كل خيارات ألمانيا "سيئة" في مواجهة استراتيجية بوتين للغاز

متظاهرون أمام مبنى الوزارة الاتحادية للاقتصاد وحماية المناخ في برلين يوم 21 أبريل 2022، يرفعون لافتات تطالب بوقف فوري لواردات الغاز والنفط من روسيا بسبب غزو أوكرانيا. يسعى القادة السياسيون في ألمانيا إلى وقف اعتماد البلاد على واردات الطاقة الروسية، إلا أن مثل هذه الخطوة تحمل معها عواقب كارثية على الاقتصاد الألماني
متظاهرون أمام مبنى الوزارة الاتحادية للاقتصاد وحماية المناخ في برلين يوم 21 أبريل 2022، يرفعون لافتات تطالب بوقف فوري لواردات الغاز والنفط من روسيا بسبب غزو أوكرانيا. يسعى القادة السياسيون في ألمانيا إلى وقف اعتماد البلاد على واردات الطاقة الروسية، إلا أن مثل هذه الخطوة تحمل معها عواقب كارثية على الاقتصاد الألماني المصدر: غيتي إيمجز
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في عام 2018، خاض مسؤولو الحكومة الألمانية تجربة محاكاة سيناريو، يكون فيه نقص الغاز الطبيعي هائلاً. اليوم، وفيما يلوح مثل هذا الأمر في الأفق، يبدو أن الدروس المستفادة من تلك المحاكاة، باتت تتسم بطابع جدي. فقد أُجبرت بعض المستشفيات ودور رعاية المسنين والسجون على الإغلاق؛ وأُغلقت الشركات، وتُركت الماشية لتموت؛ واختفت مئات الآلاف من الوظائف، كما فُرض التقنين على الأسر، وفق ما تفيد به الرواية الرسمية لتمرين إدارة الأزمات.

في غضون أسابيع قليلة فقط، ستواجه ألمانيا المعضلة ذاتها التي واجهتها بولندا وبلغاريا قبل أيام قليلة: إما دفع ثمن الغاز الروسي بشروط فلاديمير بوتين، أي فعلياً، انتهاك العقوبات الأوروبية، أو رؤية الكرملين يغلق صمامات أنابيب الغاز.

اقرأ أيضاً: تصعيد كبير.. روسيا تقطع إمدادات الغاز عن بولندا وبلغاريا

يبدو التحول نحو "التوقف الفوري" عن استخدام الغاز الروسي بمثابة شعار سياسي براق، لكن في حقيقة الأمر، فإن الأضرار الاقتصادية على ألمانيا لا توصف. دعونا نقولها صراحةً: الركود سيكون قاسياً. بعد قراءة دروس 2018، والتحدث مع من شاركوا فيها، أنا شخصياً لا أتمنى أن أكون في مكان المستشار أولاف شولتس.

اقرأ المزيد: وقف إمدادات الغاز الروسي لبولندا وبلغاريا يكشف انقسامات في الاتحاد

رغم فشله في تحقيق أهدافه في ساحة المعركة، إلا أن بوتين لا يزال يلعب أوراقه في سوق الطاقة ببراعة، مستغلاً نقاط الضعف التي سادت سنوات من السياسة الأوروبية التي تتسم بقصر النظر. في الوقت الحالي، لا تملك ألمانيا سوى خيارات سيئة، وأخرى أكثر سوءاً.

اقرأ أيضاً: هنغاريا تسمح بسداد مدفوعات الغاز الروسي بالروبل

تستخدم كل من برلين وموسكو سلاح الغاز، مع اختلاف في السرعات فقط. تعتزم ألمانيا التوقف عن شراء الغاز الروسي بمرور الوقت، ربما بحلول عام 2024، وفي أثناء ذلك تحاول العثور على إمدادات إضافية وبناء بنية تحتية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة والشرق الأوسط. أما روسيا، فتفعل العكس: تستخدم السلاح الآن.

خيارات مؤلمة

في هذه المرحلة، شطب بوتين من قاموسه وبشكل أساسي، تجارة الغاز مع ألمانيا. تعرف روسيا أنها ستتوقف عن بيع الطاقة إلى برلين، إما في غضون أربعة أسابيع أو خلال 24 شهراً. لذا فإن الكرملين يجبر شولتس على اتخاذ بعض الخيارات المؤلمة، مع قيام بوتين بتحويل بعض الأسلحة الاقتصادية التي استُخدمت ضد نظامه، لمصلحته.

أخبر الكرملين عملاءه الأوروبيين الذي يشترون الغاز الروسي، أنه إذا أرادوا الاستمرار في الحصول على الغاز الروسي، عليهم دفع ثمنه عبر حساب في "غازبروم بنك"، وهو بنك تسيطر عليه الدولة. تتضمن عملية الدفع إجراءات من خطوتين وفي حسابين، أحدهما باليورو والآخر بالروبل. الخطوة الأولى هي السداد باليورو؛ والثانية تحويله إلى روبل لحساب العميل. فقط عند اكتمال هذا التحويل، والذي يرتبط من الناحية الفنية بالبنك المركزي الروسي، يُعتبر الدفع مستوفى.

لم تنوِ ألمانيا - وفرنسا وإيطاليا – قط، فرض حظر على الغاز الروسي في هذه المرحلة. والعقوبات المفروضة على البنك المركزي، كانت تتعلق بمنع بوتين من الوصول إلى مليارات الدولارات من احتياطيات العملة الصعبة، وليس وقف مدفوعات الغاز. لكن بوتين قلب الطاولة: إنه يستخدم عقوبات الاتحاد الأوروبي الآن ضدَّ الأوروبيين، من خلال إجبارهم على التعامل مع البنك المركزي الروسي بالروبل.

تكاليف اقتصادية واجتماعية

إذا سمحت برلين وباريس وروما بمواصلة المدفوعات، فسيظهر نفاقها، الأمر الذي سيحدث شرخاً من شأنه أن يعزز استراتيجية الكرملين السياسية القائمة على مبدأ "فرّقْ تسُد". كما ستظهر هذه الدول أن الاتحاد الأوروبي مستعد لمواصلة دفع مليارات اليورو أسبوعياً إلى روسيا، وبالتالي، دعم الروبل -ودعم جيش بوتين– في حال قيامها بهذه الإجراءات. والأسوأ من ذلك أنه لن يكون هذا هو التنازل الأخير. سيستغل بوتين الضعف في مجال الغاز لفعل المزيد. الآن مدفوعات الروبل، وربما غداً التراجع عن العقوبات، أو عن المساعدات العسكرية لأوكرانيا.

إذا التزمت برلين والعواصم الأخرى حرفياً بعقوباتها، لا يمكن أن تستمر المدفوعات. لكن هذا يعني قبول عقوبات غاز لم تنوِ هذه الدول فرضها، على الأقل، ليس بعد. وسيعني ذلك تكاليف اقتصادية واجتماعية هائلة، إلى حد يمكن أن يتسبّب في تلاشي الدعم العام الأوروبي لأوكرانيا. أعلن شولتس يوم الخميس، أن ألمانيا مستعدة لوقف الإمدادات، إذ قال: "عليك أن تستعد لذلك، لقد بدأنا ذلك بالفعل قبل اندلاع الحرب.. ونحن نعرف ما علينا القيام به".

هذه ليست مجرد مشكلة قصيرة المدى أيضاً. فإذا تمكنت ألمانيا بمرور الوقت من العثور على بدائل للغاز، سيكون سعره أعلى بكثير. لقد انتهى عصر الغاز الروسي الرخيص الذي يغذّي الاقتصاد الألماني. ولن تستطيع الشركات الألمانية كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل عمالقة المواد الكيميائية، المنافسة في السوق العالمية. ستواجه ألمانيا خيارات مؤلمة بشأن مستقبل اقتصادها الصناعي.

رسالة واضحة

من خلال استهدافه بولندا وبلغاريا للمرة الأولى هذا الأسبوع، أظهر بوتين أنه جدّي في تهديداته. لا تشتري وارسو وصوفيا الكثير من الغاز الروسي، إذ أنه من بين حوالي 155 مليار متر مكعب اشتراها الاتحاد الأوروبي العام الماضي من روسيا، بلغت حصة بولندا حوالي 10 مليارات متر مكعب، وبلغاريا 3 مليارات متر مكعب. لذا، فإن وقف تدفق الغاز إلى هاتين الدولتين لا يكلف روسيا سوى خسارة جزء صغير من الإيرادات، إلا أنه يبعث برسالة واضحة إلى ألمانيا.

يواجه شولتس معضلة عسيرة. لقد جادلتُ شخصياً بأن مسألة واردات الغاز الأوروبية هي مجرد نفاق، وتمول آلة الكرملين العسكرية، وغير مستدامة، وتترك الاتحاد الأوروبي تحت رحمة موسكو. لكني أكتب هذه السطور من واشنطن، حيث يتوافر الغاز بكميات كبيرة وبأسعار رخيصة نسبياً، لذلك من السهل المحاضرة عن القيم الأخلاقية وضرورة دعم أوكرانيا. ومع ذلك، لا أرى أمام شولتس أي خيار آخر سوى إيقاف المدفوعات في أواخر مايو، ومواجهة العواقب. لقد انتهى الوقت.