5.3 تريليون يورو تضع المركزي الأوروبي أمام مفترق طرق

المسؤولون مجبرون على إعادة تقييم السياسات الحالية والبحث عن بدائل أكثر نجاعةً

مقر البنك المركزي الأوروبي، فرانكفورت، ألمانيا
مقر البنك المركزي الأوروبي، فرانكفورت، ألمانيا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يتساءل مسؤولون في البنك المركزي الأوروبي عمّا إذا كانوا قد رفعوا تكاليف الاقتراض بما فيه الكفاية، وعمّا إذا كانت سياساتهم ستستمرّ في تحقيق أهدافها المرجوّة. وفي هذا الإطار، تتطلع رئيسة البنك كريستين لاغارد وزملاؤها إلى تجديد الأواصر التي تربط البنك المركزي الأوروبي بالبنوك، بعد مرور 15 عاماً على انهيار بنك "ليمان براذرز"، الذي شكل بداية اعتماد أدوات السيولة غير التقليدية، وصولاً إلى التيسير الكمي.

اقرأ أيضاً: أشد مجزرة سندات منذ 1787 تسطر نهاية عهد الفائدة الضئيلة

لا يستطيع المسؤولون أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء، والاكتفاء بإعادة إنشاء نظام سوق المال القديم. ولكن من دون إصلاح شامل، فإن بيع البنك المركزي الأوروبي لحيازاته من السندات والقروض طويلة الأجل التي يبلغ مجموعها حالياً 5.3 تريليون يورو (5.6 تريليون دولار أميركي) قد يؤدي إلى تشويه آليات السياسة النقدية التي يستخدمها لمكافحة التضخم.

إن الحلول التي اعتمدتها بنوك مركزية أخرى توفر بعض الإلهام، ولكن لا يوجد نموذج واضح. لذا، يتعين على مسؤولي البنك المركزي الأوروبي، بعد أن اتخذوا قراراً متقارباً في شهر سبتمبر برفع أسعار الفائدة مرة أخرى، أن يفكروا ملياً في آلية عمل إطارهم النقدي برمته.

لاغارد تتعهد بنتائج ملموسة

قالت لاغارد للمشرعين الشهر الماضي: "هذه ليست قضية تافهة"، مضيفة أنها "سوف تبلغ المعنيين بالحجم الأنسب للميزانية العمومية".

يريد صناع السياسات أن يخرج الموظفون بأفكار تعيد النظر في علاقة البنك المركزي الأوروبي بالنظام المالي، وبالتالي الاقتصاد نفسه وهو ما يمكن أن يكون مخيماً على الخلفية في اجتماع الخميس.

كتب اقتصاديون في "آي إن جي"، بما في ذلك كارستن برزيسكي، في مذكرة، إن لاغارد قد تفضل تحويل التركيز إلى مناقشة أدوات السياسة غير المرتبطة بسعر الفائدة، مثل الحد الأدنى من الاحتياطيات الإلزامي، وتخفيض الفائدة على بعض الودائع أو عدم فرض فوائد، والتفكيك المبكر المحتمل لبرنامج شراء السندات "PEPP".

لاغارد تعهدت برؤية نتائج ملموسة في أوائل عام 2024، وهذه نظرة أعمق على هذا التحدي:

الميزانية العمومية

تتلخص الأولوية الرئيسية للمسؤولين في تقليص الميزانية العمومية التي تضخمت في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وهي العملية التي من شأنها أن تساعد في تشديد السياسة النقدية وإعطاء الفرصة لشراء الأوراق المالية مستقبلاً في حالة حدوث أزمات.

عواقب تقليص الميزانية

يعني تقليص الميزانية العمومية فعلياً فصل النظام المالي عن السيولة الوفيرة التي توفرها البنوك المركزية. وهذا ليس بالأمر السهل، لأن هذا ما اعتادت عليه المؤسسات. لذا يتعين على المسؤولين أن يعملوا على كيفية ضمان حسن سير العمل وتجنب موجات الصدمة.

شكل شروع البنك المركزي الأوروبي بتقديم سيولة غير محدودة لجميع البنوك في عام 2008، بداية النهاية لاقتراض هذه البنوك الأموال من بعضها، بدلاً من الاعتماد على البنك المركزي، كما لسيطرة صناع السياسات على كمية الأموال المتاحة بهدف التحكم بالأسعار في السوق. لاحقاً، أدت عمليات شراء السندات واسعة النطاق إلى إنهاء هذا النظام بشكل تام.

الحنين إلى نظام ما قبل الأزمة

يحلم العديد من المسؤولين بالعودة إلى نظام ما قبل الأزمة، رغم أنهم يخشون أن المؤسسات ربما لم تعد تعرف كيفية التعامل مع هذا النظام.

يسعى صنّاع السياسات لمعرفة حجم الأموال التي يحتاجها النظام المصرفي، ولكن لا توجد طريقة سهلة لمعرفة ذلك. من المؤكد أن الطلب أعلى مما كان عليه من قبل بسبب التنظيم الأكثر صرامة، وتفضيل الاحتياطيات المؤقتة الإضافية. إن الطرح المحتمل لليورو الرقمي، على الرغم من أنه سيستغرق سنوات، ستكون له آثاره أيضاً.

اقرأ أيضاً: البنك المركزي الأوروبي يقترب أكثر من إصدار اليورو الرقمي

تقدر ورقة بحثية أُعدت بتكليف من البنك المركزي الأوروبي أن البنوك ستحتاج إلى احتياطيات تبلغ نحو 1.4 تريليون يورو للحفاظ على استمرار النظام. وترى "بلومبرغ إيكونوميكس" أن القاعدة النقدية يجب أن تتراوح بين 1.8 تريليون يورو و2 تريليون يورو.

نهجٌ قائم على العرض

تغذي السياسة الحالية النظام المالي بالسيولة، وتحدد حداً أدنى لتكاليف الاقتراض، بدلاً من محاولة توجيه الأسعار بحد أعلى أيضاً، في نظام يعرف باسم الممر.

هذا النهج القائم على العرض لا يمكنه أن يضمن توزيع الأموال الوفيرة بالتساوي عبر كل ركن من أركان الاتحاد، مما يعني أنه لا يمكن استبعاد حصول ضغوط على التمويل.

ويدرس مسؤولو البنك المركزي الأوروبي ما إذا كان هذا لا يزال النهج الأمثل. التزم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بالحفاظ على إطار مماثل لهذا النهج، ولكن هذا يعني أن عليه تأمين احتياجات ميزانية عمومية أكبر بشكل دائم.

يحرص بعض المسؤولين، بما في ذلك عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، إيزابيل شنابل، على الانتقال إلى نموذج مماثل للنهج القائم على الطلب الذي يتبعه بنك إنجلترا، والذي يوجه أيضاً أسعار الفائدة باستخدام الحد الأدنى.

نهج المملكة المتحدة

في حين أن البنك المركزي في المملكة المتحدة لديه محفظة سندات أيضاً، إلا أن إطار عمله يعتمد على إقراض البنوك الأموال التي تحتاجها فعلاً.

بما أن الأموال يتم توفيرها بمعدل يطابق سعر الفائدة على الودائع لدى بنك إنجلترا، فليس هناك مجال للخطأ في الاقتراض أكثر من اللازم.

يسمح النظام بميزانية عمومية أصغر حجماً من ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، من دون المخاطرة بنقص السيولة أو احتياطيات غير متساوية.

اقرأ أيضاً: بنك إنجلترا يتوقف مؤقتاً عن رفع الفائدة بعد 14 زيادة متتالية

تتمثل إحدى المزايا التي يتمتع بها البنك المركزي الأوروبي في أن هذا قد يؤدي إلى تحرير ضمانات عالية الجودة تمكنه من العودة إلى السوق.

هذا يتيح أيضاً لصنّاع السياسات التعلم من سلوك البنوك، وبالتالي تقدير احتياجاتهم للتمويل بشكل أفضل، ما قد يشكل مدخلاً لإعادة إنشاء النظام الأكثر تشدداً الذي كان قائماً في الماضي.

إعادة النظر في سياسات عام 2008

تتطلب محاكاة هذا النموذج تغييرات. في حين أن البنك المركزي الأوروبي لديه بالفعل الإعداد اللازم لإقراض الأموال للبنوك، فإن المسؤولين سيحتاجون إلى إزالة الفارق بين أسعار الفائدة التي يقرضون ويقبلون الودائع بها لليلة واحدة، أو تقديم القروض بشكل دائم بتكلفة تساوي سعر الفائدة على الودائع، تماماً كما يفعل بنك إنجلترا.

هذا من شأنه أن يقنع البنوك بأن استغلالها لن يُنظر إليه على أنه علامة ضعف.

إذا كان البنك المركزي الأوروبي راغباً في إعادة إنشاء نظام ما قبل الأزمة، فيتعين عليه أن يحد من كمية الأموال المقدمة إلى البنوك. في هذه الحالة، ومع توفر أموال مجانية بشكل أقل، فإن أسعار الفائدة في السوق سترتفع، لأن البنوك ستدفع فائدة أعلى من أي وقت مضى مقابل الشح المتزايد بالسيولة.

الطلب دون المستويات المطلوبة

هذا من شأنه أن يعيد تحديد سعر إعادة التمويل الرئيسي، وهو المعدل الذي تستطيع البنوك أن تقترض عليه، باعتباره مرجعياً. والسعران الحاليان الآخران، سعر الفائدة على الودائع وسعر الإقراض الهامشي، سيكونان بمثابة الحد الأقصى في هذا النموذج.

قال فرانشيسكو باباديا، الذي أدار عمليات السوق في البنك المركزي الأوروبي من 1998 وحتى 2012، ويعمل الآن زميلاً بارزاً في "معهد بروغيل" في بروكسل: "أشعر ببعض الحنين إلى النظام الذي كان متبعاً سابقاً. قد يكون هذا بسبب الوضع الذي نريد أن نكون فيه، لكنني لست ملتزماً في هذه المرحلة".

حاول البنك المركزي السويدي تسريع إنشاء ممر أسعار الفائدة من خلال استيعاب الأموال الفائضة داخل النظام المصرفي، ولكن هذا لا يزال عملاً قيد التقدم.

يكافح المسؤولون لجذب ما يكفي من الطلب، ونتيجة لذلك يظل مؤشر السوق مرتبطاً بشكل وثيق بسعر الفائدة المنخفض على الودائع، بدلاً من سعر الفائدة الرسمي للبنك المركزي السويدي.

لا عودة للميزانية العادية قبل 2028

لا يتوافق نظام الممر هذا بسهولة مع استئناف التيسير الكمي في أي أزمة مستقبلية، لأن خلق السيولة الفائضة من شأنه أن يدفع تكاليف الاقتراض إلى الحد الأدنى.

وأياً كان القرار الذي سيتخذه صناع السياسات في البنك المركزي الأوروبي، فإن الوقت يمضي بسرعة. ومن بين حيازات البنك المركزي الأوروبي من السندات البالغة 4.8 تريليون يورو، سيتم ترحيل نحو 333 مليار يورو ــ حوالى 7% ــ من الميزانية العمومية حتى سبتمبر المقبل. ومن المقرر أن تنتهي قروض أخرى مستهدفة طويلة الأجل بقيمة 491 مليار يورو بحلول نهاية عام 2024.

وقال باباديا: "التوقعات هي أننا سنعود إلى ما يشبه الميزانية العمومية العادية ربما في عام 2028 أو 2029. حتى ذلك الحين، ليس هناك فرصة كبيرة للحصول على شيء مختلف عن مقاربة الحد الأدنى. أعتقد أن السؤال حول الإطار الأمثل لا تمكن الإجابة عليه بالتأكيد إلا في المستقبل، ولكن من الجيد البدء في مناقشته".