خطة الصين للبنية التحتية بـ2.3 تريليون دولار تفوق نظيرتها الأمريكية

توسعة ضخمة تنتظر مركز "زونغ غوان كون بارك" للعلوم والتكنولوجيا في بكين
توسعة ضخمة تنتظر مركز "زونغ غوان كون بارك" للعلوم والتكنولوجيا في بكين المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

مع عمليات إغلاق فيروس كورونا، وسوق عقارات متراجعة، وارتفاع أسعار النفط بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، يلتفت الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى حلفاء موثوقين لمساعدته على تحقيق هدفه الطموح للنمو الاقتصادي، وهؤلاء الحلفاء هم عمّال البناء الذين يتجاوز عددهم 50 مليون نسمة في البلاد.

بتكليف من بكين، أعدت الحكومات المحلية قوائم بآلاف "المشاريع الكبرى" التي أصبحت ترزح تحت ضغط كبير لإنجازها. ووفقاً لتحليل "بلومبرغ"، تقدر قيمة الاستثمارات الصينية المخطط لها هذا العام بنحو 14.8 تريليون يوان (2.3 تريليون دولار)، بقيمة تتفوق على الإنفاق الجديد في حزمة تحفيز البنية التحتية الأمريكية بأكثر من ضعف، وهي حزمة وافق عليها الكونغرس خلال العام الماضي، وتبلغ 1.1 تريليون دولار توزع على خمس سنوات.

قطاعات مستهدفة

على غرار خطة واشنطن، توجّه غالبية الاستثمارات وفق الخطة الصينية إلى قطاعات النقل، والمياه، والبنية التحتية الرقمية. لكن الصين لديها الآن بالفعل أكثر من ضعف عدد محطات السكك الحديدية عالية السرعة المنتشرة في أنحاء دول العالم مجتمعة، بالإضافة إلى امتلاك البلاد لأطول شبكة طرق سريعة على مستوى العالم. ومِن ثَم تغيِّر الدولة الآسيوية هيكلة الحزم التحفيزية الموجّهة إلى قطاع البناء، إذ تندرج نحو 30% من المشاريع فقط تحت بند البنية التحتية التقليدية، مثل الطرق والسكك الحديدية، فيما يجري توجيه نصف المشروعات لدعم قطاعَي الصناعة والخدمات مثل المصانع، والمجمّعات الصناعية، وحاضنات التكنولوجيا، وحتى المتنزهات الترفيهية.

عن ذلك تقول نانسي تشيان، الأستاذة في كلية كيلوغ للإدارة في جامعة نورث وسترن: "بما أن الصين تمتلك حالياً بنية تحتية حديثة، فمن المنطقي أن تركز استثماراتها على التصنيع".

هدف الصين للنمو قوة دافعة لاقتصاد عالمي محاصر

يعكس التحول نحو التركيز على قطاعات بعينها التزام بكين ضمان احتفاظ الصين بنصيبها المهيمن في قطاع التصنيع العالمي، حتى مع تحولها إلى مجالات أكثر تقدماً مثل السيارات الكهربائية، والبطاريات، والطاقة المتجددة، والرقائق الإلكترونية الدقيقة. ومن بين المشاريع ضمن مشروع قانون البينة التحتية تأتي توسعة بقيمة 2.2 مليار يوان في "زونغ غوان كون بارك" للعلوم والتكنولوجيا الواقع بمقاطعة دونغشينغ في بكين، التي ستحتضن جيلاً جديداً من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا.

توظيف العمّال

في موقع بناء المشروع الضخم، تحيط الرافعات بحفرة ضخمة، إذ يجري وضع الأساسات من قِبل عمّال يحتمون بأقنعة الوجه والخوذات الواقية، ممن بدأوا بالتوافد إلى الموقع قبل شهر. ولتجنّب تفشي الفيروسات يعيش هؤلاء في انعزال، إذ يتنقلون بين المهاجع وموقع العمل، ويخضعون للاختبارات بصورة أسبوعية.

تشانغ هونغ تشيانغ هو أحد أعضاء طاقم البناء، يبلغ من العمر 49 عاماً، ويبعد منزله في مقاطعة شاندونغ نحو 400 كيلومتر عن موقع العمل. يقول: "ليس من السهل العثور على عمل في الوقت الحالي. أذهب إلى أي مكان يوجد فيه عمل يمكنني القيام به". يتقاضى تشيانغ 6 آلاف يوان شهرياً، وهو مبلغ يقدر بنحو ثلث متوسط ​​الرواتب لجميع الموظفين في بكين.

أهداف متعددة

بالإضافة إلى توظيف أشخاص مثل تشانغ، فإن دعم قطاع البناء في الصين يهدف إلى ضمان وصول الحكومة المركزية إلى هدف النمو المحدد لهذا العام والبالغ 5.5%. وكذلك تعزيز سوق الأسهم الصينية، التي عصفت بها أحداث مثل القمع التنظيمي للشركات المالكة لمنصات الإنترنت، والهزة الهائلة التي شهدها قطاع العقارات. وكان المؤشر الرئيسي في البلاد انخفض بنسبة 13.4% منذ بداية العام حتى الآن، فيما انخفض مؤشر فرعيّ يتتبع الشركات المرتبطة بالبنية التحتية بنسبة 4.7% فقط.

وشأنها شأن جولات التحفيز السابقة، تتمتع هذه الجولة أيضاً بالقدرة على دعم الاقتصاد العالمي من خلال تعزيز واردات الصين. لكنها من المحتمل أن تؤدي كذلك إلى تفاقم تضخم أسعار السلع، في وقت يتعامل فيه عديد من البلدان مع صدمات أسعار الطاقة التي تفاقمت بسبب غزو روسيا لأوكرانيا، فيما على المدى البعيد، وفي ظل حاجة المشاريع الكبرى هذا العام إلى مدة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات لإنجازها، قد يكون التأثير العالمي لتلك الجولة التحفيزية في الواقع مضاداً للتضخم بسبب تكثيف المصانع الصينية لإنتاج سلع مثل الرقائق الإلكترونية الدقيقة لتغطية حاجتها، في الوقت الذي تسببت فيه قلة الإمدادات منها إلى ارتفاع الأسعار.

تأثير المشاريع على الاقتصاد الصيني

من جهة أُخرى، توجد تداعيات بيئية لتلك المشروعات بالنظر إلى أن المشاريع الكبرى التي وافقت عليها بكين معفاة من متطلبات كفاءة الطاقة في البلاد. عن ذلك يقول لوري ميليفيرتا من مركز أبحاث الطاقة والهواء النقي إنّ التزام الصين نموذجها لتحفيز البناء عند تباطؤ الاقتصاد يُعَدّ أكبر عامل منفرد من شأنه تحديد مسار انبعاثات البلاد المستقبلية، فيما من الممكن توجيه جزء كبير من الاستثمارات الجديدة إلى الطاقة المتجددة، ما سيساعد في الحد من إنتاج الغازات الدفيئة على المدى الطويل.

الصين تراهن على التخفيضات الضريبية في سعيها لتحقيق النمو

من جهةٍ أخرى، تشكل حملة البناء تحولاً في اتجاه الاقتصاد الصيني. فخلال العقد الماضي، تراجعت وتيرة الاستثمار في البنية التحتية تدريجياً بسبب سياسات بكين للحد من مستويات الديون المرتفعة، إذ بلغ معدل النمو في العام الماضي 0.4% فقط، مقارنة بنحو 20% سنوياً قبل عقد من الزمان. من جانبه، علّق جوستين لين، كبير الاقتصاديين السابق بالبنك الدولي، الذي عمل مستشاراً للرئيس شي، قائلاً: "سينعكس هذا الاتجاه"، فيما توقع بنك "غولدمان ساكس" ارتفاع الاستثمار في قطاع البنية التحتية في الصين بنسبة 8% في عام 2022.

وبسبب الإنفاق الضخم المقرر هذا العام، تراهن الصين على ألا تتحول تلك المشاريع إلى أعباء تثقل كاهل النظام المالي بقروض لن يجري سدادها. ويعتقد لين أنه "إذا جرى استغلال الفرصة للاستثمار في مشروعات البنية التحتية لتخفيف الاختناقات، فإن ذلك سيزيد الإنتاجية، ويمكن أن يعاظم الإيرادات الحكومية".

الرهان على الصناعة

في هذا الإطار، تُعتبر حملة البناء بمثابة رهان على نقاط القوة الاقتصادية للبلاد، إذ يمكن للمصانع الصينية ضخ أكثر من مليار طن من الفولاذ و1.5 مليار طن من الأسمنت سنوياً، على الرغم من استمرار تدني أجور عمّال البناء. كما أشرفت شركات البناء المملوكة للدولة، التي تُعَدّ من بين أكبر الشركات في العالم، على آلاف المشاريع من بكين إلى بودابست.

أيضاً تعمل الظروف السياسية لصالح شي، فالكوادر الشيوعية المحلية التي تتنافس على الترقيات في مؤتمر الحزب هذا الخريف، وهو حدث يُقام كل خمس سنوات، سيكون لديهم الدافع لضمان بقاء المشاريع على المسار الصحيح.

وبينما جادل الاقتصاديون الغربيون على مدى سنوات بأن اقتصاد الصين يعتمد بشكل كبير على الإنفاق العامّ عالي التكلفة، باتت تخفت هذه الانتقادات بعدما أرهقت المواني والطرق في البلاد بما يفوق قدرتها على مواكبة الطلب غير المسبوق على الصادرات خلال الوباء، مما أدى إلى حدوث أزمات في سلاسل التوريد، أسهمت بدورها في ارتفاع معدلات التضخم في البلدان الأخرى.

يقول صانعو السياسة في الصين إنّ البلاد لا تزال لديها احتياجات ضخمة في مجال البنية التحتية، إذ يفتقد 3 ملايين نسمة في 60 مدينة أنظمة مترو الأنفاق.

جوانب سياسية

من جانبها، تحاول بكين تجنب انفجار الديون الذي صاحب الجولات السابقة من تحفيز الاستثمار. وللقيام بذلك لجأ شي إلى مساعد موثوق به. وجده الرئيس الصيني في هي ليفينغ، 67 عاماً، وهو كان المستشار الاقتصادي للرئيس شي عندما كان الأخير حاكماً لمقاطعة فوجيان قبل عشرين عاماً من الآن. حالياً، يدير ليفينغ اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، وهي وكالة التخطيط المسؤولة عن الموافقة على جميع مشاريع البناء الكبرى وإنجازها.

بالنسبة إلى ليفينغ فإن المخاطر المهنية هي أعلى من أي وقت مضى، إذ إنه ينافس للحصول على ترقية كبيرة في مؤتمر هذا العام. ويتوقع بعض المحللين أن يحل محل كبير صانعي السياسة الاقتصادية في الصين، ليو هي، الذي قد يتقاعد قريباً. عن ذلك يقول نيل توماس، محلل الشؤون الصينية في مجموعة "يوراسيا" (Eurasia Group) لاستشارات المخاطر السياسية: "من المحتمل أن تتأثر آفاق ليفينغ المحتملة إذا أساء التعامل مع جهود الاستثمار العامّ في بكين".

كان رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، ليفينغ، حدد أولوياته في مؤتمر صحفي عُقد في مارس الماضي. وقال إنّ الاستثمار "يوفر قوة دافعة للمستقبل"، ووجَّه المسؤولين بـ"تسريع" البناء.

وللتعرف على كيفية تبلور مسيرة البناء، يمكن النظر إلى عاصمة الصين، إذ تضم قائمة العاصمة الأسيوية 300 مشروع رئيسي في بكين، تتطلب استثمارات بقيمة 280 مليار يوان هذا العام، بما في ذلك مركز لتربية الباندا، ومدينة "ليغولاند" للترفيه العائلي، ومصنع للسيارات الكهربائية تديره شركة "شاومي" (Xiaomi ) للتكنولوجيا.

الجانب المالي

توضح تلك القائمة مدى رغبة المسؤولين المحليين في تمويل المشاريع دون زيادة ديونهم، وذلك من خلال مطالبة شركات القطاع الخاص بتعزيز الاستثمار من أرباحها. وكان قطاع التصنيع في الصين خرج بقوة من آثار الوباء، وبدعم من التخفيضات الضريبية الحكومية الضخمة، من المفترض أن ينمو الاستثمار الصناعي بنسبة 10% هذا العام، وفقاً لبنك "مورغان ستانلي". وعلى الرغم من أن شركة "شاومي" مملوكة للقطاع الخاص، فإنّ وجود مصنع جديد جرى تعيينه مشروعاً كبيراً يؤهلها لامتيازات مثل تيسير الحصول على الأراضي، وأحياناً الإذن بأعمال البناء ليلاً.

كما تنخرط بكين في بعض الأعمال المبتكرة في مجال المحاسبة المتمثلة في تحويل تريليونات من مدخرات الطوارئ، إلى جانب الأصول المملوكة للبنك المركزي والشركات المملوكة للدولة، إلى الحكومات المحلية المسؤولة عملياً عن سداد غالبية تكاليف المشاريع.

وفي الربع الأول، أصدرت حكومات المقاطعات سندات "خاصة" لتمويل الاستثمار، بإجمالي قياسي بلغ 1.25 تريليون يوان. ووفقاً لوزارة المالية الصينية، بلغ متوسط أجل السندات المبيعة في فبراير أكثر من 16 عاماً، ما يجعلها أقل ضغطاً على التدفقات النقدية من القروض المصرفية. ويقول لين عن ذلك: "كانت المشكلة في الماضي أن شركات الاستثمار تقترض على المدى القصير من البنوك لدعم الاستثمارات طويلة الأجل، وكان هناك عدم تطابق في الاستحقاق. لذلك يمكننا زيادة إصدار السندات الخاصة".

تقرير: حملة الصين الصارمة قلصت حصة القطاع الخاص في الشركات الكبرى

مع ذلك لا تزال الفجوة كبيرة بين مبيعات السندات الحكومية المحلية ومبالغ الاستثمار المقررة. ومن المرجح أن يجري سد تلك الفجوة من خلال البنوك المملوكة للدولة في الصين، التي يمكنها الاستفادة من المدّخرات الضخمة للأُسَر بتكلفة منخفضة.

من هذا المنطلق طلبت أكبر هيئة تنظيمية مصرفية في الصين من البنوك تسريع إجراءات إقراض شركات التصنيع ومشاريع البنية التحتية، كما تستضيف الحكومات المحلية اجتماعات تحت اسم "المواءمة"، وهي تجمع مسؤولي البنوك مع الشركات المكلّفة إنجاز المشاريع الكبرى.

وتعمل بكين على تحويل المنطقة المحيطة بمطار داشينغ الدولي الجديد إلى مركز لوجستي ضخم للتجارة الإلكترونية وأبحاث الطيران. ويأتى المشروع في إطار حملة أوسع لتطوير ضواحي العاصمة بقرض تمويليّ من بنك التنمية الصيني قدره 400 مليار يوان.

بالنسبة إلى سو ليجون، سائق توصيل الطعام الذي يعمل بالقرب من المطار، فإن تأثير ما يجري في الاقتصاد المحلي واضح جداً، إذ يقول ليجون: "منذ نصف عام لم يكن هناك سوى نحو عشرة أشخاص منّا. الآن نحن أكثر من 100 سائق. إننا نوصّل من 50 إلى 60 طلباً في اليوم، وهو ما يعادل ضِعف كمية الطلبات التي كنا نوصّلها منذ نصف عام من الآن".