قوة الاقتصاد العالمي تعمي عن تنامي الدين والتفاوت بين الدول

الدول الفقيرة تأثرت بصدمات جلبها تغير المناخ وأعباء الديون الثقيلة والزيادات الهائلة في أسعار الغذاء

صورة تعبيرية عن تغير المناخ
صورة تعبيرية عن تغير المناخ المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تشير التوقعات التي تزداد تفاؤلاً بشأن الوضع الاقتصادي في 2024 حتى الآن إلى أن العالم يتجه نحو هبوط سلس. لكن لسوء الحظ، فإن هذا العالم ذاته متجه نحو تزايد المخاطر والانقسامات والديون والتفاوتات.

إن أسباب التفاؤل على المدى القريب واضحة، فقد تحدى الاقتصاد الأميركي القوي التوقعات بأن مسلسل رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة سيؤدي إلى ركود، وبدأ اقتصاد المملكة المتحدة، الذي واجه تحولاً نزولياً في نهاية العام الماضي، يعاود النمو، كما يظهر تحسن في القطاع الصناعي في ألمانيا.

أما في الصين المثقلة بالديون، فقد كان إنفاق السياح المحليون لكل رحلة أكبر خلال عطلة رأس السنة القمرية مما كان خلال 2019، وتلك هي الزيادة الأولى منذ الجائحة، كما بدأ النشاط الصناعي ينمو بعض الشيء.

ستنعكس هذه السردية المتفائلة على ما تشير التوقعات إلى أنه سيكون تحديث صندوق النقد الدولي لتوقعات نمو أغلب الاقتصادات الكبرى خلال اجتماعات الربيع المنعقدة حالياً في واشنطن. تتوقع بلومبرغ إيكونوميكس حالياً أن ينمو الاقتصاد العالمي 2.9% في 2024 مقارنة مع توقعات نهاية 2023 لنمو قدره 2.7%.

صورة غير مطمئنة

لكن إن نظرت إلى ما هو أبعد من الشعور الجمعي بالارتياح لأن حملة المصارف المركزية لكبح التضخم لم تتسبب بارتفاع التكاليف، ستجد صورةً عامةً أقل إيجابية. سيتبدى لك عالم مثقل بالمخاطر السياسية والجيوسياسية، مثلما تكشف التوترات المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، إذ تلوح في الأفق تداعيات اقتصادية تطال الجميع.

يرى كارلوس كويربو، الذي تولى وزارة الاقتصاد في إسبانيا في ديسمبر "أن الصورة ليست وردية جداً" بالنسبة لاقتصاد عالمي ينخرط الآن في عملية "إعادة تشكيل" كبرى مدفوعة بالعوامل الجيوسياسية والتحول التقني.

مجموعة العشرين: تزايد فرص الهبوط السلس للاقتصاد العالمي

قال كويربو إن اقتصاد إسبانيا خرج من الجائحة بحالة جيدة وبدأ يتعامل مع المشاكل الهيكلية طويلة الأمد. لكن الأوضاع خارج حدود البلاد تبدو أشد إبهاماً. قال: "على المدى القريب، أنا أكثر تفاؤلاً بإسبانيا مما يحدث على المستوى العالمي، أو حتى على مستوى الاتحاد الأوروبي. هذا مؤكد".

ما يثير مخاوف صنّاع السياسات مثل كويربو هو أن إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، فيما تتكتل الدول على أسس جيوسياسية وتتعامل مع التغيرات الفجائية التقنية مثل الذكاء الاصطناعي، يهدد بنمو أبطأ إجمالاً وبتركّز المكاسب لدى قلة من الدول الغنية. في السنوات الخمس التي سبقت الجائحة، كان متوسط النمو العالمي 3.4%، وهي نسبة معقولة. لكن صندوق النقد الدولي يحذر الآن من أن معدل النمو على مدى السنوات الخمس المقبلة يُرجح أن يكون الأضعف خلال أكثر من ثلاثة عقود.

التفكير في المستقبل

تأثرت الدول الفقيرة بشدة بالصدمات الناتجة عن تغير المناخ، وأعباء الديون الثقيلة التي تضغط على الإنفاق الحكومي، والزيادة الهائلة في أسعار الغذاء، التي سببتها جزئياً حرب أوكرانيا. يغذي هذا المزيج ازدياد معدلات الهجرة بما يزعزع السياسة في الدول الأثرى.

قال موريس أوبستفلد، أحد كبار الاقتصاديين السابقين في صندوق النقد الدولي الذي كان أيضاً مستشاراً للرئيس باراك أوباما، إن الاقتصاد العالمي "في وضع يعتبر جيداً حالياً، لكنه ليس وضعاً قوياً". بعيداً عن تغير المناخ والحروب وتزايد الانقسام الجيوسياسي، تشمل القضايا التي تثير خشية أوبستفلد، الذي يعمل حالياً لدى معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فكرة ما إذا كانت الثورات التقنية مثل الذكاء الاصطناعي تغذي فقاعات أصول ستنفجر في نهاية المطاف.

هل سيؤثر الذكاء الاصطناعي على أسعار الفائدة الحقيقية؟

حتى في وول ستريت، حيث دفعت الحماسة حول احتمالات التحول الكبرى التي قد يتيحها الذكاء الاصطناعي مؤشر "إس أند بي 500" للارتفاع بأكثر من 5.3% منذ بداية العام، يتوخى بعض الاقتصاديين الحذر فيما يخص الصورة الأشمل. يتوقع محللو "سيتي غروب" نمواً ضعيفاً للاقتصاد العالمي هذا العام يبلغ 2.1%، كما أنهم ما يزالون متشائمين فيما يتعلق بالمشاكل التي سيجلبها إبقاء أسعار الفائدة مرتفعةً لفترة طويلة.

أشار اقتصاديو "إتش إس بي سي" إلى زيادة حجم التجارة العالمية، لكنهم حذروا من أن "هذا كله يحدث في ظل صراعات وتوترات جيوسياسية، وهو ما قد يعني مزيداً من المفاجآت لاحقاً". يلوح احتمال وصول سعر برميل النفط إلى 100 دولار في الأفق من جديد، فيما تشير توقعات محللي بلومبرغ إيكونوميكس إلى أن وقوع حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران سيدفع العالم نحو الركود.

نهاية حقبة

إحدى الأفكار المثيرة للقلق التي تدور في الاجتماعات الدولية، مثل اجتماعات واشنطن، هي أن أزمة فيروس "كوفيد-19" أنهت بشكل سابق لأوانه حقبة تقارب اقتصادي استمرت لعقود وشهدت تقلص الفارق بين الدول الغنية والفقيرة. وفقاً للبنك الدولي، فإن عدد من عاشوا فقراً مدقعاً في 2022 بلغ 712 مليون إنسان، إذ عاشوا على أقل من 2.15 دولار في اليوم، وتلك زيادة قدرها 23 مليون إنسان عن عددهم في 2019.

خلال حديثها إلى موظفي صندوق النقد الدولي وأعضاء مجلس إدارته في 3 أبريل، قالت كريستالينا غورغييفا، المديرة العامة للصندوق، إن مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول منخفضة الدخل، وعددها 69، أقل 10% حالياً مما كان سيكون عليه لولا الجائحة، وإن تكاليف خدمة الدَّين التي تلتهم الميزانيات الحكومية تعيق اقتصادات هذه الدول. قالت غورغييفا: "في ضوء تباطؤ النمو، فإن فرص اللحاق بالركب قد ساءت. هنالك دول تواجه فعلاً مسألة حياة أو موت، وصعوبات اقتصادية واجتماعية".

غورغييفا تستهل ولايتها الثانية بتحديات موروثة وتفاقم الضبابية في اقتصاد العالم

قال الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش، وهو مسؤول سابق في البنك الدولي وخبير في قضايا عدم المساواة على مستوى العالم، إنه من السابق لأوانه أن نستنتج أن التقارب انتهى، لكنه أوضح أن تقليص التفاوت بين الاقتصادات المتقدمة والنامية أضحى أصعب بكثير.

تأتى كثير من المكاسب على تلك الجبهة على مدى ثلاثين إلى أربعين عاماً مضت من صعود الصين. قال ميلانوفيتش إنه في ضوء أن الصين تُصنّف حالياً كدولة متوسطة الدخل من الشريحة العليا، فإن استمرار التحسن في مستويات المعيشة هناك يرفع مستوى التفاوت على مستوى العالم.

بيّن ميلانوفيتش إن التفاؤل تجاه وضع الاقتصاد العالمي اليوم يتطلب أن نؤمن بأن الحرب في غزة وفي أوكرانيا تشرف على الانتهاء، وأن الولايات المتحدة والصين تتجاوزان توتراتهما، وأن روسيا توشك أن تصبح أقل عدوانية على الساحة العالمية. وقال إن افتراض أي من ذلك يعتبر "بطولياً".

تأثير الحروب التجارية

إن الدلائل تشير إلى أن هناك حروباً تجارية جديدة تنشأ. تستخدم بكين كل الوسائل المتاحة لها لدعم إنتاج المركبات الكهربائية والألواح الشمسية وتصديرها، ولأن تلحق بركب الريادة في تقنية أشباه الموصلات. يثير ذلك استياء الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية، التي تستثمر مليارات الدولارات في برامج تستهدف خفض اعتمادها على الصين.

خلال زيارة للصين في وقت سابق من هذا الشهر، حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من أن "الصين أكبر من أن تحقق نمواً سريعاً عبر الصادرات... إن كانت السياسات تهدف لتوليد العرض دون الطلب، فسيترتب على ذلك تداعيات عالمية".

ماذا يعني اتساع حرب غزة لاقتصاد العالم وأسعار النفط؟

لم تلوح يلين بالعصا في وجه الصين، علناً على أقل تقدير، لتحض على تغيير في نهج الصين. لكن إن عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فقد لا يكون وزير الخزانة التالي بمثل لباقة يلين. طرح الرئيس السابق فكرة فرض رسوم جمركية قدرها 60% على البضائع الصينية، وهي نسبة تكفي للقضاء على التجارة البينية، وفقاً لحسابات بلومبرغ إيكونوميكس.

فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقات في صادرات الصين من المركبات الكهربائية، رغم أن ساسته ما يزالون يتذمرون بشأن جهود إدارة بايدن نفسها لزيادة إنتاج الولايات المتحدة من السيارات الهجينة القابلة للشحن. ثمّة مخاوف أيضاً في واشنطن من أن شركات تصنيع السيارات الصينية وغيرها تفتتح مصانع في المكسيك كوسيلة لتخطي الحواجز الأميركية المفروضة على المنتجات الصينية.

تفاوتات متزايدة

ترسخت في البلدان الغنية السياسات الصناعية المدفوعة جزئياً بتشكيك متزايد بمنافع العولمة، ويُرجح أن تكون هناك تداعيات على الدول الفقيرة، التي استفاد كثير منها بقوة من انتشار سلاسل الإمداد العابرة للحدود. قد يؤدي الدعم الذي تقدمه الدول الغنية لتشجع الاستثمار المحلي إلى تراجع الاستثمار في دول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى وغيرها من المناطق التي تأمل في جذب التصنيع والنمو.

قال إسوار براساد، خبير التجارة في جامعة كورنيل ومعهد "بروكينغز": "يمكن أن تُحرم البلدان الأفقر والأقل تقدماً من منافع العولمة مع توجه الاقتصادات الكبرى نحو الداخل، ومع تشتيت التدفقات التجارية والمالية لتتوافق مع الصدوع الجيوسياسية المتعمقة".

خمسة تحديات قد تنحرف بالاقتصاد العالمي عن مساره

أحد أهم دوافع تزايد الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة هو الفجوة المتوسعة بين الفرص الاقتصادية المتاحة في بعض مناطق أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى ومناطق أميركا والوسطى وآسيا وتلك المتاحة في أغنى اقتصادات العالم. قال فؤاد حسين، نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي، للصحفيين خلال زيارة إلى واشنطن في 26 مارس: "بالنسبة للفقراء حول العالم، يزداد الوضع صعوبةً. سيؤدي ذلك إلى الهجرة، وسيسبب قلاقل اجتماعية".

كان يُفترض أن يكون 2024 هو عام خفض أسعار الفائدة، وهو ما يمثل مصدر قلق آخر للحكومات وأنشطة الأعمال والمستثمرين. لكن عوضاً عن ذلك، تسلك بعض المصارف المركزية في الاقتصادات المتقدمة نهجاً أكثر حذراً في ضوء صدور تقارير تبين استمرار ضغوط الأسعار. على سبيل المثال، دفع ارتفاع حديث في التضخم في الولايات المتحدة بعض مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي إلى الإشارة إلى أنهم قد ينتظرون حتى العام المقبل لخفض أسعار الفائدة.

تدهور أوضاع الدول منخفضة الدخل

إن تحفُّظ المصارف المركزية سيكون له تداعيات على عالمٍ غارق في الديون. تنفق بعض البلدان منخفضة الدخل 13% من ناتجها المحلي الإجمالي على تكاليف خدمة الدَّين، وفقاً لصندوق النقد الدولي، أي أربعة أمثال نسبة 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي التي ستذهب لفوائد ديون الحكومة الفيدرالية الأميركية هذا العام. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 3.3 مليار شخص يعيشون في بلدان تنفق فيها الحكومات على الفوائد أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة.

تواصل الديون تراكمها، وتتوقع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن إجمالي السندات الحكومية التي أصدرتها الدول الأعضاء الغنية، وعددها 38، سيرتفع بمقدار تريليوني دولار وصولاً إلى 56 تريليون دولار هذا العام، وهو أعلى مستوياتها على الإطلاق. قال هارولد جيمس، المؤرخ لدى جامعة برينستون: "نحن ما نزال نفكر بعقلية أن كل شيء بلا مقابل، ولذا بإمكاننا أن نفعل كل شيء في آن معاً، كما أننا لم ندرك بعد أن هناك مقايضات مطلوبة".

صندوق النقد: التوترات بين أميركا والصين تعزز اقتصادات "الربط"

حاججت ورقة بحثية نشرها صندوق النقد الدولي حديثاً بأن ظهور اقتصادات مثل المكسيك والمغرب وفيتنام التي تعمل كحلقات وصل بين الدول العظمى، قد جلب قدراً من القوة إلى شبكات التجارة. في الحرب الباردة خلال القرن العشرين، لم تهتم دول عدم الانحياز سوى بشؤونها الخاصة. أما في نسختها خلال القرن الحادي والعشرين، وجد باحثو صندوق النقد الدولي أن تلك الدول أكثر ترجيحاً لأن تستغل العوامل الجيوسياسية لتحقيق المنفعة الاقتصادية والربط بين التكتلات.

هل يمكن تحقيق التوازن؟

قال الوزير الإسباني كويربو أنه حتى العالم الذي يعيد تنظيم نفسه في تكتلات بإمكانه أن يواصل التجارة والاستثمار، طالما أن دولاً كبلاده تتفادى إغراء "وجهات النظر الحمائية البسيطة". يحرص كويربو على توسيع العلاقات مع أميركا اللاتينية وإبرام صفقة في نهاية المطاف بين الاتحاد الأوروبي ودول تكتل السوق المشتركة الجنوبية "ميركوسور" بقيادة الأرجنتين والبرازيل. قال: "علينا أن نكون استراتيجيين جداً من حيث تموضعنا كدولة أو قارّة".

الأمم المتحدة تتوقع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى 2.4% في 2024

لكن إيجاد توازن جديد قد يستحيل إذا عززت الحكومات نزعاتها القومية الاقتصادية. في ضوء صدارة ترمب في استطلاعات الرأي مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية، وتحقيق شعبويين آخرين مكاسب في أوروبا، يبدو المستقبل أميل للضبابية من التفاؤل وقد ينطوي على احتمالات فوضوية بالنسبة لمن يتمنون أن يكون السلام الأوسع في متناول اليد.

قالت آن كروغر، إحدى كبار الاقتصاديين سابقاً في البنك الدولي وتعمل الآن لدى جامعة جونز هوبكنز: "إن اقتران العوامل الجيوسياسية الحالية مع الوضع السياسي العصيب في الولايات المتحدة، من شأنه أن يطرح احتمالات مفزعةً بحق".