إصلاح أوجه قصور البنوك المركزية عملية معقدة

مبدأ الاستقلالية يمنح مسؤولي السياسات النقدية نفوذاً كبيراً.. وعند طرح أي فكرة للتغيير يجب معرفة من يقف وراءها.. ولماذا؟

مبني المقر الرئيسي لبنك إندونيسيا المركزي في جاكرتا في إندونيسيا
مبني المقر الرئيسي لبنك إندونيسيا المركزي في جاكرتا في إندونيسيا المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

هل استقلالية البنوك المركزية تقتصر فقط على الأوقات الجيدة؟ هذا هو السؤال المزعج الذي تدفع به الأسواق الناشئة البارزة إلى الواجهة. لا يأتي ذلك من أولئك المنادين بضرورة العودة إلى تطبيق قاعدة الذهب أو المطالبين بأن يخضع تحديد أسعار الفائدة بصورة كاملة للمسؤولين المنتخبين، بل إن المقترحات التي يمكن تصوّر أنها تحدّ من الاستقلالية، أو إضعافها تدريجياً، جاءت من دول يُنظر إليها على أنها صاعدة في الاقتصاد العالمي. لذا، يتعين على السياسيين والأكاديميين الراغبين في إصلاح أطر عمل الشؤون النقدية، أن يدرسوا خطواتهم جيداً.

إن لم تكن قرارات وخيارات أولئك الذين يسعون إلى الحد من نفوذ البنك المركزي صحيحة، فقد يُعاد رسم مسار الحياة الاقتصادية في بلدانهم، بل ربما يتجه ذاك المسار نحو الأسوأ. لقد تبيّن لدى جيل سابق من القادة -وإن كان ذلك تحت ضغوط من الأسواق وصندوق النقد الدولي- أن وجود هذا النوع من المؤسسات المستقلة مع هدف محدّد لمعدل التضخم، يعتبر أقل المسارات سوءاً. فهو، وإن كان لا يخلو من النقائص، إلا أنه أكثر جدوى من بعض البدائل الأخرى.

هذه هي الدائرة التي يجري فيها الصراع على توجه السياسات النقدية في البرازيل وجنوب أفريقيا. لقد تركت تجاذبات سابقة في إندونيسيا النظام الحالي قائماً كما هو، وسليماً إلى حد كبير. لكن، هل ستكون البلدان الأخرى محظوظة بالطريقة ذاتها؟ وهل ينحصر النقاش داخل الأسواق الناشئة؟

استقلالية البنك المركزي على المحك في 3 أسواق ناشئة

ثمة شك في أن الزمن قد تغيّر كثيراً، بما يبرّر فكرة التخلي عن جوهر النموذج الحالي الذي ترسّخ بعد جهد جهيد، وبالتالي، لا ينبغي أن يقف ذلك في طريق التفكير بالمقترحات المنطقية. لكن المشكلة هي أن ذلك غالباً ما يحدث، حيث يُهاجم المدافعون عن التغيير المنطقي والقائم على التطور، مثلهم مثل الأشخاص الشغوفين الساعين إلى إعادة إنتاج النظام بطريقة أكثر هدماً.

النمو والمحافظة على استقرار الأسعار

تبدو الأفكار المطروحة مؤخراً في جاكرتا، على غرار إضافة عنصر الوظائف إلى اختصاص بنك إندونيسيا المركزي، مواتية للغاية. وهذا هو الوضع في الولايات المتحدة، إذ يُناط ببنك الاحتياطي الفيدرالي تحقيق التوظيف الكامل والمحافظة على استقرار الأسعار. هل هذا بطريقة أو بأخرى يحظى برغبة أقل في الأسواق الناشئة؟ على الأرجح، لا. ففي جنوب أفريقيا، يريد الحزب الحاكم أن يؤدي البنك المركزي دوراً أكثر قوة لتدعيم الوظائف وتعزيز النمو الاقتصادي.

البنوك المركزية و"السقوط الحر"... هل يمكن لسلطات النقد أن تقوم بأعمال إضافية؟

كذلك، سعى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي تولى زمام الحكم منذ نهاية نظام الفصل العنصري، إلى تأميم بنك الاحتياطي الجنوب أفريقي، وهذا أمر منطقي تماماً في ظل العواقب الوخيمة لقرارات البنك المركزي التي تتخذ باسم الشعب. لم يكن بنك إنجلترا مملوكاً للدولة قبل عام 1946، بينما لا يزال البنك الوطني السويسري مملوكاً جزئياً لمستثمرين من القطاع الخاص.

التأثر بالطبقة السياسية

حتى مكافحي التضخم الأكثر تأهيلاً لهذا الدور، يعوّلون في نهاية الأمر على الطبقة السياسية في نفوذهم. ورغم صيحات الاستهجان التي تقابل أي مقترح للتغيير يقدّمه أحدهم، حتى ولو كان تغييراً طفيفاً، إلا أنه ما من شيء لا يمكن المساس به عندما يتعلق الأمر بالاستقلالية. دائماً ما يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي يعتبر على مستوى العالم نموذجاً للاستقلالية، متأثراً للغاية بالأجواء في الكابيتول هيل (مقر الكونغرس الأميركي). لن تجد ذلك مسجلاً في دستور الولايات المتحدة، مع أن الكونغرس هو الذي أسس هذا النظام عام 1913. يمكن للجهة التشريعية أن تحلّ البنك المركزي الأميركي متى ما أرادت ذلك. (عُدلت القوانين التي تحكم عمل بنك الاحتياطي الفيدرالي مرات عديدة، بعضها كان عبارة عن تعديلات بسيطة، والبعض الآخر كان شديد الأهمية على غرار تعديلات فترة الثلاثينيات من القرن الماضي التي أسفرت عن إنشاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة المسؤولة عن تحديد أسعار الفائدة).

سيناريو البرازيل

أكثر الأحداث المعاصرة إثارة للقلق، هي تلك التي شهدتها البرازيل. يعدّ الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من أشد منتقدي أسعار الفائدة المرتفعة. يريد لولا دا سيلفا تقليص هدف التضخم في البلاد، البالغ 3.25% للعام الجاري، و3% للعامين المقبلين. في الأغلب، يُصوّر هذا الأمر على أنه اعتداء على استقلالية البنك المركزي، وهي التهمة التي ينفيها فريق لولا دا سيلفا. قال وزير العلاقات بين مؤسسات، الحكم ألكسندر باديلها، الأسبوع الماضي: "لا يريد لولا دا سيلفا إسقاط أي أحد، إنه يريد تقليص أسعار الفائدة". هذا أمر جيد، ويمكن أن يكون أفضل، إذ أنه من النادر أن ينفرد المشرعون البرازيليون بتفضيل الائتمان الأكثر تيسيراً بدلاً من الأكثر تشديداً. وتتشكل اللجنة المسؤولة عن وضع هدف التضخم كل سنة من عدد من الوزراء ورئيس البنك المركزي. ومن ثم، فإن وجود تأثير للطبقة السياسية لا يُعتبر خطيئة. ومع بلوغ معدل الفائدة القياسي 13.75%، سيكون مستغرباً أن لا يشعرون بالقلق. حتى بعض صناديق التحوّط البرازيلية الكبرى، تُجمع على أن هدف التضخم يصعب بلوغه للغاية.

ما أسباب خلاف لولا دا سيلفا مع "المركزي" البرازيلي؟

تعديل أهداف التضخم

ليس هناك أمر مهين في حد ذاته في ما يتعلق بتعديل الأهداف. تجري التعديلات، حتى ولو كانت نادرة الحدوث، في كل مكان. فقد عدّلت نيوزيلندا واليابان الأهداف المنشودة على مدى العقود القليلة المنصرمة. حتى إن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، من خلال الممارسة الفعلية، زاد هدفه في 2020 عندما بدأ يستهدف معدل تضخم متوسطه 2% مع مرور الوقت.عدّل أيضاً بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من وجهة نظره إزاء التوظيف الكامل، ليسمح لمكاسب سوق العمل الأميركية بأن تصل إلى أكبر عدد من الموظفين. (لم يدخل اختصاص الوظائف في التشريع الذي اعتمده البرلمان الإندونيسي في ديسمبر الماضي، رغم أن البنود التي تجعل القدرة على تمويل الميزانية في أوقات الأزمات مستقرة، جعلتها ضمن الاختصاص).

يصبح إجراء تعديلات محدودة مشكلة عند السعي إلى تعديل الهدف في وقت يتجاوز فيه التضخم هذا التعديل بشكل صارخ. لكي تتخلى عن الهدف لشيء أقل عناء، يبدو وكأنك تستسلم للأمر الواقع، أو الأسوأ من ذلك، تبدو وكأنك أيقنت أنه أمر صعب تماماً من الناحية السياسية. هناك أيضاً إشكالية الدوافع، إذ أن البرازيل تمتلك تاريخاً من السياسة الاستبدادية. وفي هذا السياق، أفادت التقاير بأن سلف لولا دا سيلفا القوي، جايير بولسونارو، شعر بالندم على توقيعه قانوناً يكفل استقلالية البنك المركزي. مراكز القوة المتنافسة مثيرة للاضطرابات، وأكثر من ذلك في دولة لا تتمتع بالتزامات كاملة تجاه الديمقراطية ومعايير الحكم المؤسسية.

رئيس البرازيل: نادم على منح الاستقلالية للبنك المركزي

أخطاء البنوك المركزية

بات جلياً أن هناك أهمية مرتبطة بمن يتكلّم، وسجل إنجازاته، وما يطمح إلى تحقيقه. لا تعدّ البنوك المركزية معصومة من الزلل، حيث استخدم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول، كلمة "مؤقت" لوصف ارتفاع معدل التضخم في 2021، وأخطأ بنك اليابان المركزي عندما تحرّك بعيداً عن أسعار الفائدة الصفرية سنة 2000، في الوقت الذي كان فيه العالم يستعد للتباطؤ. كذلك، زاد البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة في منتصف 2008 قبل فترة وجيزة من انهيار مصرف "ليمان براذرز هودلينغز". لا ينبغي أن يكون إجراء تعديلات للقوانين أو مقاييس التشغيل جريمة عقوبتها الإعدام، ما دام أن أعضاء لجان السياسة النقدية ليسوا هم من يُشنقوا.

عبّر بول تاكر، النائب السابق لمحافظ بنك إنجلترا المركزي، عن قلقه في كتابه الصادر عام 2018 والذي تناول تحوّل البنوك المركزية إلى "مواطنين ذوي قوة مفرطة". اجتمعت لدى البنوك المركزية قوة هائلة، ويمكنها العمل بهمة واستغلال موارد ضخمة. لا يثير الاستغراب أنه في أوقات وقوع الأزمات، تلجأ الأنظمة السياسية إلى محافظي البنوك المركزية، بسلطاتهم التي تبدو من الخوارق. يمكن استرجاع الضجة المصاحبة لتولي ماريو دراغي منصب رئيس وزراء إيطاليا عقب 8 أعوام من ترؤسه للبنك المركزي الأوروبي. عندما اهتزت اليونان بشدة خلال 2011 جراء ديون شلّت قدرتها على التصرف، اتجهت البلاد إلى لوكاس باباديموس الذي كان نائباً سابقاً لرئيس البنك المركزي الأوروبي. ولم تنته أي من المهمتين بتمجيدهما.

رغم كل إنجازاتهم، ربما يكون من الأفضل لمحافظي البنوك المركزية البقاء في نطاق عملهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السياسيين الذين يسعون إلى توجيههم لهذا المسار. هل من نصيحة هنا؟ بكل تأكيد. لكن هذه علاقة تتأسس على تبعية مزعجة أحياناً. تعوّل الجهات المنتخبة على صنّاع السياسة النقدية للمحافظة على الاقتصاد في مساره الصحيح وتبنّي قرارات صعبة. يشاركهم المشرّعون في فضل تحقيق النجاح، أو يلقون باللائمة عليهم عند حدوث إخفاق. أما البنوك المركزية، فهي تعول من جهتها على السياسيين في امتلاك السلطة التي تمارس نفوذها من خلالها.

اضطرابات كثيرة يتّسم بها هذا التنظيم، وقد تتحول الأمور إلى حالة من الفوضى. لذا، احذروا من البوادر الأولية لهذه الفوضى.