تشهد الأسواق حالة من الاضطراب في التعامل مع ما أصبح أزمة تحدث كل عقد في مصر أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان.
سيقيّم بنك "جيه بي مورغان تشيس آند كو" خلال 3 إلى 6 أشهر، مدى صلاحية بقاء مصر على مؤشره للسندات، وذلك عقب قراره الأسبوع الماضي بوضع السندات المصرية المدرجة على مؤشره في قائمة المراجعة السلبية.
جاء هذا القرار بعدما اشتكى مستثمرو السندات الحكومية من عقبات أمام الحصول على عملات أجنبية. وقبل ذلك بشهر، قالت وكالة "موديز إنفستورز سيرفس" إنها توسع نطاق المراجعة لخفض التصنيف الائتماني لمصر.
لكن بعض الجهات لم تُصدر كلمتها النهائية بعد بحق توقعات الاقتصاد المصري، وعلى رأسها "صندوق النقد الدولي"، وذلك بعد نحو عام من تمديد حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار. لم يكمل الصندوق مراجعته الأولى للبرنامج الاقتصادي في مصر، وهو تأخير حاسم لحكومة تواجه صعوبات في الوصول أسواق رأس المال الخارجية، وغير قادرة الآن على استلام الشريحة التالية من قرض صندوق النقد.
ديون مصر تثير شكوك المستثمرين
يتشكك مستثمرو السندات في مصر حول مدى قدرة الدولة التي تعاني من ضائقة مالية على تأمين الأموال التي تحتاجها، خاصة بعدما شهدت واحدة من أكبر موجات بيع السندات في الأسواق الناشئة، ومن دون وجود قواعد سوقية واضحة ترشدهم. ويخشون أيضاً الالتزام المالي مع بلد تذهب نحو نصف إيرادات حكومته على خدمة الدين.
اقرأ أيضاً: وزير مالية مصر لـ"الشرق": نترقب مليار دولار إضافية من "الآسيوي للاستثمار"
في الوقت نفسه، ووفقاً لمجموعة "غولدمان ساكس"، تراكم على عاتق مصر فجوة تمويلية بأكثر من 11 مليار دولار يتوجب سدادها خلال السنوات الخمس المقبلة.
قال كارلوس دي سوزا، مدير أموال الأسواق الناشئة في شركة "فونتوبيل أسيت مانجمنت" (Vontobel Asset Management) في زيوريخ: "تعكس التقييمات الحالية بالفعل سيناريو عدم اليقين والمحفوف بالمخاطر، الذي تواجهه مصر. لا أعتقد أن خطر التخلف عن السداد وشيك، لكن هذا الوضع قد لا يدوم طويلاً".
عودة الأموال الساخنة
ما هو على المحك بالنسبة للمستثمرين الآن، هو كيفية تحديد وقت العودة إلى بلد جذب الأموال الساخنة فيما مضى بفضل أسعار الفائدة المرتفعة، أو حتى ما إذا كان يجب العودة. فعلى مدار النصف عقد الذي سبق الجولة الأولى من تخفيضات الجنيه المصري الثلاثة التي بدأت في مارس 2022، كانت مصر واحدة من أكثر وجهات تجارة الفائدة إغراءً في العالم.
لكن حالة الاستثمار في الاقتصاد البالغ حجمه 470 مليار دولار، انقلبت بسبب مزيج من صدمة أسعار السلع الأساسية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وانخفاض قيمة العملة المصرية، ما أدى إلى وصول التضخم في مصر إلى مستويات قياسية.
اقرأ أيضاً: هل يلتهم التضخم زيادة الرواتب الجديدة في مصر؟
تأتي مصر في المرتبة الثانية بعد أوكرانيا بين الدول الأكثر عرضة للتخلف عن مدفوعات الديون، حسب تصنيف "بلومبرغ إيكونوميكس".
وحسب مؤشرات بلومبرغ أيضاً، خسرت إصدارات ديون مصر الدولارية نحو 9% من قيمتها هذا العام، وهي الأسوأ أداء بين الأسواق الناشئة بعد بوليفيا والإكوادور. كما يقبع العديد من سنداتها في منطقة التعثر، مع ارتفاع العائد الإضافي الذي يطلبه المستثمرون لشراء سندات مصر الدولارية بدلاً من سندات الخزانة الأميركية، إلى 1165 نقطة أساس.
تعويم الجنيه والانتخابات
بعد تعويم الجنيه عدة مرات، استقرت العملة المصرية خلال الأشهر الستة الماضية، مع استمرار وجود فارق بين سعر الدولار الأميركي مقابل الجنيه المصري في البنوك ونظيره بالسوق المحلية الموازية. كما قلل متداولو المشتقات المالية من رهاناتهم على حدوث انخفاض حاد آخر في العملة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
اقرأ أيضاً: بعد تحديد موعد الانتخابات.. ما مصير مراجعات "النقد الدولي" والتعويم في مصر؟
تزداد الأمور تعقيداً أيضاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في مصر (المزمع عقدها خلال ديسمبر المقبل) والتي من المتوقع أن يحاول الرئيس عبد الفتاح السيسي فيها الحصول على فترة حكم جديدة، خصوصاً بعدما حذر من أن الشعب لا يستطيع تحمل ارتفاعات جديدة في أسعار السلع ناتجة عن خفض قيمة العملة.
يوماً بعد يوم، تقل احتمالات حدوث انفراجة سريعة في المباحثات مع "صندوق النقد الدولي"، وحسب توضيح دي سوزا، لا تعلّق مؤسسة "فونتوبيل" كثيراً من الآمال على اجتماعات مصر مع الصندوق المقرر عقدها في مراكش الشهر المقبل. فيما ينتظر صندوق النقد تنفيذ مصر لحزمة الإصلاحات التي وعدت بها، بما في ذلك الانتقال إلى سعر صرف مرن.
فيما قال المتحدث باسم الصندوق إنه يواصل "ارتباطاته الوثيقة" مع مصر، وسيعلن عن أي جديد "في الوقت المناسب".
طلب متراكم على الدولار
تؤدي الخطوات البطيئة التي أحرزتها مصر في تحقيق أهداف برنامج الصندوق إلى حرمان الحكومة من الدعم، في وقت يعد جمع الأموال من الأسواق العالمية باهظ التكلفة بالنسبة للمقترضين الأكثر خطورة، مع استعداد بنك الاحتياطي الفيدرالي للإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة لوقت أطول.
اقرأ أيضاً: "بنك الصادرات" أحدث وافد لقائمة شركات مصر الحكومية المعروضة للبيع
لكن على الصعيد الإيجابي، حققت مصر بعض التقدم في ملف بيع الأصول الحكومية. ويعتقد الصندوق أن السلطات أصبحت الآن عازمة فعلاً على تنفيذ خطة الخصخصة الطموحة، حسبما قال أشخاص مطلعون على الأمر لوكالة "بلومبرغ نيوز"، لكن البلاد لم تجمع بعد ما يكفي من احتياطات العملات الأجنبية لتخفيف حدة الأزمة المالية، وتلبية الطلب المتراكم على الدولار من قبل المستوردين والشركات الأخرى.
قال لارس جاكوب كراب، مدير محفظة الدخل الثابت في شركة "كويلي فرونتير ماركتس" (Coeli Frontier Markets) ومقرها ستوكهولم: "دعونا ننتظر ونرى ما سيحدث بشأن اجتماعات صندوق النقد الدولي"، متبنياً نظرة "أكثر إيجابية" حول ديون مصر.
رغم ذلك ستظل المخاوف من عجز الدولة عن سداد ديونها نصب أعين المستثمرين. ووفقاً للبيانات التي جمعتها "بلومبرغ"، لدى الحكومة المصرية الآن أكثر من 45 مليار دولار من مستحقات اليورو بوند ومدفوعات الفائدة على مدى العقد المقبل.
احتمالات تخلف مصر عن السداد
غوردون باورز، وهو محلل مقيم في لندن لدى شركة "كولومبيا ثريدنيدل إنفستمنتس" (Columbia Threadneedle Investments)، استبعد احتمال تخلف مصر عن السداد خلال الـ12 شهراً المقبلة، "ما لم تتعرض لصدمة خارجية مؤثرة أخرى" حسب وصفه. وتواصل شركة إدارة الصناديق التوصية بشراء مراكز أكثر في ديون مصر بحساباتها "غير المقيدة".
اقرأ أيضاً: كيف تستطيع شركات مصرية التغلب على شح الدولار والتضخم؟
أضاف باورز، أن أي تقدم في المحادثات مع صندوق النقد الدولي قد يؤدي إلى تحسن وضع مصر، مع تفوق أداء ديونها في الأسواق الناشئة، كما يعتقد أن الدولة يمكنها التغلب على القيود التي تعيق تحولها إلى سعر صرف مرن أكثر، في حالة فوز السيسي بولاية أخرى.
واستطرد: "يبدو أن السوق تشعر باطمئنان أكبر الآن بشأن الأحداث التي ستشهدها مصر خلال الربع الرابع. مع ذلك، تظل المخاطر مرتفعة". لكن المتشككين في مصر ينتظرون أول فرصة للتخلص من حيازاتهم، في ظل مرور وقت طويل دون إحراز تقدم يذكر.
وبدأ بنك "سوسيتية جنرال" ما يمكن وصفه بالرهان على خفض جديد في الجنيه المصري عبر تداولاته، فيما تقلل شركة "فيديليتي إنترناشيونال" (Fidelity International) من وزن الأصول المصرية مقارنة بالمؤشرات القياسية الأخرى التي تتبعها، وترى الشركة أن أي ارتفاع طفيف في هذه الأصول يمثل فرصة للبيع.
ختاماً، صرح بول غرير، مدير الأموال في شركة "فيديليتي" في لندن أن احتمال إجراء انتخابات في ديسمبر "لا يصب في صالح الأسواق" من وجهة نظره، بل يضيف إلى الشكوك السياسية، وربما يؤخر أي تعويم جديد للجنيه بشكل أكبر".