الدولار القوي "مشكلة العالم" في سوق النفط

عامل يمر أمام مضخة بنزين في محطة وقود لشركة بهارات بتروليوم في مومباي، الهند. الدولار القوي مشكلة الجميع ما عدا أميركا.
عامل يمر أمام مضخة بنزين في محطة وقود لشركة بهارات بتروليوم في مومباي، الهند. الدولار القوي مشكلة الجميع ما عدا أميركا. المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قبل أكثر من 50 عاماً، في اجتماع كبرى القوى الاقتصادية في العالم، صدم جون كونالي، وزير الخزانة الأميركية آنذاك، نظراءه بتصريحه أن "الدولار عملتنا.. لكنه مشكلتكم". في ذلك الحين، أرادت أميركا خفض سعر عملتها، مما يجبر الدول الأخرى على تعديل قيمة عملاتها.

لكن بعد نصف قرن من هذه الواقعة، انقلبت الآية وبات الاقتصاد العالمي يواجه تحدياً معاكساً، فالعملة الخضراء تحوم حالياً عند أعلى مستوياتها في 20 عاماً مقابل نظيراتها من العملات الرئيسية الأخرى، مما يؤدي إلى مشكلة كبيرة لكل من يعيشون خارج الولايات المتحدة، ويشترون البضائع المقومة بالدولار. ولا يوجد سلعة رئيسية أهم في هذا الصدد من النفط الخام.

منذ اليوم الذي جعل فيه كونالي الدولار "مشكلة كل من هم خارج أميركا" والعملة الخضراء تعتلي العرش بوصفها ملكة أسواق الطاقة والسلع الرئيسية العالمية. ويُستخدم الدولار لتحديد سعر كل المواد الخام التي يستهلكها العالم تقريباً حالياً، بدءاً من النفط ومروراً بالقمح ووصولاً إلى النحاس. وحتى الشاي، ذلك المشروب البريطاني الجوهري، يتم تسعيره بالدولار الأميركي بدلاً من الجنيه الإسترليني.

الدولار الأميركي

توازن ضروري

تقليدياً، كانت زيادة قوة الدولار تعني انخفاض أسعار السلع الرئيسية، والعكس صحيح. فالعلاقة بين هذه السلع والدولار تميل للتصرف كحصانة للاقتصاد العالمي، مع تعويض أحدهما للآخر، وهو أمر مهم بشكل خاص للدول الأكثر فقراً. وشكّلت المرة الأخيرة التي شهد فيها العالم ارتفاعاً كبيراً في أسعار النفط مثالاً حياً على هذا التوازن. ففي 2008، حلّق سعر خام "برنت" إلى أعلى مستوياته على الإطلاق عند 147.50 دولار للبرميل، مما أرهق الموارد المالية لدى كثير من الدول.

لكن خلال العام نفسه، تراجع سعر الدولار إلى مستوى منخفض قياسي مقابل عملات الاقتصادات الأخرى التابعة للشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة، مما خفف من بعض الضرر. وبالنسبة لكثير من الدول التي تعتمد على الاستيراد حينها، أصبح النفط باهظ الثمن، لكن تكلفته ليست كبيرة للغاية عند تقويمه بالعملات المحلية.

اقرأ أيضاً: الإمارات: أسعار النفط "ليست قريبة من ذروتها بعد"

انتهاء الارتباط

يبدو أن العلاقة التاريخية بين سعر الدولار والنفط انتهت الآن. وارتفع سعر الخام بنسبة 70% في العام الماضي، ويتداول حالياً مقابل 120 دولاراً للبرميل تقريباً. في الوقت نفسه، ارتفع سعر الدولار 10% منذ منتصف 2021. ما يخلق أزمات في ميزان المدفوعات لدى العديد من الدول المستورِدة النفط، وبصفة خاصة في أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا.

فجوة كبيرة

خسرت مالاوي، وهي إحدى أفقر الدول في أفريقيا، مؤخراً 25% من قيمة عملتها في يوم واحد. أما سريلانكا، وهي إحدى أفقر الدول في آسيا، باتت على شفا الانهيار الاقتصادي. قال مايك مولر، رئيس الأسواق الآسيوية في مجموعة "فيتول" (Vitol)، التي تعد أكبر مؤسسة خاصة لتداول النفط في العالم، الأحد الماضي: "الفجوة بين الدول الغنية ونظيراتها ذات القدرات الأقل على الدفع مقابل السلع الرئيسية تزداد اتساعاً بشدة".

الدولار القوي يخنق الاقتصادات الناشئة ويدفع العالم إلى فخ التباطؤ

وحتى الدول التي تستطيع الدفع مقابل الأسعار المرتفعة للغاية إذا ما قورنت بالعملات المحلية، مثل أوروبا واليابان، تعاني بسبب الضغوط التضخمية المتزايدة.

رغم انخفاض سعر خام برنت الآن بنحو 20% من قيمته المقومة بالدولار التي بلغها في 2008، إلا أن الوضع ينعكس ويصبح سعره قياسياً عند تقويمه بالعملات المحلية في الدول التي تمثل 35% تقريباً من الطلب العالمي على النفط.

تدفع الهند –ثالث أكبر دولة مستهلكة للنفط بعد الولايات المتحدة والصين- حوالي 45% زيادة مقارنة بما كانت تدفعه قبل 14 عاماً، بسبب الاضمحلال الكبير في سعر صرف الروبيه، كما تدفع منطقة اليورو حالياً 111 يورو (ما يعادل 119 دولاراً) لكل برميل نفط، مقارنة بـ93.5 يورو في يوليو 2008.

تواجه المملكة المتحدة مشكلة مشابهة، إذ وصل خام برنت لقمة سعرية تناهز 74 جنيهاً إسترلينياً (ما يعادل 92 دولاراً) للبرميل في 2008، أما حالياً، فيشهد زيادة سعرية بنحو الثلث تقريباً ليصل إلى 95 جنيهاً إسترلينياً.

مع انزلاق الين إلى أضعف مستوياته مقابل الدولار في عقدين، تكتوي اليابان كذلك من نار الأسعار. وتستمر قائمة الدول التي تعاني لدفع فواتير الطاقة في الزيادة أكثر وأكثر.

اقرأ أيضاً: صندوق النقد الدولي: الحكومات بحاجة إلى ترك الأسعار ترتفع.. وعليهم حماية الفقراء

بعيداً عن توابع الصدمات الاقتصادية المحلية، يٌعدّ ارتفاع أسعار النفط القياسي مقابل العملات المحلية مهماً أيضاً لسوق الطاقة في حد ذاتها. ويبحث متداولو النفط عن إشارات على "انهيار الطلب"، وهي النقطة التي يؤدي فيها ارتفاع الأسعار الشديد إلى خفض الاستهلاك. في الوقت الراهن، ما يزال نمو الطلب على النفط قوياً، مدفوعاً بعودة الاستهلاك المكبوت في ظل خروج العالم من الوباء. لكن مع مواجهة جزء كبير من العالم لأسعار قياسية بالفعل؛ سيتضرر الطلب قريباً. يقدر المحللون في مجموعة "غولدمان ساكس" أن قوة الدولار الأميركي ستضيف متوسط زيادة قدره 20 دولاراً تقريباً للبرميل عند حساب السعر بالعملات المحلية، "ليصل سعر خام برنت إلى مستويات تعادل 150 دولاراً للبرميل".

"سيتي بنك" يرفع توقعاته لأسعار النفط خلال العامين الحالي والمقبل

بالنسبة لتحالف "أوبك +"، يُعدّ انتهاء العلاقة بين النفط الخام والعملة الخضراء أمراً مفاجئاً. ففي 2007، خلال قمة منظمة "أوبك" في الرياض، أعربت الدول المنتجة للنفط عن قلقها من انهيار الدولار. ومع استعداد بنك الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بصورة أكبر وأسرع من نظرائه من البنوك المركزية، يبدو الدولار الأميركي مهيأً لاستمرار الصعود، وهو سبب آخر يجب أن يدفع التحالف للعمل بصورة أكبر على تقييد الأسعار.

نفط