هل يوشك العالم على الانهيار؟ اسألوا شعوب العصر البرونزي

رغم تطور حضارتنا، تواجه الشعوب حالياً مخاطر وجودية جديدة من صنع الإنسان لم يواجهها أسلافنا قبلاً

تمثال أوزيماندياس في معبد الرامسيوم، الأقصر
تمثال أوزيماندياس في معبد الرامسيوم، الأقصر المصدر: تشارلي فيليبس/ويكيميديا كومنز
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ثمة وجه آخر للتساؤل عمّا إذا كانت شعوب العصر البرونزي المتأخر تعلم أن حضارتها كانت على شفير الانهيار، وهو إن كنا نحن أنفسنا في الولايات المتحدة والعالم في المراحل الأولى من الانهيار، هل سندرك ذلك؟ وماذا سنفعل حياله؟

استحوذ انهيار المجتمعات على فكر المؤرخين وعلماء الآثار وخبراء علم الإنسان، بدءاً من المؤرخ اليوناني بوليبيوس في العصور القديمة وحتى إدوارد غيبون في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى مجموعة متنامية متعددة التخصصات من العلماء اليوم. هذا إلى جانب ظهور نوع كامل من أفلام نهاية العالم ذات الحبكات القاتمة على غرار فيلم "Mad Max" في هوليوود.

السؤال العلمي، الذي لم يحظ بإجابة قاطعة، هو ما إذا كنا سنواجه مصير هذه المجتمعات نفسه. بالنسبة للعالم جاريد دايموند، فقد يكون أولئك الأسلاف هم إسكندنافيو العهود القديمة في غرينلاند أو قاطنو جزيرة إيستر، أما بالنسبة لخبير علم الإنسان جوزيف تينتر، فهم الرومان في أواخر حقبة الإمبراطورية الرومانية، وشعب المايا، وشعوب حضارة شاكو.

بالنسبة لآخرين، مثل مؤلفي كتاب "كيف تنهار العوالم" (How Worlds Collapse)، فهذه المجتمعات هي شعوب العصر البرونزي المتأخر، وسلالات هان وجين في الصين، وشعوب الأزتيك ودولة كييف روس، بل وحتى نحل العسل (الذي بدأت مجتمعات الخلايا الخاصة به تنهار منذ عقود، منذرة بتداعيات هائلة على التلقيح وبالتالي على الغذاء والبشر).

تفسيرات الانهيار

الجزء الصعب هو تحديد أسباب هذه الانهيارات. قدّم أحد المؤرخين 210 تفسيرات مختلفة لسقوط الحضارة الرومانية الغربية. من حيث طبائعهم، يتنوع العلماء ما بين نموذج القنفذ، وبه يقصد من يركزون على أمر واحد كبير، ونموذج الثعلب، ويشير إلى واسعي المعارف.

غالباً ما تعكس أطروحات العلماء أيضاً الأفكار السائدة في عصرهم. ألقى غيبون، المفكر من عصر التنوير، باللائمة في سقوط روما على فقدان الفضائل المدنية التي ربطها بانتشار المسيحية. أما دايموند، الذي كتب في وقت أقرب لعصرنا، فهو يلقي باللوم في ما يتعلق بانهيار الحضارات التي درسها، على التدهور البيئي الذي تسبب فيه البشر. رغم أن هذا ليس خاطئاً في الأغلب، لكنه جزء من القصة الكاملة.

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب.. تغير المناخ هو الخطر الأكبر على تطور البشرية

هنالك مشكلة في التفسيرات أحادية السبب، وهي أن كل أنواع المجتمعات قد فقدت فضائلها أو دفعت بيئتها للتدهور، ومع ذلك تفادت الانهيار. لذا فإن الاتجاه العام عوضاً عن ذلك يتجه لينسب الانهيارات المجتمعية إلى "كل ما سبق من أسباب".

يتماشى ذلك أيضاً مع روح عصرنا وما يصاحبها من فكرة تعدد الأزمات الممجوجة. لا يعني ذلك سوى أننا لدينا مشاكل متداخلة شتى، من الاستقطاب السياسي وعدم المساواة إلى تغير المناخ والحرب والمجاعات والأوبئة والهجرة الجماعية. كانت هذه العوامل حاضرة أيضاً في الانهيارات التاريخية للحضارات.

ثمن التعقيد

هيمنت إحدى النظريات الشاملة على المجال. تنبع تلك النظرية من كتاب تينتر المؤثر بعنوان "انهيار المجتمعات المعقدة" (The Collapse of Complex Societies)، في 1988. كما يشير عنوانه، لاحظ تينتر أن الحضارات على مر العصور أضحت أعقد كي تتعامل مع ما يطرأ من مشاكل أو تحديات جديدة، من التوسع الإمبريالي إلى إمدادات الغذاء والاستقرار الاجتماعي.

وجمعت إدارات هذه الحضارات وهياكلها وبيروقراطياتها وتقنياتها وسلاسل إمدادها وغيرها من المؤسسات بين أجزاء أكثر انفصالاً وأدواراً متخصصة كان عليها أن تعمل معاً.

اقرأ أيضاً: انقضاء زمن العولمة مبالغة كبرى

للتعقيد ثمن يأتي على هيئة طاقة مادية واحتكاك إداري وغير ذلك. تبدو زيادات التعقيد في البداية معقولة التكلفة بل ومفيدة. لكن في نهاية المطاف، تبدأ قاعدة تخص العوائد الهامشية المتضائلة عن التعقيد بفرض نفسها، وتزداد صعوبة تحمل التكلفة، رغم أن ذلك تصعب رؤيته.

يتراجع المتاح من غذاء أو عمل أو (مثلما نشهد في عصرنا) الوقود الأحفوري، وتصبح الضرائب والرسوم مضنية وتتداخل تدفقات المعلومات أو تفسد، كما تتضاعف أوجه القصور. تصبح الحضارة هشة دون أن يدرك أعضاؤها ذلك بالضرورة.

وإذا بات مثل هذا المجتمع المعقد عرضة لصدمات خارجية أو داخلية، فقد ينهار. عادةً ما كانت الصدمات تشمل موجات الجفاف والمجاعات والأوبئة وموجات الهجرة والثورات والحروب الأهلية والغزو.

فكرة الانهيار

ما هو الانهيار؟ يرى تينتر أنه تبسيط غير مقصود وسريع يأتي متأخراً. تتفكك الإمبراطوريات أو الدول إلى وحدات أصغر، وتنحل سلاسل الإمداد وطرق التجارة، وينزح الناس عن المدن إلى الأرياف بحثاً عن الطعام أو ليزرعوا أغذيتهم بأنفسهم.

تنكمش التجمعات السكانية، وعادة ما يتبدد الأدب والتعلم، ويفسح النظام المجال لحكم أمراء الحرب والفوضى. لن يتحسر كل أعضاء المجتمع المنهار (كالعبيد مثلاً) بالضرورة على مثل ذلك التبسيط. لكن الأمر يبدو كئيباً بشكل عام.

إن الانهيار التاريخي الذي يبدو على نحو مفاجئ أكثر صلة بوضعنا الحالي هو أقدم الحالات التي ذكرتها. لذا طلبت من إريك كلاين، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب "1177 قبل الميلاد: العام الذي انهارت فيه الحضارة" (1177 BC: The Year Civilization Collapsed)، أن يفسر الأمر لي.

اقرأ أيضاً: سنفتقد العولمة لدى زوالها

كان العصر البرونزي المتأخر في غرب أوراسيا يشبه عالمنا من حيث أن منطقتي البحر المتوسط والشرق الأوسط كانتا "محور العالم". كان الميسينيون والمينويون والقبارصة والمصريون والحيثيون والكنعانيون والآشوريون والميتانيون والأناضول وغيرهم من الشعوب، يتاجرون في سلاسل إمداد معقدة ومترابطة تضمنت كل السلع من النبيذ والحبوب إلى الصنادل. جاءت الفضة من اليونان، والذهب من السودان المصري، والنحاس من قبرص، والقصدير (المهم لصناعة البرونز) من أفغانستان.

لكن حجم التعقيد ازداد في بعض هذه المجتمعات وكذلك حضاراتها المشتركة. لم يعد أي شخص قادراً على تحقيق الاكتفاء الذاتي، واعتمد الجميع على النظام بأكمله ليواصلوا العمل. هذا إلى جانب أن النخبة في موكناي والأناضول وغيرهما لم يستغلوا الطبقات الأفقر فحسب لتحميلها التكلفة المرتفعة لازدياد التعقيد، لكنهم أيضاً تقاتلوا في ما بينهم حول العوائد الاقتصادية المتبقية. أصبحت المجتمعات والمنظومة بأكملها هشةً، رغم غياب الأدلة على أن الناس كانت تدرك المخاطر.

صدمات مختلفة

ثم وقعت الصدمات. كانت إحداها موجة جفاف طويلة الأمد تسببت بمجاعات. وجاءت صدمة أخرى على هيئة وباء (يُرجّح أن الملك رمسيس الخامس من مصر مات بسبب الجدري). بعد ذلك، غالباً كنتيجة لما حدث، بدأت هجرات جماعية سمتها الدول التي استقبلتها آنذاك غزوات مثلما تسميها الدول حالياً.

آنذاك، سُمّي المهاجرون الذين جاؤوا من أنحاء منطقة البحر المتوسط شعوب البحر (وكان من ذريتهم فلستيو غزة، الذين اكتسبت فلسطين اسمها منهم لاحقاً). وأخيراً وقعت زلازل كبرى.

اقرأ أيضاً: العالم يخسر ببطء الأراضي التي يحتاجها للغذاء

قصة حرب طراودة هي قصة الانهيار التي تتقاطع مع هذه الحقائق التاريخية والأساطير. ويعتقد بعض العلماء أن حصان الإغريق، المرتبط مع بوسيدون الذي اعتبره الإغريق إلهاً للبحر، كان يرمز في الحقيقة إلى زلزال. لكن الانهيار، أينما بدأ، هدم كل الحضارات المعروفة، وذلك لأنها كانت مرتبطة ببعضها البعض.

قال كلاين إن الوحدات الكبيرة تتفتت إلى أجزاء خلال جيلين أو ثلاثة أجيال. توقف تدفق التنسيق والمعلومات والتجارة، وتراجعت الفنون والقدرة على القراءة والكتابة، كما انكمش التعداد السكاني. أضحت الأمور أكثر بساطة بكثير فجأة. وصفت الأجيال اللاحقة تلك البساطة بأنها أول العصور المظلمة.

مخاوف حالية

أخبرني كل من كلاين وتينتر أنهما يريان مخاوف موازية اليوم. أصبحت مجتمعاتنا واقتصاداتنا الأعقد (وبالتالي الأعلى تكلفة) في التاريخ، ونحن فيما يبدو غير قادرين على التبسيط طواعية. إننا في موسم الضرائب في الولايات المتحدة حالياً، وهذا يجعل ما ذكرته مفهوماً بين الأميركيين دون إطالة شرح.

لدينا صراع بين النخبة (يُسمى الاستقطاب) وعدم مساواة. كما أن عالمنا يواجه صدمات خارجية مثل متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد "سارس" (SARS) وفيروس "كوفيد-19"، وتغير المناخ، والفيضانات، والحرائق، وموجات الجفاف، إلى جانب المجاعات التي يتسبب فيها كل من الاحتباس الحراري والحروب. لدينا أيضاً موجات هجرة جماعية من الجنوب العالمي إلى أوروبا والولايات المتحدة، كما نشهد كثيراً من الحروب.

اهتم تينتر على نحو خاص حديثاً بالصدوع في سلاسل إمدادنا العالمية، لأشباه الموصلات على سبيل المثال، سواء كانت نتاج الجائحة أو الحربين في أوكرانيا أو البحر الأحمر. يعتقد كلاين أن المعادل الحديث للقصدير في العصر البرونزي قد يكون الليثيوم أو المعادن النادرة.

اقرأ أيضاً: اضطرابات البحر الأحمر تفاقم مشكلات إمدادات الغذاء العالمية

إذا تعطلت تدفقات تلك المواد، سنبدأ بالتناحر. ويعتقد كل من تينتر وكلاين أننا مثل الشعوب في الماضي لا نفهم آليات معطيات الأداء في الأنظمة التي نعتمد عليها، وهو ما قد يسبب تقلبات "لا خطّية"، أي كارثية.

مخاطر وجودية جديدة

نحن نتمتع ببعض الميزات مقارنةً بأسلافنا، كالتقنية والعلوم الأكثر تطوراً وبقدر أكبر من الوعي الذاتي على الأرجح. لكننا نعيش أيضاً مع مخاطر وجودية جديدة من صنع الإنسان لم يواجهها أسلافنا قبلاً، وهي الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وفوق كل ذلك النووية، إلى جانب بزوغ الذكاء الاصطناعي الذي قد يبدأ تطوير أفكاره بنفسه. في تلك الأثناء، من زاوية الحكمة، يبدو منحنى تعلُّمنا على مدى الألفيات الثلاث الماضية مسطحاً.

الانهيار لا يعني النهاية أبداً. في العصر المظلم الأول، تعلَّم الناس في نهاية المطاف كيف يستخدمون الحديد، كما تفوقت بعض الشعوب مثل الفينيقيين في مجالات جديدة متخصصة، إذ وحّدوا الحروف الأبجدية وزرعوا بذور مجد البشر المتجدد. سألني كلاين دون أن ينتظر مني إجابةً: "هل نحن فينيقيون أم ميسينيون؟ هل سنتأقلم أم سنختفي؟ وكل ما فكرت فيه كان أنني أفضّل ألا يكون هناك انهيار إطلاقاً".