بلومبرغ
يلج في كل صباح 600 عامل لحوض بناء السفن في ولاية لويزيانا، إذ يتم تشييد "إيكو إديسون" (Eco Edison)، أول سفينة أميركية الصنع لتقديم خدمات مزارع الرياح البحرية. في نهاية مناوبة العمل، يتحرك موكب سيارات تعلوها الأتربة في ازدحام مروري على طريق العودة للمدينة، مروراً بالمباني التي تخدم قطاع النفط والغاز المهيمن منذ حقبة طويلة.
تمثل هذه حصة واحدة فقط من تحول الطاقة لإعادة تشكيل منطقة خليج المكسيك، التي تنتشر فيها بطريقة هائلة مشروعات طاقة الرياح البحرية. في فبراير الماضي، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن أول عملية بيع لعقود إيجار مزارع رياح بحرية في منطقة خليج المكسيك، قبالة سواحل ولايتي تكساس ولويزيانا. تستثمر شركة "دومينيون إنرجي" 500 مليون دولار في "كاريبديس" وهي أول سفينة تركيب أميركية الصنع يبلغ ارتفاعها 472 قدماً، في براونزفيل بولاية تكساس. كما يعمل مئات الأشخاص بالمحطة الفرعية الأولى التي شيّدتها الولايات المتحدة الأميركية قرب مدينة كوربوس كريستي. تنتشر في لويزيانا، حيث يرتدي فريق الولاية بالدوري الوطني لكرة القدم الأميركية زياً باللون الأسود يجسد لون النفط، شركات ووظائف حديثة لتدعيم القطاع الناشئ الذي تصل قيمته إلى 100 مليار دولار.
ازدهار طاقة الرياح
يبين عدد المشروعات الجارية أنَّ خبرة الأعمال البحرية بمنطقة الخليج، والمكتسبة عبر عقود من العمليات التشغيلية للنفط والغاز، تنتقل بطريقة كبيرة لدعم مزارع الرياح تحت الإنشاء في الوقت الراهن. من بين 1200 عقد تقريباً وقَّعتها الشركات الأميركية للاحتياجات الخارجية على غرار أعمال المساحة والمحطات الفرعية والكابلات الكهربائية؛ شهدت شركات الخليج والجنوب 23% من إجمالي البلاد، بحسب إحصاء رصدته مجموعة الأعمال بالقطاع "بيزنس نتورك فور أوفشور ويند" (Business Network for Offshore Wind). توجد لافتة قريبة من حوض شركة "إيدسون تشوسيت أوفشور" (Edison Chouest Offshore) لبناء السفن، حيث هناك قارب رياح كبير آخر بجوار "إيكو إيدسون" تحت الإنشاء أيضاً، علماً أنَّه قد دوّن عليه عبارة: "نتلقى طلبات التوظيف لجميع المهن اليدوية!".
يحدو غاري تشويست، الرئيس التنفيذي للشركة التي بدأها والده صياد الجمبري في عام 1960، الأمل في أن يواصل قطاع طاقة الرياح النمو. ويقول: "إنَّه يحافظ على فرص العمل للسكان المنحدرين من أصول فرنسية يطلق عليهم (كاجون)".
زيادة الطلب تدفع لإنتاج توربينات رياح عملاقة أكبر حجماً
من جهته، يقول ويت كارتر، مدير مشروع "إيكو إيدسون"، إنَّه لا يوجد سبب يذكر للاستمرار في بناء سفن النفط والغاز بالوقت الحاضر، إذ إنَّ العديد منها عاطل فعلياً عن العمل جراء تراجع النفط والغاز بداية من 2014، عندما سجلت الأسعار لأحد أكبر معدلات الهبوط منذ الحرب العالمية الثانية.
لا يصعب إقناع كارتر، الذي ساهم ببناء عدد 30 من قوارب النفط والغاز تقريباً عبر مسيرته المهنية، بالعمل في قطاع الرياح.
ويقول: "ما يهمني أن يكون هناك عمل"، في حين كان واقفاً قرب "سي-فايتر" (C-Fighter) و"سي-بايونير" (C-Pioneer)، وهما زورقان ضخمان كانا يستخدمان في دعم عمليات الحفر، ولكن يجري تجديدهما للمشاركة بعمليات تأسيس مزارع الرياح.
"شريان حياة للاقتصاد"
على بعد 45 ميلاً من الساحل من "إديسون تشويست"، تبني شركة البحوث والتصميم "غلف ويند تكنولوجي" (Gulf Wind Technology) بحوض بناء السفن في نيو أورلينز نفق رياح ضمن مساعيها لتصنيع توربينات رياح "مضادة للأعاصير". استثمرت شركة الطاقة العملاقة "شل" 10 ملايين دولار أميركي في "غلف ويند" خلال مارس الماض لدعم بحوث تطوير توربينات توليد الكهرباء بطريقة مربحة يمكنها التعايش مع العواصف العاتية.
وأوضح الرئيس التنفيذي لـ"غلف ويند"، جيمس مارتن، أنَّ البنية التحتية الهائلة بالمنطقة والقوى العاملة ذات الخبرة مثالية لأعمال طاقة الرياح البحرية. يتضمن مقر شركته منشأة بحوث على مساحة 30 ألف قدم مربع مع إمكانية استخدام مساحة تصنيع تعادل تقريباً 20 ملعب كرة قدم. أضاف مارتن أثناء عمليات رش المقاولين لمواد العزل داخل مبنى قريب يحتوي على شفرة توربينية طولها 165 قدماً (50 متراً): "تحتاج لهذه المساحات الشاسعة لجعلها تعمل بسهولة وخفة، ويحظى قطاع النفط والغاز بالنطاق الذي تتطلبه طاقة الرياح البحرية".
أحدث انهيار أسعار النفط خلال 2015، ثم تفشي وباء كوفيد19، فوضى في وظائف أعمال استخراج النفط والغاز في ولاية لويزيانا. كان هناك 25 ألف عامل تقريباً بالولاية بمجال النفط والغاز خلال 2021، أي نصف أعداد 2015، بحسب تقرير صادر عن جامعة "لويزيانا". أسفر تسريح القوى العاملة عن تراجع نشاط الشركات المحلية، وهبط معدل التسجيل بالتعليم. علاوة على أضرار الأعاصير وصعود أسعار الفائدة على التغطية التأمينية؛ أسفر تراجع النشاط الاقتصادي عن هبوط كبير في عدد سكان بعض المدن الساحلية، بحسب شركة "غريتر نيو أورلينز" (Greater New Orleans)، وهي وكالة للتنمية الاقتصادية في جنوب شرق لويزيانا.
"مبادلة" تستثمر في أكبر شركة خاصة لتطوير طاقة الرياح البحرية في العالم
يمكن لمزرعة رياح بحرية واحدة شُيّدت في الخليج أن توفر 4500 وظيفة تقريباً وتمنح دفعة للاقتصاد قيمتها 445 مليون دولار، بحسب وزارة الطاقة الأميركية، برغم توليد وظائف أقل كثيراً واستثمارات أقل كثيراً خلال الأعوام المقبلة في أعقاب الانتهاء من أعمال البناء. مع حلول 2030، يمكن أن يصل إجمالي النفقات الرأسمالية لبلوغ أهداف طاقة الرياح البحرية للبلاد 100 مليار دولار تقريباً عبر كافة أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، بحسب أحد التقديرات التي أوردتها وزارة الطاقة الأميركية.
أشار مايكل هيشت، الرئيس التنفيذي لـ"غريتر نيو أورلينز" إلى أنَّ قطاع طاقة الرياح يعتبر "شريان حياة اقتصادياً ، وسنعمل في مجال توفير احتياجات قطاع الرياح والخدمات المعاونة".
ظروف غير مواتية
بدأت أوروبا تستغل قوة رياح المحيط منذ عقود، وبغضون أول ثلاثة شهور من السنة الحالية؛ كانت مزارع الرياح أكبر مصدر كهرباء في بريطانيا للمرة الأولى بالتاريخ. لكن على صعيد الولايات المتحدة الأميركية؛ بدأت تطوير قطاعها منذ فترة وجيزة. وضعت ولايات أميركية عديدة أهدافاً طموحة لطاقة الرياح البحرية، ويستهدف بايدن توفير توربينات في المياه الأميركية كافية لإمداد ما يفوق 10 ملايين منزل بالكهرباء مع حلول 2030. من المتوقَّع أن تبدأ أول مزرعتين كبيرتين تحت الإنشاء -قبالة سواحل نيويورك وماساتشوستس- توليد الكهرباء في صيف العام الجاري.
لكن ما زالت توجد تحديات ضخمة، بما فيها ذلك التضخم الذي طال أمده مع تصاعد المعارضة السياسية. تأخر تشغيل مزرعتين هائلتين لطاقة الرياح قبالة سواحل ماساتشوستس لمدة سنة على الأقل جراء تزايد التكاليف، وأوضحت شركة الطاقة الدنماركية العملاقة "أورستد" (Orsted) -إحدى الشركات التي تبني "إيكو إيدسون"- أنَّها ستتكبد خسارة 365 مليون دولار أميركي في مزرعة تشيدها قبالة سواحل نيويورك. ما يزال تأثير طاقة الرياح البحرية على الحياة البحرية محل دراسة، وقد انتهز المشرعون الجمهوريون سلسلة من حوادث نفوق الحيتان للمطالبة بوقف القطاع في مهده.
كيف يمكن للروبوتات المساعدة في تعزيز التوجه نحو طاقة الرياح؟
تعتبر ولاية تكساس عقبة محتملة أخرى. شيد مصنع في هيوستن الأساسات الخمسة لتوربينات مزرعة الرياح البحرية الأميركية الأولى خلال 2016، وتشهد الولاية أكبر طلب على الكهرباء بالمنطقة بسبب حجمها الضخم. لكنَّ المشرّعين الجمهوريين في ولاية تكساس طرحوا بالآونة الأخيرة سلسلة من مشروعات القوانين التي ستجعل من توليد الطاقة النظيفة عملية صعبة. لم تبدِ الولاية نفس الحماس لطاقة الرياح البحرية على غرار جارتها ولاية لويزيانا شرقاً.
وقال جيف أندريني، نائب رئيس خدمات طاقة الرياح في شركة "كراولي" (Crowley) للأنشطة البحرية إنَّ "هناك حاجة لولاية تكساس لأحداث تغير ملموس بمنطقة خليج المكسيك، ولا تتمتع ولاية لويزيانا بنفس القدر من الجاذبية". للحكم على الآفاق المستقبلية لطاقة الرياح في الخليج؛ ستراقب "كراولي" عملية بيع عقد الإيجار المقبلة، والذي يشتمل على ضعف عدد الأفدنة المطروحة قبالة شاطئ جالفستون بولاية تكساس، كما سيفعل الأمر نفسه مع عملية طرح قبالة ساحل بحيرة تشارلز في ولاية لويزيانا.
بنية تحتية قوية
تتطلع أيضاً شركات للبنية التحتية الحالية للخليج، التي تتضمن خطوط أنابيب غاز ومرافق تصديرية، حيث يمكن استخدام رياح المحيط لتشغيل عمليات إنتاج هيدروجين أخضر، وهي تقنية حصلت على ائتمانات ضريبية هائلة بواسطة قانون بايدن للمناخ الذي يمثل علامة فارقة بفضل قدرتها على التخلص من جزء من الوقود الأحفوري. لكن حتى لو لم تُؤسس مزارع رياح في الخليج؛ فإنَّه يمكن للعمال والشركات جني أموال كثيرة من معدات بناء مزارع الرياح بمناطق أخرى.
قال بيرني دنميلز (33 سنة)، الذي يصف نفسه بأنَّه مساعد عامل حفريات، ويضع وشماً يحمل اسم ابنه على رقبته: "كنت خارج سوق العمل لمدة طويلة للغاية، لذا؛ فإنَّ أي عمل يعد مفيداً لي". يكنس دنميلز وينظف الصهاريج حول "إيكو إيدسون" مقابل 12 دولاراً بالساعة، في حين يستعمل العمال حوله معدات ضخمة لتشكيل المعدن بحسب مواصفات دقيقة، ويلحم مكونات تصنيع السفينة معاً باستخدام أذرع روبوتية. ويختتم دنميلز قوله: "تغمرني السعادة للعمل في طاقة الرياح".