حظر "جول" يوجه لطمة موجعة لكبرى شركات تسويق النيكوتين

ضربة إدارة الغذاء والدواء الأميركية طالت بالتبعية الشركة التي تصنع سجائر "مارلبورو"

منتج شركة "جول لابس" معروض للبيع في متجر في سان فرانسيسكو
منتج شركة "جول لابس" معروض للبيع في متجر في سان فرانسيسكو المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أمرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية في 23 يونيو بإزالة سجائر "جول" (Juul) الإلكترونية الشهيرة من على أرفف المتاجر في قرار جاء تقريعاً لشركة التقنية الناشئة التي تعهدت بثورة على التدخين التقليدي، لكنها ساعدت بدلاً من ذلك بنشوء جيل جديد من المراهقين المدمنين على النيكوتين.

كان من الواضح أن الشركة التي حملت لاحقاً اسم "جول لابس" (Juul Labs) مقبلة على يوم كهذا، حين طرحت سجائرها الإلكترونية في صيف 2015، وروجت لمنتجها عبر لافتات إعلانية براقة في ساحة "تايمز سكوير" في نيويورك تصور شخصيات مؤثرة شابة في أوساط إنستغرام، وهي تستعرض جهاز النيكوتين الأنيق بتباهٍ. سبق أن لاقت شركات التبغ الكبرى الست منذ نحو 25 عاماً استنكاراً شديداً لترويجها السجائر للشباب، ولكذبها على الشعب الأميركي حول طبيعة منتجاتها المميتة والإدمانية.

"فيليب موريس" تقتنص "سويدش ماتش" للتبغ مقابل 16 مليار دولار

ثم جاءت "جول" وهي من بنات أفكار اثنين من خريجي جامعة "ستانفورد" دفعا باستراتيجية "المباغتة وانتهاز الفرص" التقليدية للنمو في وادي السيليكون. لقد اتّبع مؤسسا "جول" نسخة تعارض الفكر السائد من دليل الست الكبار في صناعة التبغ عبر تغليف جرعة نيكوتين شديدة الإدمان بهيكل من الكروم، كانت في البداية لا تكشف بوضوح عن احتوائها على النيكوتين، وتسويقها لجيل جديد من الشباب الذين باتوا ينبذون السجائر التقليدية بازدياد. بينما انخفضت معدلات تدخين الشباب إلى مستويات قياسية، أصبح المراهقون في جميع أنحاء أميركا فجأة مدمنين على نيكوتين التبخير. أثار ذلك حنق الآباء ومسؤولي الصحة العامة وإدارة الغذاء والدواء على حد سواء. فيما أن النيكوتين ليس العنصر المميت في السجائر بحد ذاته، بعكس الاحتراق، إلا أنه يسبب إدماناً شديداً تماماً كما الهيروين، وقد يؤثر على نمو دماغ المراهقين.

قصاص عادل

كان القرار الذي اتخذته إدارة الغذاء والدواء الأميركية بعد مراجعة علمية امتدت على مدى عامين، أكثر من مجرد رأي، إذ ربما وجّهت الوكالة المسؤولة عن حماية صحة الشعب الأميركي ضربة قاضية لشركة محلية بلغت قيمتها 38 مليار دولار منذ بضع سنوات وهيمنت على أكثر من 70% من السوق.

أشاد دعاة مكافحة التدخين الإلكتروني والمشرعون بالقرار ووصفوه بأنه قصاص عادل طال انتظاره. قال رجا كريشنامورثي، العضو الديمقراطي في مجلس النواب عن ولاية إلينوي ورئيس اللجنة الفرعية المعنية بالسياسات الاقتصادية والاستهلاكية، وهو من أبرز منتقدي "جول لابس": "أحيي إدارة الغذاء والدواء على احترامها للعلم وتخليص السوق من منتجات (جول) التي تسببت باحتمال إدمان عدد لا يحصى من الشباب الأميركيين للنيكوتين مدى الحياة".

حظر استيراد أجهزة "إيكوس" التابعة لـ"فيليب موريس" في الولايات المتحدة

كما قال ديك دوربين، العضو الديمقراطي عن ولاية إلينوي بمجلس الشيوخ في خطاب ألقاه أمام المجلس: "إذا كنت لا تعرف القصة وراء السجائر والتدخين الإلكترونيين، فاسأل أحد طلاب المرحلة الثانوية في أميركا".

أفاد ما يقرب من 30% من طلاب المدارس الثانوية في 2019، بأنهم يستخدمون السجائر الإلكترونية، ومعظمها من إنتاج "جول". حذر سكوت غوتليب، المفوض السابق في إدارة الغذاء والدواء، من أن استخدام السجائر الإلكترونية بات "نزعة خطيرة تنتشر في كل مكان تقريباً بين المراهقين". انخفضت نسبة طلاب المدارس الثانوية الذين يدخنون السجائر الإلكترونية منذئذ إلى 11%، وأصبح المنتج الأكثر رواجاً هي سيجارة "باف بار" (Puff Bar) الوافدة الجديدة، وليس "جول".

معيار الصحة العامة

يظهر جلياً أن دافع الوكالة لسحب منتج "جول" من الأسواق لم يكن جاذبية الشركة لدى الشباب. يخول قانون كان قد صدر في 2016 إدارة الغذاء والدواء سلطة منح أو رفض "أوامر التسويق" للسجائر الإلكترونية ومنتجات التبغ البديلة الأخرى بناءً على مدى موافقتها لمعيار "الملاءمة لحماية الصحة العامة". وجدت الوكالة أن سجائر "جول" لم تتوافق مع هذا المعيار لأنها فشلت بتقديم أدلة كافية "لتقييم المخاطر السمية المحتملة لاستخدام منتجاتها"، رغم أن شركة التقنية الشهيرة أنفقت أكثر من 150 مليون دولار ووظفت جيشاً من العلماء لإثبات حجتها.

السجائر الإلكترونية.. أداة محفوفة بالمخاطر للإقلاع عن التدخين

برغم أن إدارة الغذاء والدواء بيّنت أنها لا تعتقد أن سجائر "جول" تشكل "خطراً مباشراً" على صحة الإنسان، إلا أنه يصعب معرفة ما أقلقها تحديداً لأن ما يسمى بأوامر رفض التسويق غير علنية. لكن الوكالة ذكرت أن "بعض نتائج دراسة الشركة أثارت مخاوف بسبب عدم كفاية البيانات وتضاربها" بشأن قضايا مثل السمية على المورثات، ما يشير بشكل أساسي إلى عدم اقتناع الوكالة بأن المنطق العلمي الذي طرحته شركة "جول" كان كافياً لاستبعاد قابلية منتجها للتسبب بتلفٍ خلوي.

كما قالت الوكالة إن بيانات منتجة السجائر الإلكترونية حول "المواد الكيميائية التي ربما تضر" وقد تتسرب من مستوعبات النيكوتين السائل غير كافية، وإنها "حالت دون إنجاز إدارة الغذاء والدواء لتقييم كامل لمخاطر السمية". رغم عدم ذكر هذه المواد الكيميائية في البيان الصحفي، إلا أن هناك دراسات تُظهر أن مدخني سجائر "جول" ربما يستنشقون معادن ثقيلة نظراً لوجود وشيعة تسخين صغيرة مصنوعة من الكروم والنيكل والحديد في المستوعب الذي يبخر منه النيكوتين السائل.

سماح لحين البت

منح قاضٍ فيدرالي في 24 يونيو أمراً طارئاً لشركة "جول" يسمح لمنتجاتها بأن تعرض للبيع على أرفف المتاجر لحين البت باستئنافها ضد قرار إدارة الغذاء والدواء. قال جو موريللو، كبير المسؤولين التنظيميين في شركة "جول": "مازلنا ملتزمين ببذل كل ما بوسعنا لمواصلة خدمة الملايين من المدخنين الأميركيين البالغين، الذين استخدموا منتجاتنا بنجاح للتحول عن السجائر القابلة للاحتراق".

يذكر أن "جول" هي أكبر الشركات المنتجة للسجائر الإلكترونية في الولايات المتحدة، حيث تهيمن على ما يقرب من 40% من السوق الأميركية. حققت الشركة مبيعات قُدرت بـ 1.3 مليار دولار خلال العام الماضي، هبوطاً من ذروة أرباح بلغت 2 مليار دولار في 2019. يتركز أكثر من 90% من أعمال الشركة في الولايات المتحدة، وتتواجد معظم بقية أعمالها في كندا والمملكة المتحدة، فيما تحتضن فرنسا وإيطاليا والفلبين النسبة الأقل. لن تكون الشركة سوى "نفخة دخان" بغياب السوق الأميركي.

صانعة سجائر "مارلبورو" تطلب إقناع الأميركيين بأن النيكوتين ليس سيئاً

شهدت شركات الاستثمار التي استثمرت أموالها في "جول" لدى صعودها، مثل "تايغر غلوبال مانجمنت" (Tiger Global Management) و"فيديليتي إنفستمنتس" (Fidelity Investments)، إخفاق رهاناتها على مر السنين، حيث انخفض تقييم الشركة في خضم إصدار قوانين جديدة بشأن السجائر الإلكترونية، وسلسلة من المفارقات المتعلقة بالصحة العامة، وتنافسية السوق المتزايدة. دفعت مجموعة "ألتريا" (Altria)، التي تصنع سجائر "مارلبورو"، 12.8 مليار دولار للاستحواذ على 35% من "جول" في 2018، بينما تقدر الشركة هذا الاستثمار حالياً بنحو 1.6 مليار دولار. يرى محلل أبحاث التبغ في بنك "غولدمان ساكس" بوني هيرزوغ أن الجانب المشرق المحتمل بالنسبة لمجموعة "ألتريا" هو أن مزيداً من مستخدمي "جول" الذين يواجهون عالماً بلا سجائرها الإلكترونية قد يعودون لتدخين "مارلبورو" بدلاً من ذلك.

مكاسب المنافسين

لكن الرابحين في هذا الصراع هم منافسو "جول" دون شك. فقد حصلت "فيوز" (Vuse) التابعة لشركة "أر جي رينولدز فيبور" (R.J. Reynolds Vapor) التي تحتل المرتبة الثانية في سوق التدخين الإلكتروني، إضافة إلى "إنجوي" (NJOY)، ثالث أكبر منتجي السجائر الإلكترونية، على تصريح من إدارة الغذاء والدواء لتسويق منتجاتهما.

تمر إدارة الغذاء والدواء بمرحلة مفصلية مع تحول صناعة التبغ إلى عصر شركات النيكوتين الكبرى، حيث يستمر نمو سوق المنتجات البديلة للتبغ، التي قد تكون أقل ضرراً مثل السجائر الإلكترونية ومنتجات النيكوتين التي تشمل أعواد الأسنان المغموسة به، وأكياسه التي توضع بين باطن الخد واللثة، وأقراص استحلابه، حتى في ظل انخفاض مبيعات السجائر القابلة للاحتراق بمقدار بضع نقاط مئوية سنوياً. بلغت قيمة سوق النيكوتين العالمية في 2021 نحو 935 مليار دولار بزيادة 25% عن 2016، وفقاً لشركة أبحاث السوق "يورومونيتور إنترناشيونال" (Euromonitor International).

هل يصح أن يربط فارس "مارلبورو" راحلته على باب شركة لأدوية الربو؟

تعهدت صانعة السجائر "فيليب موريس" بالتخلي تدريجياً عن مبيعات السجائر القابلة للاحتراق وجعل غالبية منتجاتها "خالية من الدخان" بحلول 2025، كما سارعت لشراء الشركات التي لديها خبرة في إنتاج عقاقير لعلاج أمراض الرئة وأِشارت لإمكانية تطوير منتجات جديدة من شأنها أن تقدم مجموعة "تجارب حسية" مثل القنب أو حتى النباتات العشبية مثل البابونج للاسترخاء.

كانت إدارة الغذاء والدواء تحاول لسنوات اكتشاف كيفية حل إحدى أكثر المشاكل الصحية تعقيداً في أميركا، ألا وهي التدخين. يتسبب تدخين السجائر بوفاة 480 ألف شخص كل عام، ما يجعله أكبر مسبب للأمراض والوفيات التي يمكن تفاديها. جادلت إحدى الحركات المعنية بالصحة العامة وهي تحظى بنفوذ متزايد، على مدى العقدين الماضيين بأن الحكومة يجب أن تفعل كل ما بوسعها لتسريع نهاية المنتجات القاتلة.

منع إدمان جيل

يعد حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية هو تقليل النيكوتين في السجائر إلى مستويات لا تسبب الإدمان أو تسبب حداً أدنى منه. لن يساعد ذلك المدخنين الحاليين نظرياً على التخلص من هذه العادة فحسب، بل سيمنع أيضاً جيلاً جديداً من اتخاذ قرار بالإدمان مدى الحياة، حيث يبدأ جميع المدخنين البالغين تقريباً هذه العادة قبل سن 18 عاماً. كانت إدارة بايدن قد وضعت خطة لمطالبة الشركات بتقليل كمية النيكوتين في السجائر قبل يومين فقط من صدور قرار إدارة الغذاء والدواء بحظر "جول".

لطالما شكل توفير خيارات أقل ضرراً للمدخنين تتناول "سلسلة متصلة" من المخاطر، ومنها علاجات النيكوتين البديلة مثل اللصقات والعلكات وعقاقير الإقلاع عن التدخين مثل فارينكلين والسجائر الإلكترونية، عنصراً آخر في استراتيجية المرحلة النهائية.

"بريتش أميركان توباكو": سجائر التسخين تقلل مخاطر الإصابة بأمراض التدخين

قدمت شركة "جول" وغيرها من صانعي السجائر الإلكترونية أنفسهم كجزء من حل مشكلة التدخين. يقول منتقدو قرار الوكالة ومؤيدو السجائر الإلكترونية إن المدخنين يفقدون البديل الأكثر شيوعاً للسجائر مع سحب "جول" من السوق. بينما يرى دعاة مكافحة التدخين الإلكتروني أن المدخنين لديهم كثير من الخيارات، بما فيها الإقلاع عن التدخين دون تدرج، وأن السجائر الإلكترونية تشكل خطراً إدمانياً بالغاً على الشباب.

حاربت الصناعة لعقود الجهود الفيدرالية لتنظيم التدخين والتبغ والنيكوتين عند كل منعطف. وجدت إدارة الغذاء والدواء، التي حصلت أخيراً على سلطة تنظيم منتجات التبغ في 2009، نفسها في ساحة سلسلة معارك ضارية يرجع تاريخها إلى حروب التبغ في التسعينات. حين واجهت الوكالة شركة تعاملت مع النيكوتين كما لو أنه من توابع الموضة واندفعت إلى السوق متبعة نهج وادي السيليكون التقليدي في التنافس الذي يقول: تحرك بسرعة ولو حطمت الأشياء، اتخذت أحد أكثر قراراتها تأثيراً حتى الآن.