ما أثر ثورة "ريديت" في زمن الذكاء الاصطناعي؟

التعتيم الذي أحدثه مشرفو منتديات "ريديت" يعكس التوترات التي تتهدد اقتصاد الإنترنت

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

شهدت منصة "ريديت" ما يشبه إضراباً منذ 12 يونيو، حين حوّل آلاف من مشرفيها المتطوعين إعدادات منتدياتهم إلى خاصة، فحرموا بذلك مستخدميها مؤقتاً من الغوص في التفاصيل التي تضمها مجموعات مثل (r/Gaming) و (r/Piano) و(r/IDontWorkHereLady).

فيما عاد عديد من المنتديات، التي تُعرف باسم "ريديت الفرعية" بلغة "ريديت"، متاحاً عبر الإنترنت، فإن بعضاً منها لم يستأنف عمله كالمعتاد بعد، وراح كثير من جمهور المنصة يتساءل ما إذا كانت هذه بداية النهاية.

بدأت "ريديت" تمهّد الطريق لطرح اكتتاب أولي عام في نهاية 2021، وقد ظهرت مشكلات حين أعلنت عن خطة تقضي بفرض رسوم على الشركات ومطوّري البرامج مقابل استخدامهم لواجهة برمجة التطبيقات لديها، وهي أداة قائمة تتيح للمستخدمين الاستفادة من محتوى "ريديت" ليبنوا منتجاتهم وخدماتهم.

"ريديت" تجهز للطرح العام مع "مورغان ستانلي" و"غولدمان ساكس"

مع بدء تكشف تفاصيل الخطة، رأى عديد من المشرفين أن هذه المساعي ستضرب "ريديت" في الصميم، وضغطوا على المؤسس الشريك للمنصة ورئيسها التنفيذي ستيف هوفمان لتغيير رأيه. حين رفض، حوّلوا المنتديات إلى خاصة، وكالَ الطرفان اتهامات حادة علنية لبعضهما البعض، فيما سعوا لتسوية الأمور خلف الكواليس.

تهديد الذكاء الاصطناعي

تأسس موقع "ريديت" في 2005، وبيع في العام التالي إلى شركة "كوندي ناست" (Condé Nast)، وهو الآن شركة مستقلة، لكن "أدفانس بوبليكايشنز" (Advance Publications)، الشركة الأم لـ"كوندي ناست" (Condé Nast) تملك أكبر حصة فيه. يعمل الموقع على شكل مجموعة من لوحات للرسائل ويعتمد بشدة على الإعلانات ليحقق إيراداته.

تندلع بين الحين والآخر نزاعات حامية بين المشرفين وإدارة الموقع، لذا فإن استكشاف ما يحدث، ولو فقط انطلاقاً من الغرابة المستشرية في ثقافة "ريديت"، أمر مغرٍ. خاصةً أن هذه الأمور لا تحصل في "سنابشات" أو "إنستغرام" على سبيل المثال.

هوس الذكاء الاصطناعي رفع قيمة "ناسداك 100" 5 تريليونات دولار

لكن هذه البلبلة تكشف أيضاً عن توترات عميقة تشوب عالم الإنترنت. في ظل تراجع سوق الإعلانات الرقمية وانحسار التفاؤل الذي ساد في زمن معدلات الفائدة الصفرية، إلى جانب التحولات المرتقبة التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي، تغيرت حسابات شركات الإنترنت التي لم تكتشف بعد كيفية الاستفادة من عدد متابعيها الضخم في تحقيق أرباح مستدامة.

قالت ألوندرا نيلسون، الأستاذة في "مركز الدراسات المتقدمة" (Institute for Advanced Study) التي شغلت منصب المديرة بالوكالة لمكتب سياسات العلوم والتقنية في إدارة الرئيس جو بايدن إن "الناس يتوقعون حصول تغيير في اقتصاد الإنترنت".

لقد شبّهت احتجاج مشرفي "ريديت" بإضراب الكتّاب في هوليوود، معتبرةً الحدثين أشبه بردّات فعل رافضة لوضع راهن غير مرضٍ، ومحاولات لتمهيد الأرضية لمعالجة المخاوف حيال الذكاء الاصطناعي. قالت: "يدرك الناس منطقياً أن الجهود الجماعية هي فقط التي ستقدر على إحداث تغيير ولو كان بسيطاً، وحتى هذه الجهود قد لا تفلح".

تعويض عن استخدام البيانات

حين أعلنت الشركة عن تغيير في سياستها في أبريل، كان التركيز على ضمان حصولها على تعويض عند استخدام محتواها بغرض تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل "شات جي بي تي" أو "بارد" من "غوغل".

بيانات "ريديت" مفيدة جداً للشركات التي تدرب روبوتات الدردشة أو الأنظمة اللغوية، لأنها تُحدَّث باستمرار، وتقدّم اللغة كما هي في العالم الحقيقي. كما أن مشرفي "ريديت" يحذفون كميات هائلة من المحتوى السام. وإذا ما كنت تظنّ أن الناس سيلجؤون إلى منتجات الذكاء الاصطناعي التوليدي للبحث عن المعلومات التي كانوا سابقاً يجدونها على "ريديت"، فذلك يعني أن الشركة تدرّب بديلها الذي سيحتلّ مكانها.

لم تتضح بعد معالم اقتصاد الإنترنت الذي يهمين عليه الذكاء الاصطناعي، إذ إن "ريديت" ليست وحيدة في قلقها حيال الطرق التي تعتمدها شركات الذكاء الاصطناعي كي تحصل على البيانات التدريبية. فعلاً، كان استخدام البيانات بشكل غير مرخص لبناء أنظمة الذكاء الاصطناعي قد أسفر عن دعاوى قضائية تقدم بها عدد من مطوّري البرامج الإلكترونية وإحدى أكبر وكالات التصوير.

نظراً للضرر الذي سبق أن ألحقه وادي السيليكون بالشركات الإعلامية التقليدية، فإن شركات صناعة المحتوى قلقة جداً حيال نوايا قطاع التقنية.

كان رئيس شركة "نيوز كورب" التنفيذي روبرت تومسون قد اشتكى أخيراً من أن "التنقيب عن المحتوى هو صناعة استخراجية". وقد بدأت شركات الذكاء الاصطناعي تجري محادثات مع عديد من الشركات الإعلامية لبحث سبل تعويضها عن استخدام بياناتها.

كان هوفمان قد أعلن سابقاً أن "ريديت" تخوض مثل هذه المحادثات. قال متحدث باسم "ريديت" في رسالة إلكترونية إن الشركة لا تستطيع مشاركة أي معلومات حول "محادثات تجارية حالية أو سابقة"، بما يشمل ما وصلت إليه خططها لطرح الاكتتاب الأولي العام، كمل رفض طلب إجراء مقابلة مع هوفمان.

عمل تطوعي

في الآونة الأخيرة، أصبحت النقاشات العامة حول سياسات واجهة برمجة التطبيقات من "ريديت" تركز أكثر على المطوّرين الذين يستخدمون واجهاتها ليصنعوا تطبيقات، بما فيها تطبيقات قراءة "ريديت" بميزات وواجهات مختلفة.

إلا أن الذكاء الاصطناعي قد يتحوّل إلى خطر وجودي بما أن بعض تطبيقات القراءة تلك تعرض إعلانات خاصة بها، ما يعني أنها تتنافس اليوم مع "ريديت". قال هوفمان في مقابلة مع "إن بي آر" في 15 يونيو: "نحن ندعم أعمالاً تجارية أخرى مجاناً منذ فترة طويلة، سنتوقف عن ذلك، هذا أمر لا نقاش فيه... ببساطة كنّا في وضع غير قابل للاستدامة".

ثمّة أوجه شبه واضحة هنا مع المعضلة التي تواجهها "تويتر"، فالتحديات التي اعترضت بناءها لنموذج أعمال قابل للاستدامة لعبت دوراً في قرارها بيع الشركة إلى إيلون ماسك. حتى أن اهتمام ماسك نفسه بالاشتراكات المدفوعة يعود بجزء منه إلى مساعيه لإيجاد بديل عن تعثر نموذج أعمال "تويتر" المستند إلى الإعلانات (رغم وجود دوافع غير اقتصادية أيضاً وراء قرار ماسك). كما فعلت "ريديت"، أخذ ماسك هو الآخر موقفاً شرساً في وجه استخدام واجهات برمجة التطبيقات.

كلّما طال أمد ركود قطاع الإعلانات وزادت الأدلة على أن منتجات الذكاء الاصطناعي ستحلّ مكان الأنشطة الأخرى عبر الإنترنت، ستُضطر شركات التقنية أكثر فأكثر للبحث عن الاستدامة المالية عبر اعتماد سبل قد تتسبب بصراعات بينها وبين المستخدمين.

إلا أن مستخدمي "ريديت" المتفانين يتميزون عن غيرهم، فهم يتعاملون مع الموقع وكأنّه وظيفة أكثر من كونه وسيلة ترفيهية، برغم أنهم لا يتقاضون أي أجر. يتولّى المشرفون باستمرار مراقبة آلاف المنتديات على الموقع، ويستخدمون في بعض الأوقات برامج إلكترونية صنعها مطوّرون اعتماداً على واجهة برمجة التطبيقات من "ريديت" في صنع أدوات لم تصنعها الواجهة بنفسها.

على سبيل المثال، الأدوات التي تخوّل المكفوفين استخدام الموقع، لطالما صنعها طرف ثالث. قال جي. نايثان ماتياس الذي يقود مختبر المواطنين والتقنية في جامعة "كورنيل" ودرس أسلوب الإشراف المعتمد في "ريديت" إن الموقع "عبارة عن منصة تعتمد بشكل رئيسي على عمل المتطوعين".

أزمة ثقة

ميّز هوفمان بين الأدوات المستقلّة التي تحافظ على عمل الموقع وتلك التي تتنافس معه. قال إن "ريديت" ستبقي على الأدوات التي يحتاجها المشرفون من خلال إبرام اتفاقات مع المطوّرين أو من خلال بناء تلك الأدوات بنفسها.

قال المتحدث باسم الشركة إن "الغالبية العظمى" من مستخدمي واجهة برمجة التطبيقات، بمن فيهم من يصنعون أدوات لصالح المشرفين، لن يضطروا للدفع مقابل استخدام الواجهة، إلا أن بعض المشرفين المخضرمين يشككون في أن تتمكّن "ريديت" من الالتزام بوعدها.

قال فريز ريبورن، المعيد في جامعة شيفلد والمشرف على منتدى (r/AskHistorians): "لم يخصد (ريديت) إلا قليلاً من الثقة في هذا الشأن... تعود هذه المشكلات إلى سنوات خلت ولم تُعالج بجدية قطّ".

يمضي ريبورن نحو 10 ساعات أسبوعياً في الإشراف على منتداه، وهو واحد من نحو ثلاثين مشرفاً على منتدى (AskHistorians) الذي يضمّ 1.9 مليون مشترك. كان المنتدى قد حوّل إعداداته إلى خاصة لمدّة يومين، وهو اليوم يعمل بشكل محدود. لا يشعر ريبورن أن مخاوفه الأساسية قد عولجت، ويرى أن الطريقة العدائية التي تتصرف بها الشركة في النزاع الحالي محفوفة بكثير من المخاطر. قال "أعتقد أن (ريديت) ستكتشف سريعاً قيمة موقعها إذا ما توقف الناس عن منحه وقتهم وطاقاتهم".

ستحتاج "ريديت" للمطوّرين من أجل أن تقوم بأمور مختلفة، مثل حماية منتدياتها من موجات المحتوى المولّد من الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يجتاح الموقع فعلاً، بحسب ريبورن، الذي قال: "نحن نشارك إلى حدّ واسع (ريديت) قلقها حيال هذا الأمر. لا نحب هذه النماذج اللغوية الضخمة، ولا نرى أنها تطور جيد لصالح (ريديت) أو لصالح الإنترنت".

بيّن أن لا مانع لديه في أن تتوصّل "ريديت" إلى طريقة تمكّنها من تقاضي الأموال من شركات الذكاء الاصطناعي مباشرةً، مضيفاً: "نريد أن تنجح (ريديت)... بل إننا نريد أن نراها تحقق نجاحاً تجارياً كذلك".