تداعيات حقبة كورودا المضطربة تمتد إلى خارج اليابان

"الاحتياطي الفيدرالي" و"المركزي الأوروبي" تبنيا نسخة مختلفة من مفهوم سقف عوائد السندات طويلة الأجل

هاروهيكو كورودا، محافظ "بنك اليابان" متحدثاً في اجتماع مع المستثمرين في 26 سبتمبر 2022، أوساكا، اليابان.
هاروهيكو كورودا، محافظ "بنك اليابان" متحدثاً في اجتماع مع المستثمرين في 26 سبتمبر 2022، أوساكا، اليابان. المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أجرى هاروهيكو كورودا تغييرات جوهرية في اليابان خلال عقد من رئاسته للبنك المركزي، لذلك سيواجه خليفته صعوبة في محو إرثه، إذا رغب في ذلك أساساً. كان كورودا صاحب رؤية ثورية في قضية إنعاش اقتصاد أُشيد به لامتلاكه خلطة سرية مكنته من تحدي تفوق الولايات المتحدة الأميركية المالي، ولو كان لفترة وجيزة. بعض ابتكارات كورودا ستتسبب في مشكلات في المستقبل، والأرجح أنها لن تكون في اليابان وحدها.

حتى نعطي آثار عهد كورودا حق قدرها، علينا أن نعود بالزمن إلى أواخر 2012 ومطلع 2013. أعاد شينزو آبي لتوه الحزب الذي حكم البلاد فترة طويلة إلى الحكومة بعد ثلاثة أعوام من الابتعاد عن السلطة، وسعى لتغيير كبير في السياسة النقدية والمالية والتنظيمية، وحيث كان تغيير السياسة النقدية أمراً حيوياً للتصدي للانكماش، وجد آبي ضالته في كورودا. أخطأت التوقعات بأن ذلك الودود البيروقراطي طيلة حياته سيقود تطوراً تدريجياً في السياسات، وعن نفسي تشككت في أن تحفل فترة رئاسته بالأحداث.

دنت نهاية مدتي رئاسة كورودا التي امتدت كل منها لخمس سنوات، وحُدد يوم الجمعة موعداً لمؤتمر الوداع الصحفي. تضاءلت المخاوف حول هبوط الأسعار بشكل كبير، وعاد التضخم بعد غياب طويل ليصبح موضوعاً ساخناً. لم يكن كورودا مسؤولاً عن كل هذا التغير الكامل المفاجئ، إذ نال مساعدة كبرى من قوى أكبر من اليابان، لكنه لم يكف عن تجربة طرق جديدة لرفع معدل التضخم إلى 2% بل وأعلى من ذلك، وهو الهدف الذي أرغم آبي "بنك اليابان" (Bank of Japan) على قبوله.

تدريب على التسهيل

إذا نظرنا إلى الأمر من بعيد، فإن حقبة كورودا لم تكن إلا تدريباً كبيراً على التيسير النقدي عقب أعوام من التحفيز المعتدل وإن كان متواصلاً. كانت اليابان من أوائل الدول التي خطت نحو أسعار الفائدة الصفرية وشراء السندات قبل كورودا بمدة طويلة، لكنه أعطى دفعة قوية لذلك النهج ليرفع ميزانية "بنك اليابان" بشكل كبير في أول فرصة له قبل أن يضيف زياداته الخاصة.

الآفاق القاتمة للاقتصاد الياباني تنعكس سلباً على انتعاش الين

في 2016، كانت أسعار الفائدة سالبة عند البنك المركزي، وبعدها بشهور أطلق التحكم في منحنى عائدات السندات الذي استهدف تقييد تكاليف الاقتراض طويلة الأجل في السوق. كان الخفض الكبير لسعر الفائدة الأساسي خطوة جريئة، إذ جاءت نتيجة تصويت لجنة السياسات بالبنك 5-4، كان يكفي تغيير صوت واحد للقضاء على الفكرة، وزعزعة سلطة كورودا بشكل قد لا يمكن علاجه. تلك كانت أشد خطواته إثارة للجدل ما أدى لاحتجاج كبير من المصارف وتقلبات حادة في الأسواق العالمية.

وبقدر جسامة تلك الخطوات، لم يتوقف "بنك اليابان"، فعند كشفه عن التحكم في منحنى عائدات السندات، أعلن المسؤولون أنهم لن يرتضوا بوصول معدل التضخم إلى 2% فحسب. سيستمر التيسير حتى تتجاوز زيادات الأسعار المستوى المستهدف وتظل مرتفعة "بشكل مستقر"، أي بصيغة أخرى، حدد أهدافاً أعلى فربما ينتهي بك المطاف قرب الهدف المنشود.

نية واضحة للارتفاع المفرط

بينما استخدم "الاحتياطي الفيدرالي" و"المركزي الأوروبي" وغيرهما أسلوب التوجيه المسبق للإعلان عن استمرار تخفيض أسعار الفائدة لفترة، كان الالتزام بنية واضحة لتجاوز المستهدف، أي الالتزام بأسعار للفائدة بالغة الانخفاض حتى إذا ارتفع معدل التضخم عن المستهدف، أمراً نادراً. كان هذا التطرف وليد الظروف، مثل التحكم في منحنى العائدات. لم تظهر أي إشارة على أن أسعار الفائدة السالبة التي تسببت في صدمة في يناير في ذلك العام بعثت على الثقة، بل أدت إلى العكس، وأصبح المزيد من المفاجآت ضرورياً.

التضخم في طوكيو يتباطأ قبل تغير محافظ بنك اليابان

لم يلق فرض سقف لعائدات السندات طويلة الأجل رواجاً على الصعيد العالمي، طبقت أستراليا برنامجاً مشابهاً خلال الجائحة ووجدت نهايته فوضوية. لاقى تجاوز مستوى التضخم المستهدف انتشاراً واسعاً وتبنت بعض البنوك المركزية، ومنها "الاحتياطي الفيدرالي" و"المركزي الأوروبي"، نسختها من المفهوم لاحقاً. مع ذلك، كان هذا الوعد حلماً لمؤيدي التيسير النقدي حينها. في ذلك الوقت، أدى انخفاض معدل التضخم عن المستهدف إلى حجب أهمية تجاوزه المستوى المستهدف، لدرجة اعتباره أمراً نظرياً إلى حد كبير.

من السهل أن ترى في فكرة تجاوز المستهدف جذور الارتفاع المفاجئ بمعدل التضخم في العام الماضي، لكن علينا تذكر ضغوط الزمن. ماذا كانت شواغل كورودا في البداية التي أصبحت لاحقاً اهتمامات جيروم باول وكريستين لاغارد رئيسة "المركزي الأوروبي"؟ منذ ظهرت سياسة التيسير الكمي واستمر التحكم النسبي في الأسعار، حذّر الناس من التضخم الجامح وانخفاض قيمة العملات. أتذكُر وصف جانيت يلين –الرئيسة السابقة "للفيدرالي" قبل باول- في 2017 هدوء معدل التضخم بأنه "لغز"؟ حذّر كورودا من انتشار الأفكار الانكماشية بين الشركات والمستهلكين.

المحافظ الجديد

سيحتاج محافظ "بنك اليابان" الجديد، كازو أويدا، إلى التصرف بحذر. لم يبدُ أويدا في جلسات التصديق كشخص يتعجل التراجع عن أعمال سلفه، بل الأرجح أن مفاجآته ستكون أقل من كورودا، رغم استبعاد وجود اختلاف ملحوظ من حيث الجوهر. لا يعتقد "بنك اليابان" أن معدلات التضخم الحالية، وهي الأعلى منذ عقود، ستستمر.

بنك اليابان يتحلى بالحذر حيال تغيير سياسته قبل تولي المحافظ الجديد

مع اقتراب نهاية العام الماضي، راهن المتعاملون على انضمام اليابان إلى ركب زيادة الفائدة، لكن هذا لم يتحقق، ومع ذلك، سمح البنك بزيادة طفيفة في أسعار فائدة السندات طويلة الأجل في ديسمبر.

إضافة إلى ذلك، مع دنو نهاية حملات البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة أو اقترابها من توقف مؤقت، قد يخطو العالم حثيثاً تجاه موقف اليابان، وتلقى التدخلات المحدودة رواجاً مرة أخرى.

تراكم الديون الحكومية المستديم يتناسب مع سياسة التيسير الكمي، نظراً لاحتياجات الدولة الهائلة إلى التمويل، فاليابان صاحبة أكبر مديونية في العالم المتقدم. وتتعايش الموازنة مع تكاليف التأمين الاجتماعي للسكان المسنين وتخطط لزيادة كبيرة في الإنفاق العسكري. بينما يوضح "بنك اليابان" أن الغرض من شراء السندات نقدي وليس مالياً، إلا أن عمليات الشراء مفيدة.

سعر صرف الين

هل فضّل كورودا ضعف الين؟ أوضح آبي تفضيله لسعر صرف منخفض، وتظاهر كورودا بموقف التشكك واللاأدرية تجاه تقلب أسعار الصرف، مشيراً إلى الترتيبات المؤسسية التي جعلت شراء العملات وبيعها مسألة تخص وزارة المالية.

الين الياباني يعود من جديد عملة مفضلة لمتداولي "وول ستريت"

كان هم كورودا المُعلن هو معدل التضخم المستهدف، وهل هناك ما يساعد على تحقيقه أو يعيقه. مع ذلك، غالباً ما أبدى محافظ "بنك اليابان" انطباعاً واضحاً برضاه عن انخفاض سعر صرف الين إلى حد ما. حدث انخفاض ملحوظ في قيمة العملة خلال حقبته، لتتراجع من 100 ين مقابل الدولار حين تولى كورودا المنصب إلى نحو 132 يناً مقابل الدولار يوم الأربعاء.

حارب "بنك اليابان" تحت قيادة كورودا على عدة جبهات، وفي بعض الأوقات كان هذا أمراً مرهقاً. لكن وراء كل ذلك كانت هناك مهمة لإخراج اليابان من الذعر المُعلن. قد لا تستعيد اليابان مجدداً البريق الذي تميزت به في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات حين ازدحمت متاجر الكتب في المطارات بكتب عن التجربة اليابانية. لا يمكننا القول إن كورودا لم يحاول، فالعبرة بالمجهود.

علينا الآن التعامل مع أويدا، لكن وفق أفكار كورودا.