"الخريف الحار" في أوروبا يسعد بوتين

الاحتجاجات الأوروبية تتوالى بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء

صورة بوتين على قميص في دريسدن
صورة بوتين على قميص في دريسدن المصدر: بلومبرغ
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد أن شنّ حرباً عدوانية وفشل في الفوز بها، ليس لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثير ليحتفل به هذه الأيام. لكن ما سيفرحه هو رؤية كثير من الأوروبيين الغربيين ينزلون إلى الشوارع هذا الخريف، إذ سيستخدم كل ما في جعبته في ترسانة المعلومات "المضللة" لحثّ المتظاهرين على تقسيم مجتمعاتهم، وبالتالي إضعاف الجبهة الدولية ضده.

في خريف هذا العام، من المرجح أن تشتعل الاضطرابات المدنية في 101 دولة (من بين 198 دولة تخضع للمراقبة)، وفقاً لمؤشر طوّرته شركة الأبحاث "فيريسك مابليكروفت" (Verisk Maplecroft). وتتراوح النقاط الساخنة من سريلانكا والجزائر إلى أوروبا الغنية نسبياً.

اقرأ أيضاً: أوروبا على حافة الاضطرابات بسبب أزمة الطاقة وارتباك الحكومات

الدافع الرئيسي بالطبع هو التضخم، خصوصاً ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة (الذي تسبّب بوتين في جزء كبير منه). لكن توجد عوامل أخرى تلعب دورها، إذ قدّم التشيك والألمان لمحات مبكرة عن نمط مقلق بشكل خاص.

طالع أيضاً: ألمانيا تتوقع مشكلات في إمدادات الفحم والنفط الشتاء المقبل

التضخم وأسعار الطاقة

في هذا السياق نزل عشرات الآلاف من الناس إلى شوارع براغ وطالبوا الاتحاد الأوروبي بإلغاء العقوبات المفروضة على روسيا، وإبرام صفقة غاز جديدة مع بوتين، والتوقف عن تسليح أوكرانيا، إذ ألقى كثيرون باللوم على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وليس بوتين، في كل ما هو خطأ في العالم. وحرص المتحدثون البارزون على تأجيج المشاعر من أقصى اليمين وأقصى اليسار.

في يوم الاثنين الماضي وصلت الاحتجاجات التشيكية شمالاً إلى المنطقة التي كانت في ما مضى ألمانيا الشرقية، إذ احتشد الآلاف في لايبزيغ وماغديبورغ.

مرةً أخرى، كانت الشواغل المزعومة لدى المتظاهرين هي التضخم، وأسعار الطاقة، والنخبة السياسية التي يُزعم أنها قاسية وغير كفؤة، إلا أنّ المتظاهرين بدوا على الأقل متحمسين للتعبير عن التعاطف مع بوتين، واللامبالاة تجاه أوكرانيا، والنقد اللاذع تجاه الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وكما هي الحال في براغ، جاءوا بشكل غير متناسب من أقصى اليمين الشعبوي ومن اليسار ما بعد الشيوعية.

اقرأ المزيد: أزمة الغاز تضرب أسهم شركات المرافق والصناعة الأوروبية

يُشار إلى أنّ الحزب الذي يُعبِّئ الألمان في أقصى اليمين هو "البديل من أجل ألمانيا" (Alternative for Germany)، في حين يمثّل حزب "اليسار" (The Left) أولئك الموجودين في الطرف الآخر، وهو الحزب الذي ينحدر من النظام الشيوعي الذي حكم ألمانيا الشرقية. وكلاهما غير ذي صلة إلى حد كبير في ألمانيا الغربية السابقة، لكنهما جزء من التيار السائد في المناطق الشرقية المنفردة. وفي مجلس ولاية تورينجيا سيحصل كل من حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب "اليسار" معاً (إذا تعاونا) على أغلبية المقاعد.

تناقض سياسي

بالنسبة إلى الخريف، يعِد كلا الحزبين بـ"الخريف الحار ضد الأقدام الباردة"، كما يقول أحد الشعارات، مع التخطيط للتجمعات كل يوم اثنين. وعلى الرغم من ذلك فإنهما يبذلان قصارى جهدهما من الناحية الرسمية لإبعاد بعضهما عن بعض، ففي الطيف السياسي التقليدي من المفترض أن يكونا متناقضين تماماً.

في الواقع، يوجد تداخل مريب في وجهات نظرهما إلى العالم، إذ يأتي أنصارهما من نفس الأوساط (الألمانية الشرقية بشكل أساسي) التي احتجت أيضاً ضد اللاجئين في 2015-2016 وضد قواعد كوفيد مؤخراً، إذ يبدو أنهما حريصان بشكل غير متناسب على إعادة تدوير نظريات المؤامرة.

في الحقيقة، ليس جديداً أنّ اليسار واليمين المتطرفَين يتشاركان كثيراً من الحمض النووي النفسي، إذ كان بينيتو موسوليني اشتراكياً قبل أن يدافع عن الفاشية. وعقلية كلا الجانبين استبدادية وشعبوية وجماعية على عكس النزعة الفردية، والفرق الرئيسي هو أهداف استيائهما (الأغنياء بالنسبة إلى اليسار، والغرباء القبليون بالنسبة إلى اليمين)، وكلاهما مؤيد لروسيا بشكل غريب.

هذه الميول تجعل أولئك الموجودين على الهامش السياسي في جميع أنحاء أوروبا جمهوراً مثالياً لـ"البلهاء المفيدين" -المصطلح يُنسب إلى لينين- لدعاية الكرملين في الغرب. وهذا ينطبق على الشعبويين من فرنسا إلى إيطاليا وخارجها، إلا أن بوتين -الذي كان عميلاً في ألمانيا الشرقية لصالح وكالة الأمن السوفييتية خلال الثمانينيات- يعرف البلهاء المفيدين في وسط أوروبا.

طالع المزيد: أوروبا تبحث إجراءات استثنائية لمجابهة "كارثة" الطاقة

في الأماكن التي احتجزها الكرملين في السابق رهينة خلف الستار الحديدي، فإنّ عودة حُبّ روسيا تثير السخرية بمرارة، كما لو أنها حالة من متلازمة ستوكهولم الجماعية. قد تكون المجر أسوأ مثال، إلا أنّ ألمانيا الشرقية تثير الصدمة أيضاً. كما لو أنهما يسلّطان الضوء على سخريتهما، اختار حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب "اليسار" يوم الاثنين للمشاركة في تجمعات الخريف هذه، في إشارة إلى "مظاهرات يوم الاثنين" من قِبل الألمان الشرقيين في عام 1989، التي أدت إلى سقوط جدار برلين.

هذا المزيج من السذاجة وسوء النية يصعب بشكل مفهوم تحمّله بالنسبة إلى الأوروبيين الآخرين الذين اعتادوا أن يكونوا وراء الستار الحديدي، وكانوا ضحايا للقيصر حتى قبل السوفييت. وإلى جانب الأوكرانيين، يشمل هؤلاء البولنديين، والليتوانيين، واللاتفيين، والإستونيين. وهم يعتبرون بوتين تهديداً وجودياً، وبالتالي فإنّ التذبذب الملحوظ لحلفائهم الغربيين، لا سيما ألمانيا، هو شكل من أشكال الخيانة، بالكاد يكون الأول في تاريخهم.

اقرأ أيضاً: أوروبا تواجه خطر انقطاع الكهرباء والركود في معركة استعراض روسيا لقوة الغاز

في المواجهة التي طال أمدها ضد بوتين والإمبريالية الجديدة الوحشية التي يمثلها، لا يمكن للغرب أن ينتصر إلا إذا ظل متحداً. وهذا هو السبب في أن بوتين سيبذل قصارى جهده لمواصلة نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة في الغرب، على أمل بناء "طابور خامس" يقاتل من أجله من وراء خطوط العدوّ. كما يجب على القادة الغربيين -وليس فقط أولئك الذين يشغلون مناصب سياسية- أن يفعلوا كل ما في وسعهم لدحض تلك الأكاذيب ومواجهتها بالحقيقة، وسيأتي أكبر اختبار حتى الآن خلال هذا الخريف الحار.