترك "كيه بي إم جي" ليحوّل اهتمامه بالسلع إلى مهنة بدوام كامل.

كان هذا توقيتاً مثالياً لبدء شركة تجارية، حيث انخفضت أسعار السلع الأساسية العالمية بمقدار النصف تقريباً مقارنة بالقمة السعرية التي وصلت إليها في 2008، ما وفر إمكانية تحقيق أرباح ضخمة لأي شخص لديه الشجاعة ورأس المال للاستثمار فيها مجدداً. وكانت سنغافورة من أفضل الأماكن لبدء هذا النشاط التجاري. فلطالما كانت المدينة مركزاً إقليمياً مزدحماً، إضافة إلى بروزها كمنافس مالي عالمي، حيث تجذب الاستثمارات، ليس فقط من أجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا، بل وبشكل متزايد أيضاً من الهند والصين وغيرهما. وبدا أن الجميع يرغبون في الاستفادة من نجاحها. وعلى مدى السنوات العديدة التالية، افتتح المليارديرات، بمن فيهم راي داليو، وسيرجي برين، مكاتب محلية لاستثمار ثرواتهم الشخصية، كما أنشأ مخترع المكانس الكهربائية البريطاني، جيمس دايسون، مكتباً محلياً في سنغافورة، وأنفق 74 مليون دولار سنغافوري على شقة بنتهاوس مؤلفة من 5 غرف نوم في وسط المدينة.

إستراتيجية غير اعتيادية

عندما أسس إنج مجموعة "إنفي" في 2015، استوحى اسمها الذي يعني بالإنجليزية "الحسد" (envy)، من شعار أخرق بعض الشيء استخدمته "كيه بي إم جي" في دوراتها التدريبية، وهو: أن هدف الشركة هو أن تصبح "موضع حسد" من مقدمي خدمات المحاسبة الآخرين.

قرر إنج التركيز على النيكل، وكانت هذه إستراتيجية غير اعتيادية بالنسبة إلى سوق السلع الرئيسية محدودة الفرص، حيث يسيطر حفنة من المشغلين ذوي الصلات الواسعة على التداول، ما يجعل إنشاء شركة من الصفر أمراً صعباً. لكن إنج، رأى أن النيكل مسعر بأقل من قيمته الحقيقية بكثير، مع فشل الأسواق في وضع استخداماته المتزايدة في الاعتبار. فهو معدن بالغ الأهمية بالنسبة إلى البطاريات القابلة لإعادة الشحن، لدرجة أن إيلون ماسك، المؤسس المشارك لشركة "تسلا" (Tesla)، قال للموردين ذات مرة: "أرجوكم.. نقبوا عن المزيد".

كان العمل ممتازاً، بقدر ما يمكن لأي شخص خارج "إنفي" أن يصفه. وسارت أسعار النيكل في اتجاه صعودي لمعظم النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ووسع إنج بشكل مطرد قائمة عملائه. كان يتم ذلك أحياناً بمساعدة من فيرونيكا شيم، وهي مديرة ثروات ناجحة أعجبت بشدة بإنج، لدرجة أنها استثمرت ثروتها الشخصية معه، وعرضت عليه أن يقدم تداولات لصالح عملائها.

مظاهر الترف

تعتبر سنغافورة مكاناً براقاً، وفيها يوجد طريق أورشارد، شارع التسوق الرئيسي هناك، حيث تقف سيارات "بنتلي" التي يقودها سائق خاص خارج المتاجر الراقية لأمثال "هاري وينستون" و"دولتشي آند غابانا"، ويوجد كازينو "مارينا باي ساندز" على الواجهة البحرية، حيث يمكن للاعبين الكبار المراهنة بالملايين قبل التقاعد في "جناح الرئيس" الذي تبلغ مساحته 6400 قدم مربعة في الطابق 53. لكن حتى في المدينة التي يتباهى فيها الأغنياء بنجاحهم بمختلف الطرق، برز نجم إنج.

أقيم مقر "إنفي" في مكتب فاخر، تم ترتيبه حول بار مجهز بالكامل، حيث يمكن لزائري المكتب الحصول على كأس من ويسكي "هيبكي" المعتقة لـ21 عاماً، وهو بمثابة كنز ياباني يمكن بيعه بأكثر من 200 دولار سنغافوري للكأس الواحدة، كما كان إنج يهوى مقابلة العملاء والزملاء في مطاعم السوشي الأكثر رقياً، وهو يقود أسطولاً ضخماً من السيارات، يشمل طرازات "فيراري"، و"لامبورغيني"، وسيارة "باغاني هوايرا" الفاخرة الوحيدة من نوعها في سنغافورة، والتي أنفق أكثر من 7 ملايين دولار سنغافوري لشرائها.

لم تكن حياته في المنزل أقل فخامة، حيث استأجر إنج وزوجته الصينية المولد كوكو تشاي، قصراً بالقرب من حدائق سنغافورة النباتية، وكان بصدد شراء قصرين آخرين. وبالكاد أثرت جائحة كورونا على أسلوب حياتهما. ففي ديسمبر 2020، صرّحت زوجة إنج لـ"برستيج" (Prestige)، وهي مجلة تهتم بأخبار المجتمع الآسيوي، عن حضور فريق من مندوبي مبيعات ماركة المجوهرات الإيطالية "بولغري" (Bulgari) إلى منزلهما لتقديم "مجموعة منتقاة" من القطع الجديدة "التي تم نقلها خصيصاً لها"، واشترت تشاي 4 قطع منها.

لم يسوق إنج لنفسه كثيراً، لكن الأخبار عن العائدات الضخمة التي يقدمها للمستثمرين كانت تنتشر، ويتناقلها الناس في حفلات أعياد الميلاد، وملاعب الغولف، أو بين مالكي اليخوت في مرسى "سنتوسا كوف"، الذي يحتفظ فيه أثرياء سنغافورة بسفنهم.

نتيجة لذلك؛ سعى المزيد والمزيد من النخب المالية في المدينة إلى استثمار الأموال معه. بداية من بيك سيوك لان، المستشارة العامة لشركة الاستثمار الحكومية "تيماسك هولدينغز" (Temasek Holdings)، التي استثمرت معه 5.6 مليون دولار سنغافوري، وحتى آرون مورثي، الرئيس العالمي السابق للسلع الرئيسية في بنك "ستاندرد تشارترد"، الذي قدّم له أقل بقليل من مليون دولار سنغافوري. وكان فينيان تان، أحد أبرز أصحاب رؤوس الأموال المغامرة في سنغافورة، داعماً رئيسياً لإنج أيضاً، حيث استثمر هو وشركاؤه ما مجمله 26 مليون دولار سنغافوري.

تحذير بلا جدوى

انزعج قليل من الأشخاص فقط -إن وجدوا أصلاً- من القرار الصادر في مارس 2020 عن سلطة النقد في سنغافورة، وهي الجهة الرئيسية لمراقبة السوق في البلاد، والذي طالب بوضع "إنفي" على "قائمة تحذير المستثمرين"، التي تحدد الشركات التي قد "يظن الناس خطأً أنها مرخصة أو خاضعة للتنظيم بواسطة سلطة النقد في سنغافورة"، حيث تعتبر الشركات المرخصة أكثر أماناً. ويقول أحد المستثمرين في "إنفي"، والذي طلب عدم الكشف عن هويته أثناء مناقشة خسارته، إن الأمر لم يبدُ كمصدر قلق كبير، إذ تُدرج عشرات الصناديق على القائمة كل عام.

لم يمنع ذلك أيضاً مئات المستثمرين الأقل ثراءً، بمن في ذلك الأطباء وأصحاب الأعمال الصغيرة والمطاعم والمتقاعدين، من منح أموالهم لإنج، ما أدى إلى تضخيم إجمالي المبلغ الذي تسلمته "إنفي" إلى ما يقرب من 1.5 مليار دولار سنغافوري، بحلول أوائل عام 2021، وذلك في المدينة التي يبدو أن كثيراً من الناس يبحثون فيها عن طرق للثراء السريع. فلماذا لا يفعلون ذلك؟!.

"ببساطة، لم تشتر "إنفي" أياً من النيكل الذي ادعت أنها تتداول به"

على رادار الشرطة

كانت الشمس الاستوائية بالكاد تلوح في الأفق عندما وصل فريق من الضباط من إدارة الشؤون التجارية، وهي وحدة مكافحة الاحتيال في قوة شرطة سنغافورة، إلى قصر إنج في 16 فبراير الماضي. وكان قد استيقظ بالفعل، ويستعد لإرسال ابنته إلى المدرسة. وسمح له الضباط بالاستحمام، وتبديل ملابسه، قبل اصطحابه لجمع الوثائق من مكتب "إنفي" ثم إلى مركز الشرطة.

اتضح أن إنج كان على رادار المحققين لأشهر عدة على الأقل. وتلقت سلطة النقد في سنغافورة معلومات حول عمليات "إنفي" في منتصف 2020، وأحالت الأمر إلى الشرطة في وقت لاحق من ذلك العام. وبمجرد الزج بإنج في الحجز، احتجزه الضباط لأكثر من يومين واستجوبوه مطولاً حول عمليات "إنفي".

وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر طلبوا عدم الكشف عن هويتهم من أجل الإدلاء بمعلومات حول المحادثات الخاصة، أخبر إنج الموظفين والمستثمرين بعد الإفراج عنه بأن احتجازه كان نتيجة لسوء فهم، وقد يؤدي -على الأكثر- إلى تأنيب خفيف لـ"إنفي". صدقه كثيرون، كما قال أحد المصادر. وبدا إنج أكثر اطمئناناً حول اهتمام الشرطة بـ"إنفي" مقارنة بمعظم موظفيه، ما يعطي انطباعاً بأنه ليس هناك ما يدعو إلى القلق.

تهم الاحتيال

تلاشى الهدوء الخارجي في 22 مارس، عندما قدَّم المدعون أول تهم جنائية ضد إنج، متهمين إياه بتحويل 300 مليون دولار سنغافوري من أموال المستثمرين إلى حساباته الخاصة. (رفعت ملفات الإيداع القانونية اللاحقة المبلغ الإجمالي المزعوم إلى ما يقل قليلاً عن نصف مليار دولار سنغافوري).

أوضحت التهم الاكتشافات الكبيرة التي خلصت إليها الشرطة بمساعدة فريق من المحاسبين الذين عينتهم المحكمة في وقت لاحق من شركة "كيه بي إم جي"، وهي المؤسسة الأم التي تعلم فيها "إنج"، حيث وجهوا إليه تهمة قوية رغم بساطتها، وهي الاحتيال.

فببساطة شديدة، لم تشتر "إنفي" أياً من النيكل الذي ادعت أنها تتداول به، والعوائد التي اعتقد المستثمرون أنهم يتلقونها كانت في الواقع مأخوذة من ودائع العملاء الجدد، أي إنها مجرد لعبة احتيال قديمة. وبالفعل، قامت شركة "بوسيدون نيكل" (Poseidon Nickel)، وهي شركة التعدين الأسترالية التي قال "إنج" للمستثمرين إنه كان يشتري المعدن منها، بإبلاغ مدققي حسابات "كيه بي إم جي" بأنه "ليس لديها علاقة عمل" مع "إنفي"، ولم تجر أي صفقة معها.

أدلة وبراهين

عندما دققوا في عقود "إنفي" المزعومة مع "بوسيدون"، لاحظ المحاسبون، بقيادة بوب ياب، أحد أشهر المتخصصين في إعادة الهيكلة في سنغافورة، ما وصفوه بوضوح في ملف محدث بالمحكمة، بأن المستندات تنطوي على "العديد من المخالفات". وأحد الأسباب وراء ذلك الاتهام، هو أن اسم "المدير" الذي ظهر توقيعه على عقدين نيابة عن الشركة الأسترالية، "لا يبدو أنه يتطابق مع الأحرف الأولى، أو أسماء أي من مديري (بوسيدون) في الفترة ذات الصلة".

في غضون ذلك، ووفقاً لمدققي الحسابات، نُقلت أموال المستثمرين على دفعات مؤلفة من 200 ألف دولار سنغافوري إلى حسابات يُرجح أن إنج يسيطر عليها، وأحياناً كانت تُنقل على عشرات التحويلات الإلكترونية الفورية يومياً. وشعر اثنان من البنوك السنغافورية الكبرى، وهما: "أوفرسي-تشاينيز بانكينغ" (Oversea-Chinese Banking) و"يونايتد أوفرسيز بنك" (United Overseas Bank)، بالقلق من أنشطة إنج، إلى درجة جعلتهما يغلقان حساباته قبل اعتقاله بفترة طويلة. وقامت بنوك أخرى، بما في ذلك مجموعتا "دي بي إس هولدينغز" (DBS Group Holdings) و"إتش إس بي سي هولدينغز" (HSBC Holdings)، بتقديم تقارير عن المعاملات المشبوهة إلى السلطات، لكنها استمرت في التعامل معه.

رفض كل من "دي بي إس" و"إتش إس بي سي" التعليق على حسابات إنج، وقال المتحدثون باسم كلا البنكين إن لديهما أنظمة شاملة للإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، والتعاون بشكل كامل مع تطبيق القانون. وقال متحدث باسم سلطة النقد السنغافورية، في بيان، إن الوكالة تتوقع من البنوك "تنفيذ إجراءات صارمة لمراقبة المعاملات المشبوهة"، وستتخذ إجراءات ضد الشركات التي لا تفي بالمتطلبات التنظيمية.

صفقات مزورة

مع تعمقهم في التفتيش، خلص المحققون إلى أن كل شيء يتعلق بصفقات النيكل مزور، وأن هذا التزوير لم يتم بشكل متقن. وفي اتصالات مع المستثمرين، قالت "إنفي" إنها كانت تبيع البضائع لشركة تجارية تسمى "بي إن بي باريبا كوموديتي فيوتشرس" (BNP Paribas Commodity Futures)، وهي وحدة مقرها لندن تابعة للبنك الفرنسي الشهير الذي يحمل الاسم ذاته. لكن سجلات الشركات في المملكة المتحدة، أشارت إلى أن هذا الكيان أوقف عملياته في فبراير 2019. مع ذلك، احتوت سجلات "إنفي" على 11 بياناً لتداولات بعد ذلك التاريخ، وهي مستندات مزورة بالتأكيد.

وجد التحقيق أن "إنفي" أجرت صفقة حقيقية واحدة للنيكل، وذلك في شهري يوليو وأغسطس من عام 2020، حيث أنفقت الشركة 42 مليون دولار سنغافوري لشراء أكثر من ألفي طن متري من السلعة من شركة "رافيمنت" (Raffemet)، وهي شركة تداولات كبيرة، حيث ذهب إنج إلى مستودع محلي لفحص الحمولة، وقام زملاؤه بتسجيل مقطع فيديو له وهو ينظر إلى كميات من كريات النيكل. وأرسلت "إنفي" الفيديو إلى المستثمرين، ثم باعت النيكل في اليوم ذاته مجدداً إلى "رافيمنت".

خياران كلاهما مر

ينتظر إنج المحاكمة في ظروف أكثر توتراً إلى حد ما مما كان عليه الوضع قبل اعتقاله. خرج بكفالة بقيمة 4 ملايين دولار سنغافوري -وهي واحدة من أكبر الكفالات في تاريخ سنغافورة- كما استبدل قصره بشقة مزودة بالخدمات.

بعد جلسات المحكمة الأخيرة، لم يغادر بسيارة رياضية فارهة، وإنما بسيارة سيدان من نوع "أودي". وسيواجه قريباً خياراً صعباً. فإذا اختار الطعن في التهم الموجهة إليه، يمكن أن يظل حراً لسنوات، لكن لن يكون قادراً على مغادرة سنغافورة، في الوقت الذي تشق فيه القضية طريقها عبر المحاكم. وإذا اعترف بالذنب، سيحكم عليه غالباً بالسجن لفترة طويلة، على الرغم من أن العقوبة في هذه الحالة قد تكون أقصر من 20 عاماً، وهو الحكم الأقصى الذي قد يواجهه إذا أُدين في المحاكمة.

لا يزال حصر الضرر الأوسع نطاقاً لانهيار "إنفي" جارياً. ويقول العديد من المستثمرين الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لتجنب الارتباط العلني بالشركة، إنهم لا يتوقعون استرداد الجزء الأكبر مما فقدوه. وليس من الواضح المبلغ الذي سيتم جمعه من المبيعات المستمرة لأصول إنج، بما في ذلك السيارات والتحف الفنية والمجوهرات. وينطبق الأمر ذاته على الدعوى المرفوعة ضده من قبل مدققي حسابات "كيه بي إم جي"، ممن يطالبون بتعويضات تزيد على 500 مليون دولار سنغافوري.

التصدي للاحتيال

مهما كانت التكلفة المالية النهائية، ستعزز فضيحة "إنفي" الجهود المبذولة لمنع الاحتيال في سنغافورة، في الوقت الذي تتحول فيه المدينة إلى مركز عالمي أكثر أهمية. اعترف رافي مينون، العضو المنتدب في سلطة النقد بسنغافورة، قبل فترة وجيزة من اعتقال إنج، بأن الكشف عن المخالفات المالية "مجال يحتاج إلى الإصلاح". وقامت البورصة الوطنية مؤخراً بتوسيع آليات الإنفاذ الخاصة بها، ما يفرض على الشركات العامة ضرورة اتباع سياسات الإبلاغ عن المخالفات. ومنحت البورصة لنفسها سلطة مطالبة مدير أو تنفيذي بالاستقالة. ومن شأن مقترحات أخرى أن تمنح الجهات التنظيمية أدوات أكثر، لضمان امتثال شركات المحاسبة للوائح مكافحة غسل الأموال.

لكن حتى الأنظمة التنظيمية الأكثر إحكاماً، يمكن أن تخترق من قبل محتال جريء بدرجة كافية، خصوصاً إذا راعى التفاصيل الدقيقة لعمليات النصب التي يقوم بها. ولكسب ثقة العديد من الأشخاص المحنكين، يبدو أن إنج خاطب الشهوة الخالدة لتحقيق الثراء السريع، وحولها إلى رغبة أكثر تحديداً لدى الضحايا، وهي المشاركة في غنائم المدينة، التي تزدهر بشكل أسرع من أي مدينة أخرى تقريباً. وقبل كل شيء، "وثق مستثمرو إنج فيه هو شخصياً" حسبما يقول تشينثيل كوماراسينغام، الشريك في مكتب المحاماة "ويذرز خطار وونغ" (Withers KhattarWong)، الذي يقدم استشارات حول جرائم موظفي المكاتب، لكنه لم يشارك في قضية "إنفي". واختتم قائلاً: "قدم إنج عرضاً جيداً جداً، للعيش بأسلوب حياة يتطلع إليه الجميع".