متى أصبحت "المخاطر" كلمة سيئة في الولايات المتحدة؟

منح الأولوية لسياسات حذرة على حساب تحقيق النمو.. يهدّد مكانة الاقتصاد الأميركي عالمياً

وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين. تدرك الرئيسة السابقة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، أن نمو الاقتصاد مرتبط بتحمل المخاطر.
وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين. تدرك الرئيسة السابقة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، أن نمو الاقتصاد مرتبط بتحمل المخاطر. المصدر: أ.ف.ب/ غيتي إيمجز
Allison Schrager
Allison Schrager

Allison Schrager is a Bloomberg Opinion columnist. She is a senior fellow at the Manhattan Institute and author of "An Economist Walks Into a Brothel: And Other Unexpected Places to Understand Risk."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إن لم تعد الولايات المتحدة قائدةً للاقتصاد العالمي، فلا يمكنها إلا أن تلوم نفسها.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، حذّرت مؤسسات دولية وخبراء اقتصاد بارزون، من أن الاقتصاد العالمي، وخصوصاً اقتصاد الولايات المتحدة، يواجه احتمال تراجع معدل النمو، وذلك ليس فقط مجرد ركود، بل نمو منخفض على مدى عقد من الزمن أو أكثر. ومع أن هذا التراجع عائد في جزء منه إلى شيخوخة السكان، إلا أنه سيكون أيضاً بسبب اختيارنا لسياسات مالية معرقلة للنمو. ربما يعتقد البعض أن من شأن ذلك أن يحفّز على دق نواقيس الخطر وأن يصبح النمو هو الأولوية، لكن عوضاً عن ذلك، قوبل الأمر بتجاهل جماعي، أو حتى بالإصرار على مواصلة تبني سياسات اقتصادية تقود إلى نمو منخفض.

عادة ما يكون شرح سبب أهمية النمو الاقتصادي فكرة مبتذلة وغير ضرورية، على غرار شرح فوائد الحياة لمدة أطول، أو لماذا التصرف بلطف مع الناس يُعتبر أمراً مهماً. لكن حالياً، يحتاج النمو الاقتصادي إلى الدفاع عنه.

النمو أفضل حل لقضايا المناخ

حتى لو لم تتقاسمه الدول بالتساوي، يبقى النمو هو سبب عيشنا جميعاً حياة أفضل، أو أطول، أو براحة أكبر مقارنة بما كان عليه حالنا قبل 60 أو 40 أو حتى 25 سنة. كما أن حياة الأشخاص تصبح أكثر سعادة مع تزايد الرخاء، في حين أن الركود الاقتصادي، وليس عدم المساواة، يولّد السخط والحركات الشعبوية. أيضاً، فإن النمو الاقتصادي هو أفضل حل لدينا لقضايا التغير المناخي، إذ إن النمو المدفوع بالإنتاجية، هو طريقنا لاستخدام موارد أقل للحصول على ناتج أعلى.

ربما يستهوينا القول إننا أثرياء بدرجة كافية، فلماذا إذن نحتاج إلى المزيد؟ ربما طرح شخص ما هذا السؤال خلال القرن التاسع عشر، ظناً منه أن الأمور أفضل بكثير فعلاً مقارنة بما كانت عليه في القرن الثامن عشر. لكن، ماذا لو افترضنا أن شخصاً ما امتلك القدرة خلال القرن التاسع عشر على وقف النمو الاقتصادي؟ لكان ذلك قد عرّض الأجيال التالية كافة لعملية خداع، وللحرمان مما كان سيُنظر إليه في ذلك القرن على أنه رفاه ما بعده رفاه، مثل التمتع برؤية الأطفال يكبرون لسن الشباب.

طريق "الهبوط السلس" للاقتصاد الأميركي يمر عبر أرباح الشركات

رغم ذلك، هناك حركة متنامية تعمل على تشويه فكرة النمو الاقتصادي. يصوّر المشككون النمو الاقتصادي على أنه مناهض لحماية المناخ، أو إنهم ببساطة، معادون للرأسمالية. حتى إن صُناع السياسات الاقتصادية المعتدلين من كلا الجانبين، يهتمون بشكل متزايد بسلامة الاقتصاد على حساب النمو. يشبه النمو الاقتصادي إلى حد كبير، ارتفاع أسعار الأصول في الأسواق المالية، إذ يأتي كنتيجة للمقايضة بين العوائد والمخاطر. في هذا السياق، تقول المؤرخة الاقتصادية، ديدري مكلوسكي، إن الثقافة التي شجعت على المخاطر المبتكرة، حتى بين الناس من غير الأغنياء، تُعد السبب وراء كون المملكة المتحدة أول من تحوّل إلى التصنيع، ثم باتت القوة الاقتصادية التي وصلت إليها.

الأمان والاستقرار ضد تحمل المخاطر والنمو

لطالما اختارت الولايات المتحدة الأميركية تحقيق نمو أكثر على حساب سلامة الاقتصاد مقارنة بأوروبا. فهي توفر رفاهاً أقل للطبقة الوسطى، واقتصاداً منفتحاً نوعاً ما، وقدراً أقل من الحماية للوظائف، وبيروقراطية أقل، وقواعد إفلاس أكثر تساهلاً. وقد كوفئت الولايات المتحدة على كل ذلك، وباتت الاقتصاد الأكثر ثراء وقدرة على الابتكار.

مع ذلك، عندما تكون الدول أكثر ثراء، تَظهر حجة مقنعة بأنها قادرة على تحمّل مخاطر أقل، وقطعاً، هناك فوائد من تعزيز الاستقرار. لكن صُناع السياسات الاقتصادية في الوقت الراهن، ينزعون للغاية نحو مسألة السلامة، متغافلين عن أهمية ما نتنازل عنه.

يتزايد النمو عندما تضيف أشخاصاً أو رأس مال أو إنتاجية إلى الاقتصاد. وبالتالي، ينجم عن تقلص عدد سكان الولايات المتحدة وشيخوختهم، عمالة أقل وإنتاج أضعف. إلا أن ذلك يمكن تعويضه جزئياً، من خلال زيادة الإنتاجية.

6 مؤشرات توضح مدى تأثير الاضطرابات المالية على الاقتصاد الأميركي

لكن، وعوضاً عن ذلك، تثبط السياسات الاقتصادية الأميركية الأخيرة الإنتاجية، في محاولة غير موفقة للحد من المخاطر، علماً أن إيجاد أي ابتكار حديث وإدخاله في السوق، يظل دائماً مسألة محفوفة بالمخاطر. فالتكنولوجيا الجديدة تولّد قدراً كبيراً من عدم اليقين، ما يعني ضخ بعض رأس المال في الأماكن الخطأ، على غرار قطاع العملات المشفرة أو مجال رعاية الحيوانات الأليفة، بدلاً من شركات على غرار "غوغل" أو "أمازون.كوم". وفي خضم هذه العملية، يخسر الأفراد وظائفهم وأموالهم.

من هنا، يبزر دور الحكومة في جعل هذه العملية أقل صعوبة على الفئات الأكثر هشاشة. غير أن صُناع السياسات الاقتصادية، باتوا أقل تحملاً حتى للمخاطر المنطقية. لم تعد السياسة النقدية ترمي إلى تهدئة دورة الأعمال فحسب، بل إنها تحاول تفادي الوقوع في الركود نهائياً، حيث تُبقي على الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة لفترة طويلة للغاية، وتنخرط في برامج التيسير الكمي لعدد من السنوات أكبر من تلك التي تتخلى فيها عنها. وفي نهاية المطاف، سيثبط التدخل المفرط في الأسواق النمو والمخاطرة التي تسفر عن إنتاجية، لأن أسعار الأصول (باعتبارها مقياس مخاطر) ستفقد مغزاها، وغالباً ما سيُوجّه رأس المال نحو المجالات الخطأ، ويدعم شركات "الزومبي" (أي تلك التي تحتاج إلى حزم إنقاذ لاستمرارها في العمل، أو إلى الاستدانة بكثرة من دون أن تكون قادرة على سداد الفائدة على الدين).

كيف تضعف اللوائح المفرطة الإنتاجية؟

على الصعيد الحكومي، خرجت اللوائح التنظيمية الإضافية -بصرف النظر عن كونها حسنة النية- عن السيطرة. نحن نفرط في فرض إجراءات الحيطة والحذر تجاه كل شيء، بدءاً من مواقع البناء، ووصولاً إلى الأسواق المالية. عندما تكون هناك مبالغة في الجهود التنظيمية، يصبح رأس المال أقل كفاءة، ويعيق التنمية، ويزيد تكلفة ممارسة الأنشطة التجارية.

بإمكاننا توقع تطبيق سياسات اقتصادية، مناهضة أكثر للنمو في المستقبل القريب. فضرائب الأرباح الرأسمالية العالية التي يفضلها بايدن -حتى على المكاسب غير المحققة– تقمع النمو، لأنها تقلل ثمار تحمل المخاطر؛ كما أن عمليات إعادة توطين سلاسل التوريد وفرض تعريفات جمركية أعلى، والإعانات التي يفضلها كلا الحزبين (الجمهوري والديمقراطي)، لا تحرم الدول الفقيرة من النمو فحسب، بل تصبح معها الدول الأكثر ثراء أقل كفاءة، بل ومجبرة على دفع أكثر مقابل البضائع والخدمات.

اقرأ أيضاً: هل يواجه الاقتصاد الأميركي ركوداً يتناوب قطاعاته؟

حالياً، أصبحت لدينا سياسة صناعية تحاول تحقيق نمو بلا مخاطر، واختيار أفضل استخدام لرأس المال عوضاً عن ترك الأمر للسوق. لكن في أحيان كثيرة، تتبنى الحكومة خيارات أسوأ، لأنه يعوزها الالتزام الذي يصاحب تحمّل تكاليف خسارة الأموال.

النمو المنخفض ليس نتيجة حتمية

يمكن أن يكون الاستثمار الحكومي مفيداً للمشروعات طويلة الأمد وكثيفة رأس المال، على غرار بناء الطرق السريعة أو مدّ القنوات المائية، لكن حتى البرامج ذات النوايا الحسنة تنزع لأن تكون زاخرة بالأولويات السياسية ذات الأهداف التنافسية، واللوائح المفرطة التي تجعلها مكلفة دون مبرر. يؤدي ذلك إلى توجيه رأس المال والمواهب، المحدودين أصلاً، نحو أماكن أقل إنتاجية، وأقل ابتكاراً.

يمكنك أن تقرأ أيضاً: تباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي إلى 1.1% مع خفوت استثمار الشركات

لا يحرم النمو المنخفض الأجيال القادمة من الازدهار فحسب، بل سنكون بحاجة إلى الدفع أكثر مقابل الأشياء التي نستهلكها بالفعل، وسيقلص النمو الضعيف الإيرادات الضريبية، مع تخصيص حصة أكبر لسداد الديون عوضاً عن توفير مزايا وخدمات، وبالتالي، فإننا نجازف بالدخول في حلقة مفرغة من الضرائب العالية وقلة الاستثمارات، والمزيد من الضعف في النمو.

بدلاً من السعي إلى تحقيق المستحيل -أي النمو بلا مخاطر– ينبغي على الحكومة الأميركية والاحتياطي الفيدرالي، القبول بأن المخاطر هي ثمن النمو. فالاقتصاد المحفوف بالمخاطر هو ما منح أميركا قوتها الاقتصادية. والنمو المنخفض، ليس مستقبلاً لا مناص منه، إذ لا يزال بالإمكان تعديل المسار، والسماح للأسواق بالقيام بعملها.