انقضاء زمن العولمة مبالغة كبرى

التجارة تثبت في الأعوام الأخيرة أنها متماسكة في وجه صدمات عدة رغم الحديث عن التراجع عن العولمة

حاويات مرصوصة بعضها فوق بعض في مستودع حاويات "أويوانغ" في كوريا الجنوبية
حاويات مرصوصة بعضها فوق بعض في مستودع حاويات "أويوانغ" في كوريا الجنوبية المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لا تذرفوا دموعاً كثيرة أسىً على ذهاب العولمة، فالتدفقات الثابتة للبضائع والخدمات ورأس المال والمعرفة عبر الحدود لم تنقطع، كما أن الاقتصاد العالمي لم يتشظَّ لحد يستعصي على الإصلاح. بل إن بعض التحول في الاستثمارات قد يعزز موقع الصين في سلاسل الإمداد، وهو أمر بعيد عن مساعي انتشال القطاع الصناعي في الولايات المتحدة من قبضة الهيمنة الصينية.

لقد راجت في أيامنا هذه مصطلحات مثل التفكيك، وإعادة الأنشطة إلى البلاد، ونقل الأنشطة إلى دول صديقة، وذلك لأنها طريقة موجزة للتعبير عن تطورات قد تبدو متزايدة، إن نظرنا إلى كل منها على حدة، ولأنه يمكن استخدام تلك التعابير بلا مشكلة في محافل منتدى دافوس دون خشية إثارة اعتراض حاد. لكنها قد تنتكس، فقد ارتفع حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين إلى مستوى قياسي العام الماضي، فيما يعارض كل ما تناولته كتابات الخبراء عن فك الارتباط.

أحد العيوب الأخرى هي أن المصطلحات الجذابة لا تعكس بوضوح التباينات الدقيقة في المعنى. ربما يكون شحن البضائع قد بلغ ذروته، فيما يزدهر قطاع الخدمات. وقد تضخمت أكثر الأسواق عالميةً، وهي أسواق العملة، إلى مبلغ مذهل بلغ 7.5 تريليون دولار يومياً، وفقاً لبنك التسويات الدولية.

محص كتاب جديد أصدره مركز أبحاث السياسات الاقتصادية وصندوق النقد الدولي أشكال التوترات هذه، وسعى لوضع الاضطرابات التي حدثت خلال الأعوام القليلة السابقة في منظورها الصحيح. تشهد تدفقات التجارة وتوزيعات الأموال تحولاً كبيراً بحق، لكنه قد يكون دقيقاً أو متبايناً، أو ربما يتكشف بطرق تجعل تبنّي الصفات الرائجة إشكالياً. كما أن تلك التحولات لم تبدأ مع مجيء دونالد ترمب أو الجائحة، وذلك سيجعل تأثير التحولات أطول أمداً، وبالنتيجة ستزداد صعوبة التنبؤ بتداعياتها.

فروق الماضي والحاضر

هذا الوضع مختلف عن عقد التسعينيات الذي اتسم بتوسع مستمر في آسيا والاتحاد السوفيتي السابق لعلامات تجارية، مثل "ستاربكس" و"مايكروسوفت" و"بوينغ"، وبتنامي سلاسل الإمداد المدفوعة بشركات صناعة السيارات اليابانية وصانعي الرقائق الأوروبيين. أما المشهد المعاصر فجوه مختلف، لكنه رغم ذلك لم يبلغ حداً يعيد فيه كتابة تاريخ الاقتصاد. كتب مدير الأبحاث في صندوق النقد الدولي بيير-أوليفييه غورينشا في ذلك الكتاب الإلكتروني إقراراً بمتانة النظام، رغم أن الاتجاهات تثبط معنوياته:

"رغم كل ذلك الحديث عن انفراط في العولمة، أثبتت التجارة في الأعوام الأخيرة أنها متماسكة في وجه صدمات عدة، وأن اقتصاد العالم ما يزال متكاملاً بقدر كبير. حتى حين ننظر إلى التجارة بين الصين والولايات المتحدة، حيث تبلغ توترات العلاقات التجارية ذروتها؛ ما يزال بإمكاننا أن نرى أن واردات الولايات المتحدة من الصين في 2022 فاقت مستويات 2017 بأكثر من 30%... لذا هل الأمر برمته مجرد (أساليب ترهيب)؟ لا ليس كذلك بالضبط. برغم أننا لم نصبح عالماً متفككاً بعد؛ فإننا نشهد تصدعات مهمة في المنظومة".

سنفتقد العولمة لدى زوالها

لاحظ غورينشا أن واردات الولايات المتحدة من المنتجات الخاضعة للرسوم الجمركية، التي فرضها ترمب وأبقاها جو بايدن، قد تراجعت بشكل ملحوظ. أما تدفقات رأس المال، رغم أنها تسير نسبياً دون عوائق، فقد بدأت تعكس علاقات الدول الاستراتيجية والاقتصادية، لدرجة أنه بات ممكناً التمييز بين هذين النوعين من العلاقات. كما عاودت السياسة الصناعية الانتعاش بعدما باتت من ذكريات الحرب الباردة.

الفائزون والخاسرون في السباق

التطرق لبعض هذه الأمور ليس جديداً. ما يثير الاهتمام هو ما جاء به الكتاب الإلكتروني من درر في الجزء الخاص بسلاسل القيمة والاستثمارات الأجنبية المباشرة. فقد تصادف أن بعض أكبر الفائزين في السباق على الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأميركية، مثل كوريا الجنوبية وكندا، هم من حلفاء واشنطن. أما الخاسرون نسبياً، فهما الصين وفيتنام، وهو ما يثير الدهشة في الأمر.

منطقي أن تكون الصين من الخاسرين. لكن فيتنام كانت تعتبر عادةً فائزة في خضم النزاعات التجارية، إذ لديها تاريخ طويل من العلاقات المتوترة مع جارتها، بيد أنها ما فتئت تقلص البعد مع الولايات المتحدة، وقد زار بايدن العاصمة هانوي حديثاً كي يبارك تحسن العلاقات.

الصين متأصلة في سلاسل التوريد الأميركية رغم القيود

يظهر مزيد من المشاكل في فصل من الكتاب ألفته كارولين فرويند من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو مع اقتصاديين من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وجد مؤلفو الفصل أن الرسوم الجمركية تسبب قدراً من فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين، لكن لم تؤد لتصدع كبير مع تضاعف أعداد الروابط غير المباشرة بين البلدين. ما تزال الدول الأخرى بحاجة لمنتجات أو مكونات منتجات مصنوعة في الصين كي تقدم خدماتها للعملاء الأميركيين ممن يبحثون عن تنويع المصادر. بعبارة أخرى، لا يمكنك أن تكتسب خبرة أو أن تتخصص في مجال محدد بين عشية وضحاها.

توترات قوية

ترى فرويند وشركاؤها المؤلفون توترات قوية بين الكفاءة والرغبة في فك التشابك. لاحظت لورا ألفارو من كلية هارفارد للأعمال ومعها دافين تشور من كلية تاك للأعمال في دارتموث كوليدج نقطة مشابهة في ورقة بحثية قُدمت في مؤتمر جاكسون هول، الذي عقده الاحتياطي الفيدرالي في أغسطس، وهي أنه سيصعب فصل المصانع التي تملكها الصين عن سلاسل القيمة:

"رغم تراجع الاعتماد الأميركي المباشر على الصين، فقد ازدادت حصة الواردات الصينية إلى دول صديقة، بما يشمل الاتحاد الأوروبي والمكسيك وفيتنام. رغم أنه يستبعد أن تستنسخ الصين استراتيجيات دول أخرى في الالتفاف حول قيود السياسات عبر الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة من خلال الاستثمار المباشر (مثلما فعلت اليابان في السبعينيات والثمانينيات)، فقد زادت الشركات الصينية حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومنشآت الإنتاج في مناطق حيوية في فيتنام والمكسيك، وإن كانت تلك الزيادة بدأت من أساس منخفض".

السوق الصاعدة الحقيقية الوحيدة في عصر الحنكة الاقتصادية هذا قد تكون من نصيب المصطلحات الجذابة التي تظهر على أغلفة المجلات المرموقة. لكنها للأسف قد تكون غامضةً بقدر تبيانها. وقد ينتهي مطاف غرائب التشرذم الاقتصادي والمالي، إن كان ذلك ما نشهده حقاً، بأن تؤكد مدى الترابط الحقيقي بين الشعوب وبين الأسواق.