بريطانيا على وشك أن تصبح عاصمة الركود التضخمي في العالم المتقدم

رسم تعبيري لصالح "بلومبرغ بيزنس ويك"
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في عالم يشهد ارتفاعاً هائلاً في معدلات التضخم وتراجعاً في النمو، ثمّة موقع خاص للمملكة المتحدة. فهي في طريقها لتصبح عاصمة الركود التضخمي للدول المتقدمة. إذ من المتوقَّع أن ترتفع الأسعار في المملكة المتحدة بنسبة 13.1% خلال هذا العام والعام المقبل، وهي النسبة الأكبر في مجموعة الدول السبع، فيما سيتراجع النمو إلى أدنى مرتبة في المجموعة في عام 2023، وفقاً لصندوق النقد الدولي. ويتوقَّع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية أن تدخل البلاد في حالة ركود قبل العام المقبل.

العاصفة البريطانية

هذا النوع من الاستثنائية البريطانية المثيرة للاهتمام بات مألوفاً جداً. فما أن تهبّ نسمة هواء في الاقتصاد العالمي حتى تتحول إلى عاصفة عاتية تحطّ رحالها في المملكة المتحدة. فكان أثر الانهيار الناجم عن وباء كورونا في عام 2020 أشدّ وطأة في المملكة المتحدة مقارنة بدول مجموعة السبع الأخرى. وبعد مرور أربعة عشر عاماً على الأزمة المالية عام 2008، ما تزال الحكومة تمتلك 48% من مجموعة "نات ويست" (NatWest) التي أعيد إطلاقها تحت اسم "رويال بنك أوف سكوتلاند". في حين أنَّ الولايات المتحدة التي انطلقت منها الأزمة، قد تخطت ذلك.

الصراعات الجيوسياسية تكبد اقتصاد العالم 1.6 تريليون دولار في 2022

حين تقع الأزمة، تتأثر المملكة المتحدة بشكل كبير بما أنَّ اقتصادها يفتقر إلى المرونة بشكل أكبر من الدول الأخرى. ويعطي ذلك درساً في اتخاذ القرارات ذات الفعالية المفرطة لإنقاذ الموقف في الوقت الحالي، وهي ثقافة ترتكز إلى خفض التكاليف بدلاً من الاستثمار في المستقبل. هذا الأمر بات واضحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى. في هذا الصدد، يقول المدير الأوروبي لصندوق النقد الدولي ألفريد كامر إنَّ الصدمة التضخمية في المملكة المتحدة ستكون أسوأ مما كانت عليه في الولايات المتحدة وأوروبا، لأنَّها تجمع بين "أسوأ ما في العالمين": نقص العمالة في أمريكا وأزمة الطاقة في أوروبا. ويمكن إرجاعهما إلى نقص في القدرات الهيكلية.

حلول قصيرة الأمد

تحصل المملكة المتحدة على حوالي نصف حاجتها من الغاز محلياً من بحر الشمال، ولكنَّها لا تقوم بتخزينه. إذ تم إغلاق آخر منشأة كبرى، وهي منشأة "راف" في عام 2017 بعد أن اعتبر مالكها أنَّها لم تعد ذات فائدة اقتصادية. يترافق ذلك مع نهج عدم التدخل في أمن الطاقة الذي وضع حوالي نصف سعة الطاقة النووية في البلاد على الطريق نحو التوقف عن العمل بحلول عام 2024، أي قبل عامين من توفير أي بديل، مما يجعل المملكة المتحدة عرضة لتقلّبات الأسعار الآنية في أسواق الطاقة. ويحمل ارتفاع أسعار الوقود الكثير من الصعوبات للعائلات، ويؤدي إلى تفاقم أزمة غلاء المعيشة.

ليس من الصعب معرفة الحلول البديلة التي كان من الممكن اللجوء إليها. ففي الأسابيع القليلة الماضية، استوردت المملكة المتحدة كميات هائلة من الغاز الطبيعي المسال، حتى أكثر ممّا هي قادرة على استخدامه. واليوم، بات سعر الغاز في المملكة المتحدة أقل من سعره في قارة أوروبا. ولو كانت منشأة "راف" ما تزال تعمل؛ فإنَّ صدمة الطاقة القادمة أقل حدّة. بالتالي؛ يمكن القول إذاً إنَّ هذه الأزمة هي من صنع يد بريطانيا بشكل جزئي.

بريطانيا باتت مُتخمة بغاز أكثر مما يمكنها تخزينه

تبعات بريكست

الأمر نفسه ينطبق على ضيق سوق العمل. في هذا الصدد، قال مايكل سوندرز عضو لجنة السياسة النقدية المحددة لسعر الفائدة في بنك إنجلترا في 9 مايو، إنَّه "من المحتمل أن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد زاد من حدّة منحنيات الأجور والأسعار" بعد أن حدّ من العمالة الواردة، وقيّد بعض الواردات.

وباتت سوق العمل ضيقة للغاية لدرجة أنَّه للمرّة الأولى على الإطلاق، بات عدد الوظائف الشاغرة أكبر من عدد العاطلين عن العمل. فمنذ بداية الوباء، تقلّصت القوة العاملة بواقع 440 ألف شخص. ويعود حوالي نصف هذا الانخفاض إلى التراجع بعدد اليد العاملة الوافدة من الاتحاد الأوروبي. وقال عضو لجنة السياسة النقدية السابق آدم بوسن أمام البرلمان في 11 مايو، إنَّ "جزءاً كبيراً من الفارق في التضخم بين المملكة المتحدة ومنطقة اليورو هو بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". فمغادرة بريطانيا الاتحاد كشف اعتمادها المفرط على اليد العاملة المهاجرة الرخيصة.

نقص المرونة

وأظهر الركود في ظلّ وباء كورونا خطر سياسات قصر النظر أيضاً. إذ هدفت سياسة الإغلاق الحكومية إلى حماية هيئة الخدمات الصحية الوطنية من الإرهاق، بعد أن كانت سنوات من نقص الإنفاق بالنسبة إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي قد استنفدت موارد الهيئة. وبما أنَّ النظام لم يكن مستعداً بالقدر المطلوب؛ كان لا بدّ من تمديد الإغلاق من أجل تجنّب المزيد من الوفيات.

كان نقص القدرات السبب أيضاً في عدم توفر ما يكفي من معدات الوقاية الشخصية التي كان الكثير منها قد أصبح غير صالح للاستعمال، حتى قبل كورونا. وفي السباق العالمي على الإمدادات، أنفقت المملكة المتحدة مبالغ مفرطة لدرجة أنَّها أقرت بدفع "أسعار مضخّمة" وصلت إلى 4.7 مليار جنيه إسترليني (5.9 مليار دولار)، وإنفاق نصف مليار جنيه إسترليني على معدات غير صالحة للاستعمال، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية لاحقاً.

وإذا ما عدنا في الزمن إلى الوراء أكثر، يبدو أنَّ نقص المرونة ينطبق أيضاً على البنوك البريطانية. فهي كانت تعمل بأقصى قدرة لها. إذ كان رأس المال السهمي لمصرف "رويال بنك أوف سكوتلند" ضعيفاً جداً لدرجة أنَّ خسارة بقدر 1.97 جنيه فقط على كلّ قرض بـ100 جنيه كانت كافية لإفلاس البنك، وفق حسابات هيئة الرقابة المالية البريطانية لاحقاً. وعلى الرغم من أنَّ البنوك حول العالم كانت تعاني من نقص رأس المال؛ لكنَّ البنك البريطاني الأكبر كان في الوضع الأسوأ.

البطالة في بريطانيا تنخفض لأدنى مستوى في 48 عاماً

التكلفة مقابل النمو

وبشكل عام، تفضّل الشركات البريطانية نهج تخفيض التكلفة بدلاً من الاستثمار في النمو. فالشركات تستثمر 10% فقط من الناتج الإجمالي المحلي في بريطانيا، مقارنة بـ14% في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، كما أنَّ إنفاقها أقل بمقدار الثلث على تدريب الطواقم. وقد وصف أحد الصناعيين الأوروبيين الأمر بالتالي: حين يرى الألمان آلة جديدة مبهرة؛ فإنَّهم يريدونها، وحين يرى البريطانيون هذه الآلة؛ فهم يسألون كم سعرها.

رسخت الحكومة هذا النهج في الثمانينيات حين باعت أصولها من أجل تسديد المستحقات عليها. وفي عام 2019، كتب ريتشارد هيوز الذي يشغل اليوم منصب رئيس مكتب مسؤولية الميزانية، وهي هيئة الرقابة المالية الحكومية أنَّه تم تخصيص الشركات، وتم في بعض الأحيان بيع المساكن العامة "بأسعار أقل من قيمة الاحتفاظ بها".

تسبّبت هذه الإجراءات قصيرة المدى في جعل القيمة الصافية للقطاع العام – الذي يعدّ مقياساً للاستدامة المالية على المدى الطويل – سلبية للغاية. فقيمة التزامات الحكومة البريطانية أكبر بنحو 2.2 تريليون دولار من قيمة أصولها. وباستثناء إيطاليا، لا توجد أي حكومة أخرى في دول مجموعة السبع تترتب عليها أي ديون أكثر ممّا تملك بهذا القدر الكبير.

إلا أنَّه من خلال التجارب، أدركت المملكة المتحدة كيف تجعل الأسواق تعمل لصالحها. فمثل الولايات المتحدة، تعاونت مع القطاع الخاص من أجل تركيز الرأسمالية الشرسة على مهمة تأمين لقاحات لفيروس كورونا.

ويعتبر نجاح بريطانيا وسرعتها في توزيع اللقاحات هو العامل الذي مكّنها من تحقيق التعافي الاقتصادي الأسرع ضمن مجموعة الدول السبع في عام 2021. والنجاح الأخير الذي حقّقته المملكة المتحدة في استيراد الغاز الطبيعي المسال مثال آخر على ذلك. حتى أنَّ محافظ مصرف إنجلترا قارن بين الارتفاع في استيراد الغاز وفريق العمل الذي أمّن اللقاح، ودعا في 5 مايو إلى تركيز موازٍ بالغ الدقة "على مرونة إمدادات الطاقة".

في الحالات المثالية، تكون كفاءة اقتصاد السوق المفتوحة لصالح بريطانيا، وتسهم في تحقيق نمو يتجاوز ذلك المسجل في الدول الأوروبية الأخرى. ولكن في حالات الصدمات مثل اليوم؛ فإنَّ بريطانيا تدفع الثمن.