تحسين قطاع الزراعة قد يقي كوكبنا شروراً تتهدده

يساهم إنتاج الغذاء بثلث انبعاثات غازات الدفيئة.. خيارات المستهلكين والتقنيات والسياسة ستقرر إن كان هذا الحال سيستمر

عرناس ذرة في مزرعة في سوبانغ في جزيرة جاوة الغربية، إندونيسيا
عرناس ذرة في مزرعة في سوبانغ في جزيرة جاوة الغربية، إندونيسيا المصدر: بلومبرغ
 Lara Williams
Lara Williams

Lara Williams manages Bloomberg Opinion's social media channels.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إطعام 8 مليارات نسمة مُهمّة مهولة ولسنا بارعين فيها، إذ يعتري الخلل والإخفاق أنظمة الغذاء العالمية على عدّة صعد ويطال ذلك صحة الإنسان وانبعاثات الكربون والتلوث. إلا أن ورقة بحثية حديثة تؤشر إلى إمكانية تحسين الوضع، شريطة أن لا نترك حيلة في متناولنا دون تسخير.

لنتخيل حقل ذرة شاسع في الولايات المتحدة، قد نتصوّر أن يؤول محصوله إلى سوق مزارعين على شكل أكوام من العرانيس، أو في معلبات معدنية على رفوف المتاجر، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك.

بالكاد يستهلك البشر عُشر كلّ كميات الذرة، كما أن نصف ما يستهلكونه يأتي على شكل قطر الذرة الغني بالفروكتوز الذي يخلو من أي قيمة غذائية تذكر. تُستخدم نسبة كبيرة من محاصيل الذرة وتبلغ 39% كعلف للحيوانات و37% منه لإنتاج وقود الإيثانول. أمّا الباقي ونسبته 14% فتُصدّر ويُستهلك بعض منها كطعام، فيما يؤول جزء كبير للاستخدام كعلف حيواني أو لصنع الإيثانول. إذاً حتى قبل أن نتطرق للمبيدات الحشرية والطلب على المياه والزراعة الأحادية المعاصرة، يظهر جلياً أن كمية كبيرة من المحاصيل الصحية التي لا تبلغ الموائد.

إلحاق الضرر بالكوكب

إذاً، لا تبدو هذه الطريقة مجدية، إذ يفتقر أكثر من 820 مليون إنسان حول العالم لكميات كافية من الطعام، فيما تسجل معدلات السمنة ارتفاعاً، كما تفتقر الأنظمة الغذائية لكثير من الناس للمواد المغذية. كما يشير تقرير صادر عن لجنة "إي إيه تي لانسيت" (EAT-Lancet Commission) إلى أن خطر الإصابة بالأمراض أو الوفاة نتيجة الأنظمة الغذائية غير الصحية بات يفوق ما قد يجلبه الجنس دونما وقاية ومعاقرة الكحول وتعاطي المخدرات والتدخين مجتمعين.

تلحق هذه الممارسات الضرر بالكوكب أيضاً، فإنتاج الغذاء يسهم بنحو ثلث انبعاثات غازات الدفيئة، في حين أسفر الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية وتسرب الأسمدة والتغير باستخدامات الأراضي عن تدهور كارثي في التنوع الحيوي. تستهلك الزراعة 70% من المياه العذبة حول العالم، ومع زيادة نموّ السكان، لا بدّ من زيادة الإنتاج، فيما تلقي الأحوال الجوية المتطرفة بثقلها على الزراعة.

سبق أن شهدنا كيف رفع الجفاف أسعار زيت الزيتون إلى معدلات قياسية، فأسهم في تفاقم نقص الطعام في المملكة المتحدة. في غضون ذلك، تشير التوقعات الحالية إلى أنه في حال بقيت الأمور على ما هي عليه، فإن كمية الانبعاثات الناجمة عن النظام الغذائي العالمي قد ترتفع بما يتراوح بين 50% و80% لإطعام كلّ هذه الأفواه الجائعة.

أسعار المواد الغذائية تواصل تراجعها رغم استمرار التهديدات

تطرق كثير من الدراسات إلى سبل خفض هذه الانبعاثات، ولكن ماذا إذا كنّا قادرين على الذهاب إلى أبعد من ذلك فنبني منظومة غذائية تعمل على امتصاص الكربون بدل أن تكون مصدراً له؟ بحسب دراسة نُشرت في الدورية العلمية "بي إل أو إس كلايمت" (PLOS Climate)، الأمر ممكن. وبما أن هذا واحد من قطاعات قليلة قادرة على بلوغ صافي انبعاثات سلبي، لا بدّ أن نحرص على عدم تضييع الفرصة.

حلول مقترحة

يدرس العلماء كيفية المزج بين عدّة عوامل لخفض الانبعاثات وزيادة امتصاص الكربون من الجوّ، ويتضمّن ذلك:

· تبنّي نظام غذائي صحي ومرن، يُعرف باسم نظام "إي إيه تي لانسيت" الغذائي، الذي يستند بشكل أساسي إلى المأكولات النباتية إضافة إلى كميات قليلة من البروتينات الحيوانية، بمقدار حصة من منتجات الألبان يومياً وحصتين من لحوم الأسماك أسبوعياً وما يوازي شطيرة هامبرغر من اللحم الأحمر في الأسبوع، أو الاستعاضة عنها بشريحة لحم كبيرة شهرياً، إن كنت ترغب بها.

· تقليل هدر الطعام بمقدار النصف، فنحن حالياً نخسر أو نرمي ثلث إجمالي الأطعمة التي تٌنتج.

· تحسين كفاءة الإنتاج من أجل الحدّ من مساحات الأراضي اللازمة. إذ ثمّة فجوة حالياً بين كمية المحاصيل التي يمكن إنتاجها في المساحات الزراعية، والكميات المنتجة فعلاً. وقد استندت الدراسة في حسابتها إلى سد هذه الفجوة بحلول 2050.

· اعتماد تقنيات حديثة. وتتضمّن أجهزة مثل مثبطات الميثان من أجل خفض معدلات الغاز الناجم عن تجشؤ الأبقار وتحسين عمليات تجوية الصخور، بحيث تُنشر صخور مفتتة على الأراضي الزراعية لامتصاص ثاني أكسيد الكربون، وممارسة الزراعة الحراجية من خلال تحويل الأراضي التي لا تعد لازمة لزراعة المحاصيل إلى غابات.

"الجرارات الطائرة".. نافذة على مستقبل الزراعة الحديثة

كما أن تغيير الأنظمة الغذائية والتخفيف من الهدر كان موضع تركيز كبير، وذلك لسبب وجيه، فهما من أكثر الطرق فعالية في التخفيف من بصمة الكربون. فإذا ما اتبع الجميع نظاماً غذائياً قائماً على النبات بشكل أساسي، وخُفّض فقد الطعام بمقدار النصف، ستنخفض كمية الانبعاثات الناجمة عن إنتاج الغذاء إلى النصف تقريباً. لكن هذه الإجراءات لا تكفي وحدها للحدّ من انبعاثات الكربون في القطاع. قال مايكل كلارك، مدير برنامج حلول الغذاء المستدامة في كلية سميث في جامعة أكسفورد، والمشارك في إعداد الدراسة إن "هذا الأمر ليس بمفاجئ، فإذا كنت تُنتج منتج ما، سيكون له انبعاثات، والطريقة الوحيدة لتصفير صافي الانبعاثات في المنظومة الغذائية تقتضي إلغاء المنظومة الغذائية برمتها". من هنا تأتي أهمية الحلول التقنية.

المزج بين الحلول

قيّم الباحثون عدّة سيناريوهات، بين تبني الحلول التقنية بنسبة 100% وبين عدم إحداث تغيير على تبعات التدخلات غير التقنية. تبدو النتائج باعثة على الأمل، ففي حال تبنى 50% من البشر نظاماً غذائياً مرناً، سينخفض هدر الطعام بمقدار النصف، وفي حال تبني التقنية الحديثة بنسبة 50%، يمكن لقطاع الغذاء أن يزيل انبعاثات توازي 6.7 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في السنة.

في حال تبنّى الجميع نظاماً غذائياً مرناً، فقد يساعد ذلك على إزالة ضعف تلك الكمية، أي 12.4 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. وهذه كمية هائلة إذا ما أخذنا في الحسبان أنه في 2019، ولّد قطاع الطيران حول العالم حوالي 920 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.

مع ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن النتيجة غير مضمونة، فما تزال الثغرات المعرفية واسعة والتحديات كبيرة. حتى أن بعض التقنيات لم تُختبر إلا على نطاق ضيق، ما يضع علامات استفهام حول أدائها على المستويات الضخمة اللازمة. كذلك، لم تأخذ الدراسة في الحسبان العوامل الاقتصادية ومدى عملانية تبني التقنية الجديدة، مما يرجح أن يشكلا عوائق كبيرة. كذلك، لا بدّ من مزيد من البحوث حول تأثير ذلك على المياه والتنوّع الحيوي.

سبق وشهدنا بالفعل تخبط حكومات في إدارة الحدّ من الكربون في قطاع الزراعة. في هولندا مثلاً، نشأ حزب جديد إثر غضب المزارعين تجاه خطط الحكومة بدفع الأموال لهم مقابل أن يغلقوا مزارعهم من أجل التخفيف من التلوث بالنيتروجين. وفي إيرلندا، تعرض المزارعون لضغوط كي يعدموا أبقارهم. وفي حين لا شكّ أن ثمّة ضرورة للتخفيف من رؤوس الماشية، إلا أن معالجة المشكلة لا بدّ أن تأخذ في الحسبان المخاوف المتعلقة بالتراث والثقافة السائدين، وعدم الاكتفاء بتقديم تعويضات مالية للمزارعين.

لماذا يعد الوصول لذروة الانبعاثات بداية معركة المناخ؟

عمل على كل الجبهات

يصطدم إقناع الناس بتغيير عاداتهم الغذائية بحائط مشابه. يُعدّ النظام الغذائي المرن صحياً أكثر، إذ يقول معدّو تقرير "إي إيه تي لانسيت" إن اتباع هذا النظام الغذائي يخفف من الوفيات الناجمة عن الطعام بحوالي 11 مليون سنوياً، وفيما قد تقنع هذه الأرقام البعض، إلا أنه سيتعين التغلّب على بعض العادات والآراء أيضاً. قال كلارك: "يمكن أن تغسل ملابسك بواسطة غسالة مختلفة أو أن تستخدم في ذلك كهرباء من الطاقة الشمسية بدل الفحم، وتكون بذلك تغسل ملابسك في جميع الأحوال، إلا أنه لا يُنظر إلى الطعام بالطريقة نفسها". يمكن لوجبة نباتية أن تؤمّن لك العناصر الغذائية والسعرات الحرارية نفسها كما وجبة من اللحوم، ولكن يُنظر إليها بشكل مختلف، حسب التفضيلات الشخصية.

حتى أن تخفيف هدر الطعام هو تحدّ بحدّ ذاته، إذ إن رمي الطعام في سلة المهملات ببساطة سهل جداً. كما يجب أن يكون أي بديل بيئي زهيد التكلفة بالقدر عينه أو يقدّم قيمة إضافية. مثلاً، تطرح شركة "دايفرت" (Divert) الناشئة المتخصصة بتحويل مخلفات الطعام إلى طاقة نفسها على أنها منتج يستند إلى البيانات بالكامل، تُظهر لأصحاب المتاجر منافع وسائل التقليل من الهدر، حيث يسهم ذلك في خفض الأسعار وتحسين استخدام سلاسل الإمداد لإطالة صلاحية المنتجات على الرفوف. أمّا الطعام الذي يتعذّر التبرّع به، فيُحول إلى طاقة.

يسلّط التقرير الضوء على أمر بات مرادفاً للمعركة المناخية الأوسع، فإذا ما أردنا أن نحدّ من الاحترار العالمي إلى ما دون درجتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية - والأفضل السعي لهدف أقرب إلى 1.5 درجة قدر الإمكان - فإن الأمر يتطلب أكثر من مجرد الاستفادة من التقنيات الجديدة وتحسين الإجراءات الحالية وتبني سلوكيات جديدة، يجب أن نعمل على كافة الجبهات.