بلومبرغ: السعودية ترتب أولوياتها لمواجهة تحديات تمويل المشاريع العملاقة والميزانية

البيانات الأولية تشير إلى أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في 2023 قارب 19 مليار دولار وهذا أقل من التوقعات

شاشتان تعرضان فيديوهات ترويجية لمشروع "نيوم" خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا
شاشتان تعرضان فيديوهات ترويجية لمشروع "نيوم" خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تجمّع نخبة من رجال الأعمال والسياسة في السعودية العام الماضي في أحد الأجنحة اللامعة على الساحل الغربي للمملكة احتفاءً بواحد من أكثر رهانات ولي العهد محمد بن سلمان جرأة حتى الآن.

حينها، خرجت أول سيارة كهربائية يتم تجميعها في السعودية بالتعاون مع "لوسيد غروب" تحت أضواء المصنع المصمم ليظهر للعالم كيف يمكن لبلد يعتمد على النفط أن يجذب رأس المال الأجنبي ليصبح مركزاً عالمياً لصناعات المستقبل.

لكن الواقع أكثر تعقيداً؛ إذ يزداد استهلاك "لوسيد" للأموال السعودية ليستمر نشاطها. وحصلت الشركة التي يقع مقرها في كاليفورنيا الشهر الماضي على دعم مالي من المملكة بقيمة مليار دولار، فضلاً عن 5.4 مليار دولار ضخها فيها صندوق الاستثمارات العامة السعودي قبل ذلك.

اعتماد على رأس المال المحلي

"لوسيد"، التي يعد صندوق الاستثمارات العامة السعودي أكبر مساهميها، تعتبر مثالاً للشركات الأجنبية التي تستثمر في خطة المملكة للتحول الاقتصادي "رؤية 2030" التي تبلغ تكلفتها تريليونات الدولارات. لكن حاجة الشركة للتمويل السعودي تمثل علامة على أن محاولة البلاد المتعجلة للتجديد تُدفع من جيبها، في ظل اعتمادها الكبير على ثروتها النفطية لجذب الشركات.

وترى كارين يونغ، محللة الاقتصاد السياسي المختصة في شؤون الخليج بمركز سياسة الطاقة العالمية التابع لجامعة كاليفورنيا، أن "الحكومة اضطرت إلى منح لوسيد حوافز ضخمة لتأتي إلى البلاد".

اقرأ أيضاً: عدد المشروعات الأجنبية الجديدة في السعودية يرتفع 63% العام الماضي

يوضح ذلك أيضاً التحديات التي تواجهها الشركات الأجنبية في السعودية التي لديها خبرة قليلة في التصنيع الدقيق أو الصناعات الثقيلة بعيداً عن قطاع النفط.

وفي تصريح أرسل إلى بلومبرغ، قال بيتر رولينسون الرئيس التنفيذي للشركة إن "(لوسيد) ملتزمة تماماً بالشراكة طويلة الأجل مع صندوق الاستثمارات العامة ودعم أهداف (رؤية 2030). فالشركة تخلق حالياً المئات، وفي نهاية المطاف الآلاف، من فرص العمل الجديدة للمواهب السعودية".

لم يرد صندوق الاستثمارات العامة على طلب الحصول على تعليق.

لطالما أدركت المملكة أن متطلبات التمويل لديها ستلبيها الأموال المحلية بشكل أساسي، وجزئياً فقط الأموال الأجنبية. ورغم ذلك، فإنها تريد أن يبلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر 100 مليار دولار سنوياً بحلول 2030. أي حوالي 3 أضعاف ما حققته على الإطلاق، وأكثر بنحو 50% مما يتدفق على الهند حالياً.

في الفترة ما بين 2017 و2022، بلغ المتوسط السنوي لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المملكة أعلى قليلاً من 17 مليار دولار. وتظهر البيانات الأولية لعام 2023 أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر كان أقل من المستهدف، وبلغ 19 مليار دولار تقريباً، وفق بيان من وزارة الاستثمار.

هدف السعودية لاستقطاب الاستثمار الأجنبي بحلول 2030
هدف السعودية لاستقطاب الاستثمار الأجنبي بحلول 2030 المصدر: بلومبرغ

ويبدو أن تحقيق هدف العام 2030 بعيد المنال في الفترة الحالية؛ إذ ما يزال المستثمرون الأجانب حذرين، وفق ما أفاد به مصرفيون ومحامون يقدمون المشورة للمستثمرين، وأشخاص مطلعون على جهود المملكة لجمع التمويل.

أدركت الحكومة ذلك خلال تقييمها احتمال التمويل الذاتي لجزء أكبر من خطة التحول الاقتصادي خلال الإطار الزمني المحدود المتبقي، وقد شرعت في خفض الإنفاق على المشروعات الضخمة الرامية إلى تجديد اقتصادها البالغ حجمه 1.1 تريليون دولار. كما أصدرت سندات بمليارات الدولارات، ما سيساعدها على سد فجوة العجز المالي التي لم تتوقعها حتى أواخر العام الماضي.

وسيكون لطريقة استغلال الحكومة لمواردها المالية تبعات على استثماراتها المحلية والخارجية، وكذلك على السياسات النفطية التي تحدد أوضاع الأسواق العالمية.

مشاريع باهظة التكلفة

تسعى الحكومة السعودية إلى أن ينقل المستثمرون الأجانب الخبرات إلى البلاد وأن يسهموا في تمويل المشاريع الضخمة مثل "نيوم" الذي تبلغ تكلفته 500 مليار دولار الذي يهدف إلى تحويل المنطقة النائية في شمال غرب البلاد إلى مركز متطور تكنولوجياً خالٍ من الانبعاثات الكربونية وحافل بالروبوتات.

اقرأ أيضاً: "نيوم" تفتتح مكتباً في نيويورك لجذب شراكات وفرص استثمارية

وبينما شرع "نيوم" في التسويق والجولات الترويجية للمستثمرين، لم يحرز المشروع تقدماً كبيراً في جمع التمويل حتى الآن، وفق أشخاص مطلعين على الأمر.

التحديات لم تقتصر على المشروعات الممتدة على الشريط الساحلي الأقل تنمية فحسب؛ فبالقرب من العاصمة الرياض، حصلت مدينة "القدية" الترفيهية على تعهدات بإنفاق أكثر من تريليون ريال. لكن التمويل يأتي بدعم كامل من صندوق الاستثمارات العامة وشركة تطوير عقاري سعودية يملكها الصندوق، وفق شخصين مطلعين على المشروع.

ويرى ديفيد دوكينز من شركة بيانات الاستثمار "بيركن"، التي تحلل التوجهات السعودية، ومقرها في لندن، أن المشاريع السعودية "باهظة التكلفة" ويقول: "إذا لم يكن لدينا دليل واضح على المزيد من التمويل بنهاية العام، فسيجدر بنا التساؤل من أين ستأتي الأموال لهذه المشاريع".

أثار التأخير في الموافقة على اللوائح الخاصة بـ"نيوم" تساؤلات المستثمرين،. ويقول العديد منهم إن ترددهم في الالتزام بضخ المال في المملكة غالباً ما يكون بسبب قوانين غير واضحة وغير مجربة تحكم العقود والاستثمار.

لكن هناك علامات على أن جهود جذب المزيد من رأس المال الخارجي تكتسب الزخم، حيث تم إبرام 232 اتفاقية استثمار في 2023، يتضمن أغلبها استثمارات أجنبية كبيرة ربما يبدأ احتسابها في بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر في 2024، وفق ما ورد في بيان صدر عن وزارة الاستثمار.

وفي الآونة الأخيرة، كانت وحدة الخدمات السحابية التابعة لشركة "أمازون" على رأس مجموعة من الشركات التي وافقت على استثمار أكثر من 10 مليارات دولار في مراكز البيانات السعودية.

تقليص وعاء التمويل

لكن الحكومة التي تنفق بوتيرة سريعة تكثف جهودها لجذب المزيد من الأموال من الخارج. وقد طلبت من دولة الكويت تمويلاً يزيد عن 16 مليار دولار لمشروعات من بينها "نيوم"، في وقت سابق من هذا العام، وفق أشخاص مطلعين على الأمر.

والتحدي بالنسبة للمملكة هو طموحات مترادفة مع "رؤية 2030". فعلى الرغم من إبرام "إير برودكتس" الأميركية اتفاقيات لتأسيس مشروعات مشتركة في "نيوم"، ما زالت المملكة مسؤولة عن تمويل ما يقرب من كامل تكلفة المشروع، أي ما يعادل نحو نصف ناتجها الاقتصادي الحالي.

اقرأ أيضاً: حسابات الربح والخسارة في تحويل أسهم من أرامكو للصندوق السيادي السعودي

وفي هذا الشأن تقول مونيكا مالك كبيرة المحللين الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري إن "الأمر ما زال في حقيقته نموذج تنمية يقوده القطاع العام". وأن السعوديين "يستخدمون كل قدراتهم المالية حالياً لدعم خطة التحول هذه، وأتوقع أن تظل في المرحلة المقبلة خطة تنمية تمولها السعودية بشكل أساسي".

ستتردد أصداء طريقة إنفاق السعودية للأموال في أنحاء العالم، حيث يمتد وجودها الاستثماري حالياً في مجالات عدة منها مطار في لندن والغولف والملكية الخاصة، ما يجعلها مصدر تمويل بالغ الأهمية للبنوك الأميركية والحكومات على حد سواء. وستعتمد المملكة في سد فجوة التمويل المحلية على كسب الأموال بالطريقة التي لديها خبرة كبيرة فيها وهي النفط.

يشير إدراك تلك الحقيقة إلى بداية نهج سيرسخ القدرة على الإنفاق في يد صندوق الاستثمارات العامة، الذي نقلت إليه الحكومة في الآونة الأخيرة حصة أخرى بقيمة 164 مليار دولار في "أرامكو" السعودية، والتي سينجم عنها توزيعات أرباح تبلغ 20 مليار دولار على الأقل هذا العام لصالح الصندوق.

الاحتياطيات الأجنبية السعودية تراجعت بنحو النصف منذ عام 2015
الاحتياطيات الأجنبية السعودية تراجعت بنحو النصف منذ عام 2015 المصدر: بلومبرغ

ويرى محمد أبو باشا مدير البحوث في بنك الاستثمار "إي إف جي هيرميس"، ومقره في القاهرة، أن هذه الخطوة في الأساس بمثابة "جمع تمويل من جهة حكومية على حساب جهة أخرى"، وأن ذلك يظهر اعتماد المملكة المستمر على أسعار النفط لدعم خططها لتنويع الاقتصاد.

ويُرجح أن تؤيد المملكة قرارات تحالف "أوبك +"، الذي تقوده مع روسيا، للمحافظة على اتفاق خفض إنتاج النفط لمدة أطول، والذي ساعد في رفع الأسعار، بحسب جان ميشيل صليبا المحلل الاقتصادي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "بنك أوف أميركا".

لكن على الرغم من أن التخفيضات قيدت العرض، ما تزال الأسعار أدنى مما يحتاجه ولي العهد لتمويل طموحاته الكبرى. فعند الأخذ في الحسبان الإنفاق المحلي من قبل صندوق الاستثمارات العامة، تحتاج المملكة إلى أن يبلغ سعر النفط 108 دولارات للبرميل على الأقل لتوازن ميزانيتها، وفق "بلومبرغ إيكونوميكس". ورغم ارتفاع سعر خام برنت في الأسابيع الماضية، إلا أنه ما يزال أقل من 90 دولاراً للبرميل.

الحذر من فجوة التمويل

لقد تأثر صندوق الاستثمارات العامة بالفعل. فعلى الرغم من سيطرته على أصول تقدر قيمتها بحوالي 900 مليار دولار، لكن احتياطياته النقدية بلغت 15 مليار دولار فقط في سبتمبر 2023.

استخدم الصندوق فيما مضى حوالي 30% من رأس ماله في استثمارات عالمية، ويهدف حالياً لاستثمار ما بين 20% و25%، إلا أنه ما يزال من المتوقع أن ترتفع النسبة النهائية للاستثمار بمرور الوقت، وفق محافظه ياسر الرميان، الذي قال في فبراير الماضي: "ستستمر استثماراتنا على الصعيد العالمي، لكننا نركز حالياً على مشروعاتنا في المملكة".

اقرأ أيضاً: مليارا دولار حصة متوقعة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة من عقود "إكسبو الرياض"

كما أقر وزير المالية محمد الجدعان أيضاً بوجود عجز تمويلي، وألمح إلى إصدار مزيد من السندات. الجدعان عضو في لجنة يرأسها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تدرس الاحتياجات المالية الهائلة لـ"رؤية 2030" وتضبطها وفق الإيرادات المتوقعة للمملكة.

وقال الجدعان في بودكاست "سقراط" على منصة "ثمانية": "كانت هناك فجوة. وسميناها دراسة الفجوة". وأضاف أن التأجيل والتخلي عن بعض المشروعات سيسد تلك الفجوة، دون الخوض في تفاصيل.

يشكل ذلك مفترق طرق لبعض من أكثر مشاريع السعودية طموحاً. قد يبدأ إعطاء الأولوية للمشروعات في الرياض المقرر أن تستضيف "إكسبو 2030"، وقد تشهد مشروعات أخرى مثل "لوسيد" التزام المملكة بمزيد من التمويل، عوضاً عن خفضها. تنظر المملكة للأمر على أنه جزء من خطة أكبر لبناء سلسلة توريد للسيارات، والتي يتعاون فيها صندوق الاستثمارات أيضاً مع "هيونداي موتور" وموردين آخرين مثل صانعة الإطارات الإيطالية "بيريللي".

لكن أحلام "رؤية 2030" الأخرى ستتلاشى أو يتم تقليصها، وفق أشخاص مطلعين على الأمر. وعن ذلك قال الجدعان: "كان بعضها استراتيجيات. وقلنا لأنفسنا: نحن فعلياً لا نحتاج إلى الإنفاق عليها".