أزمة ديون وشيكة في الدول الفقيرة الأكثر تأثراً بتغير المناخ

تغير المناخ يؤدي إلى أحوال طقس قاسية تضر المحاصيل وتجبر الدول والشركات على الاقتراض

امرأتان تستخدمان الفأس للعمل في أحد الحقول
امرأتان تستخدمان الفأس للعمل في أحد الحقول المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حذّر رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، قادة العالم في المحادثات المناخية بقمة المناخ "كوب 27" (COP27) في نوفمبر، من أن الدول النامية تخاطر بالسقوط في "مصيدة الديون المالية"، حال إجبارها على اللجوء إلى الأسواق لتغطية التكاليف المتزايدة لمواجهة تغير المناخ. بعد مرور 6 أشهُر، ومع ارتفاع أسعار الفائدة ودرجات الحرارة، يبدو أنه كان بعيد النظر عندما توقع ذلك.

حتى الآن في العام الحالي، ضربت الأعاصير جنوب شرق أفريقيا، وأودت الفيضانات بحياة مئات في رواندا والكونغو وأوغندا، وتضررت المحاصيل في منطقة القرن الأفريقي بسبب أسوأ موجة جفاف في 4 عقود. وتسجّل منطقة جنوب شرق آسيا حالياً درجات حرارة قياسية، فيما فتك إعصار موكا لتوّه ببنغلاديش وميانمار، وجفت المناطق الزراعية في الأرجنتين.

تشكل تلك الأحداث غالباً أزمات إنسانية، كما أن كُلفتها كبيرة وآخذة في الارتفاع، فيبلغ متوسط تكلفة رأس المال لمجموعة مختارة تتكون من 58 دولة من الدول الأشد تأثراً بتغير المناخ 10.5%، وفقاً لتقرير صدر عن "مركز سياسات التنمية العالمية بجامعة بوسطن" (Boston University Global Development Policy Center)، في أبريل، مقارنةً بمعدل 4.3% عائداً على السندات السيادية على مدى العقد الماضي على أحد مؤشرات "بلومبرغ باركليز" للأسواق الناشئة.

اقترضت دول عديدة مبالغ كبيرة عندما كانت أسعار الفائدة أقل بكثير، ما يعني أنها في الأغلب تعاني لسداد هذه الديون عند وقوع كارثة طبيعية. كما امتدّ التغير في تكاليف الاقتراض إلى أصحاب الأعمال الصغيرة، مثل المزارعين، ما فاقم المشكلة لدى الحكومات.

ثوباني لوبيسي يقف وسط قصب السكر المزمع حصاده بأحد حقوله في نكومازي، جنوب أفريقيا
ثوباني لوبيسي يقف وسط قصب السكر المزمع حصاده بأحد حقوله في نكومازي، جنوب أفريقيا المصدر: بلومبرغ

فيضان جنوب أفريقيا

أحد هؤلاء المزارعين هو ثوباني لوبيسي. وفي فبراير الماضي، كان في بداية التجهيز للحصاد السنوي في مزرعة دواليني، وهي تعاونية في شرق جنوب أفريقيا، عندما بدأت قطرات المطر الثقيلة تهطل ضاربة صفوف قصب السكر المرتبة. وعلى مدار يومين، انهمر نصف كمية الأمطار السنوية تقريباً في الحقول لتغرق المحاصيل، وتحولت الطرق الترابية لنقل المحصول إلى أقرب طاحون، إلى برك من الأوحال. وفاض نهر ملوماتي القريب ليغمر مبنى المضخات بالمزرعة تماماً.

مايكل بلومبرغ: مكافحة تغير المناخ تتطلب تكاتف الجميع

في الأسابيع التالية، ومع بدء العمل لإصلاح الأضرار الناتجة عن أسوأ فيضان شهده المواطنون حتى الآن، أُجبر ثوباني وزملاؤه على مواجهة واقع جديد. فتلف المحصول أضر بميزانيات العائلات، وسرعان ما استنفدت أعمال الإصلاح المدخرات. في العادة، يمكن للمزارعين، غير المؤمَّن عليهم، اللجوء إلى البنوك الزراعية المحلية، لكن الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة عالمياً يعني أن الاقتراض يُسدَّد على أقساط شهرية تعجيزية.

محطة الضخ على نهر ملوماتي في نكومازي توقفت بسبب الفيضان في فبراير
محطة الضخ على نهر ملوماتي في نكومازي توقفت بسبب الفيضان في فبراير المصدر: بلومبرغ

يبلغ لوبيسي من العمر 43 عاماً، وكان والده من أوائل المزارعين السود الذين بدأوا زراعة قصب السكر في المنطقة قبل 40 عاماً. وتمكن لوبيسي من الاستمرار في زراعته حتى وقتنا، لكنه من المحظوظين، إذ باع بعض قاطني المنطقة أراضيهم، فيما يؤجر آخرون حقولهم، لعدم تَحمُّلهم تكاليف الإصلاحات.

دراسة: ثلث سكان العالم سيعيشون في مناطق حارة بحلول 2080

"عملتُ طول العام هباءً، فلن أحصل على أي دخل"، قالها لوبيسي ممسكاً بمظلة ليقي نفسه الشمس في مقابلة أُجريَت في وقت سابق من الشهر الجاري، فيما انسلّ ورل نيلي إلى نهر ملوماتي، الذي يجري ببطء على بعد خطوات. وأضاف لوبيسي: "هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا النوع من الأضرار".

زيادة وتيرة الكوارث الطبيعية

قصة لوبيسي واحدة من قصص يتزايد تكرارها في أرجاء العالم النامي. قدرت شركة "ميونيخ ري" لإعادة التأمين الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية على مستوى العالم في 2022 بقيمة 270 مليار دولار، وأن نحو 55% من هذا الإجمالي لم يكُن مؤمَّناً عليه. أثّر تغير المناخ في الكوارث الطبيعية المرتبطة بالطقس، ويُرجَّح تفاقم هذا التأثير بشدة مع ارتفاع درجات الحرارة.

قال ألفاريو لاريو، رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) التابع للأمم المتحدة، إنه رأى مزارعين يتوقفون عن العمل نتيجة لأحوال الطقس القاسية في ساحل العاج ومدغشقر وكينيا وإندونيسيا، وأضاف: "واضح أن مدى أو شدة تلك الصدمات أصبحت أكثر حدة مما كانت عليه قبل 5 أو 10 سنوات. تلك هي الحقيقة".

حلقة مفرغة من تغير المناخ وارتفاع المخاطر

على بُعد نحو 5,635 كيلومتراً (3500 ميل) من شمال شرق مزرعة دواليني، يقع أرخبيل يواجه مشكلات تمويل مشابهة على الصعيد المحلي، هو جمهورية المالديف، وهي دولة تتكون من 1200 جزيرة تغوص سريعاً في البحر. تنفق المالديف 30% من موازنتها السنوية على مصدات الأمواج واستصلاح الأراضي ومحطات تحلية المياه، وارتفعت تكاليف الاقتراض بالبلد ارتفاعاً كبيراً منذ باعت سندات بقيمة 500 مليون دولار في مطلع 2021، ويجري حالياً تداول السندات المستحقة في 2026 بمعدل عائد يقارب 19%.

الاقتصاد العالمي يخسر تريليونات الدولارات بسبب ظاهرة "إل نينيو"

لتلبية احتياجاتها للتكيف الساحلي، ستحتاج المالديف إلى إنفاق 8.8 مليار دولار، ما يعادل نحو 4 أضعاف موازنة الدولة، وفقاً لشونا أميناث وزيرة البيئة وتغير المناخ والتكنولوجيا، التي أضافت أن 64% من جزر المالديف تتعرض لتآكل شواطئها نتيجة لارتفاع مستوى سطح البحر.

كما كتبت أميناث في رسالة إلكترونية ردّاً على الأسئلة: "مفارقة مريعة أن يجعلنا تأثُّرنا بتغيُّر المناخ دولة عالية المخاطر، ولأننا دولة عالية المخاطر لا يمكننا اقتراض المال اللازم لحمايتنا من تغير المناخ".

موزمبيق تتخلف فنياً عن السداد

في ظلّ تفاقم شدة الكوارث الطبيعية وزيادة وتيرة وقوعها، يرفع المستثمرون أسعار الفائدة التي يفرضونها على الدول الأكثر تأثراً، ما يضيف إلى أعباء الديون، وفقاً لتقرير جامعة بوسطن. ارتفاع علاوة مخاطر عدم السداد قد يوقع الدول في حلقة مفرغة من تكلفة الديون المرتفعة وتراجع القدرة على الاستثمار في مواجهة تغير المناخ، وفقاً لما كتبه الباحثون، ومنهم لوما راموس وربيكا راي، في التقرير.

الحر والرطوبة الشديدان يختبران قدرة البشر على البقاء أحياء

هذه هي الأوضاع السائدة في ساحل جنوب شرق أفريقيا، وهي منطقة أنهكتها سلسلة من العواصف العنيفة في السنوات الماضية، وهي أحداث ربطتها مبادرة "إسناد المناخ العالمي" (World Weather Attribution) بتغير المناخ. كانت الأوضاع المالية في موزمبيق في حالة سيئة بعدما أفضى ما يسمى "فضيحة سندات التونة" إلى منعها من دخول أسواق الديون الدولية عندما ضربها إعصار إيداي في 2019، ليدمر المحاصيل ويرفع معدلات التضخم. ارتفاع الدين المحلّي المستحَق على الدولة بأكثر من 100% ليبلغ 301 متكال موزمبيقي (4.7 مليار دولار) منذ 2019، إلى جانب سلسلة من تأخر سداد مستحقات الديون في وقت سابق من العام الجاري، أديا إلى تصنيف وكالة "موديز إنفستور سيرفيس" للدولة على أنها في حالة تخلف فني عن السداد إلى البنوك المحلية.

وكتب محللو "موديز" في تقرير أن ضغوط السيولة ظهرت في إطار دفعات سداد الدين المرتفعة بشكل استثنائي، التي تجاوزت مستويات الإنفاق المتوقعة، وفاقمها إعصار فريدي الذي عصف بالمنطقة في وقت سابق من العام الجاري، كما أن الأحداث الأخيرة توضح آثار تَعرُّض موزمبيق للصدمات المناخية المتزايدة والمتكررة والشديدة على الائتمان.

نقص استثمارات القطاع الخاصّ

دفع تزايد وتيرة الكوارث الطبيعية الحكومات في الدول الأكثر تأثراً بتغير المناخ إلى زيادة دعوات رفع المساعدات من الدول الغنية التي تسببت من الناحية التاريخية في معظم الانبعاثات. وفي "كوب 27" جرى التوصل إلى اتفاق تاريخي لإنشاء صندوق للخسائر والأضرار ليدفع للدول الفقيرة مقابل الضرر الناجم عن تغيُّر المناخ، وإن لم تتضح طريقة تمويل الصندوق أو هيكله، كما أن الدول الغنية قدّمَت مساعدات مناخية أقلّ كثيراً عما وعدت به.

تغير المناخ يخفض ناتج أميركا اللاتينية 20% بحلول 2100

طالبت دول أخرى باتخاذ إجراءات لتشجيع القطاع الخاص على زيادة تمويله لتدابير التكيف مع تغير المناخ، إذ نجح التمويل الأخضر في تحويل مسار الأموال إلى مشروعات الحد من تغير المناخ، مثل مزارع الطاقة الشمسية، لكن المستثمرين أقلّ رغبة في تخصيص الأموال لخطط التكيف مع تغير المناخ، مثل بناء مصدات الأمواج، إذ إن توقع تدفق الإيرادات في المستقبل أمر صعب. وقدر لاريو أن مقابل كل 10-12 دولاراً تُستثمر في الحد من تغير المناخ، لا يُستثمر حالياً سوى دولار واحد في التكيف مع تغير المناخ.

أحد الخيارات المتاحة للمنظمات متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هو التدخل بصفتها جهة ضامنة للمشروعات لتسمح لمستثمري القطاع الخاص بالمشاركة دون تحمل قدر كبير من المخاطرة.

"علينا التركيز على كيفية تحفيز القطاع الخاصّ لزيادة حشد التمويل المرتبط بتغير المناخ. تؤدّي بنوك التنمية متعددة الأطراف دوراً قوياً في زيادة التمويل المتعلق بتغير المناخ، إذ يمكنها إزالة المخاطر من مشروعات القطاع الخاص"، وفقاً لما قاله نوربرت لينغ، مدير المحفظة الاستثمارية لائتمان الحوكمة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات بشركة "إنفسكو أسيت مانجمنت" (Invesco Asset Management) في سنغافورة.

عبء القروض

في نكومازي، يمكن لمزارعي قصب السكر الحصول على قروض من شركة "أكواندزى أغريكالتشرال فاينانس" (Akwandze Agricultural Finance)، وهي مشروع بين 1200 من صغار المزارعين وشركة "آر سي إل فودز" (RCL Foods) مالكة الطاحون. لا تحتاج "أكواندزى" إلى اعتبار الأرض ضماناً لقروضها، لأن قصب السكر يُزرع في مناطق عامة، ليس بها إلا قليل من صكوك الملكية. عوضاً عن ذلك، تُضمَن القروض بدخل المزارعين من محاصيلهم.

سابيلو شابانغو، أحد مزارعي قصب السكر، يسير على طريق ترابي دمرته الأمطار الغزيرة
سابيلو شابانغو، أحد مزارعي قصب السكر، يسير على طريق ترابي دمرته الأمطار الغزيرة المصدر: بلومبرغ

لكن ذلك لم يُجدِ عندما دمر الفيضان قصب السكر أو عاق وصوله إلى الطاحون في الوقت المناسب. يمكن لأعضاء التعاونية الذين ساعدوا على تأسيس البنك الاقتراض بسعر فائدة مخفض، أعلى بنسبة 2% مما يطلق عليه اسم "سعر الفائدة المميز"، الذي تستخدمه البنوك لإقراض أكثر عملائها جدارة ائتمانية، ويبلغ سعر الفائدة المميز حالياً 11.75%، وهو الأعلى منذ منتصف 2009.

سابيلو شابانغو، مزارع بمشروع قصب السكر في خانيانغوانى الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من مزرعة دواليني، اقترض سابقاً من "أكواندزى"، وما زال يسدد القرض، قال: "علينا إنفاق مزيد من أموالنا. أظنّ أن البعض حصل على قروض منذ الفيضان. إنها تضيف عبئاً هائلاً على المزارعين. وعندما لا يصبح المال كافياً، سيستمر القرض لمدة طويلة".