هل أحلام بريطانيا التكنولوجية مبنية على وعود فارغة؟

وزارة المالية تتبنى "عقلية المحاسب" ونظرة قصيرة الأجل فيما يخص الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا

رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك مغادراً  داونينغ ستريت في لندن
رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك مغادراً داونينغ ستريت في لندن المصدر: غيتي إيمجز
 Martin Ivens
Martin Ivens

Martin Ivens was editor of the Sunday Times from 2013 to 2020 and was formerly its chief political commentator. He is a director of the Times Newspapers board.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يتفاخر رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، بأنَّ المملكة المتحدة ستتحول قريباً إلى "قوة علمية عظمى"، ووسط سباق لا يخلو من المبالغة؛ ادّعى زعيم المعارضة، كير ستارمر، الخميس، أنَّ أي حكومة يقودها حزب العمال قادرة على تحقيق أعلى معدل نمو مستدام بين دول مجموعة السبع بنهاية ولايتها الأولى.

يبدو أنَّ الوعود الفارغة التي قامت عليها الثورة الصناعية البريطانية القائمة على البخار ما تزال تغذّي السياسة الصناعية حتى يومنا هذا.

قد تتساءل، مثل العديد من البريطانيين الذين ينتابهم القلق ويعيشون في اقتصاد ضعيف منذ الأزمة المالية في 2007-2008؛ كيف يمكن أن تصبح بريطانيا "قوة عظمى في مجال الطاقة النظيفة"؟، هكذا وعد ستارمر، وهو ما قد يحدث أو لا، لكنَّه مع ذلك؛ لم يقدم حُجة مقنعة قوية حول الكيفية التي ستتصدر بها بريطانيا الدول من حيث النمو.

الشركات البريطانية تسجل أول نمو للإنتاج منذ 7 أشهر

يتعين عليّ الاعتراف بارتياحي بوصول القيادة السياسية للبلاد أخيراً للحقيقة الدامغة التي طالما تجاهلتها، وهي الأداء البائس للشركات البريطانية منذ وقت طويل، فقد بلغ معدل نمو الإنتاجية سنوياً نحو 0.5% منذ 2008، مما يتطلب معالجة المعدلات المتدنية للاستثمار التجاري والإنفاق على البحث والتطوير، بينما فشلت السياسة الاقتصادية الكلية في تحقيق النتائج المرجوة.

كيف تقدّم ايرلندا مثالاً ضريبياً ناجحاً؟

قبل عدة أسابيع، اختار وزير المالية، جيرمي هَنت، مكاتب "بلومبرغ" في لندن للإعلان عن طموح الحكومة في تحول بريطانيا لتصبح "وادي السيليكون القادم". برغم ذلك، أعلنت "أسترازينيكا"، واحدة من شركتين فقط مقرهما المملكة المتحدة وتأتيان ضمن قائمة أكبر الشركات إنفاقاً على البحث والتطوير عالمياً، اختيارها دبلن لإنشاء مصنع جديد قيمته 360 مليون دولار، بسبب ارتفاع الضرائب بالمملكة المتحدة.

المملكة المتحدة تدرس فرض ضريبة على أرباح المساهمين لسد العجز

بينما تستعد بريطانيا لرفع الضرائب على الشركات من 19% إلى 25% في أبريل؛ تدفع الشركات في ايرلندا 12.5%.

ترى وزارة المالية أنَّ تخفيضات الضرائب على الشركات تفشل في تعزيز الاستثمار، بينما تعتقد ايرلندا، التي تتدفق إليها رؤوس الأموال الأجنبية بكثافة، عكس ذلك.

يتوقَّع مركز الأبحاث البريطاني "المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية" أنَّ الزيادات الضريبية الأحدث ستقلّص الاستثمار التجاري في المملكة المتحدة بمقدار 150 مليار جنيه إسترليني (179 مليار دولار) على مدى 5 سنوات مُقبلة.

عندما أصبح مستشاراً، قدّم سوناك تخفيضات سخية للضرائب على أرباح الاستثمار الرأسمالي للتعويض عن الزيادات الضريبية المستقبلية على الشركات. إذاً ربما حان الوقت لاتخاذ قرار استثنائي غير متوقَّع لتغيير الأمور.

خطوة جيدة لـ"سوناك" لكنَّها مكلفة

على صعيد آخر واعد، هناك التزام سوناك بإصلاح جانب العرض، ومؤخراً، تضمّن تعديل وزاري استحداث وزارة للعلوم والابتكار والتكنولوجيا، المشتقة من وزارة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية (BEIS) قديماً، وكذلك استحداث وزارة جديدة للطاقة وصافي الانبعاثات الصفرية للتركيز على التحول للطاقة النظيفة.

هذه خطوة جيدة، وإن كانت باهظة الثمن (يقدّر المعهد الحكومي أنَّ تكلفة تقسيم وزارة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية التي ترأسها 7 وزراء خارجية منذ تأسيسها قبل سبع سنوات قد تزيد على 100 مليون جنيه إسترليني).

بعد 100 يوم من التخبط.. سوناك يقر تعديلاً وزارياً مصغراً

كما ستزداد حدة المنافسة مع تصعيد حرب الدعم الأخضر من جانب الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، مما يجبر المملكة المتحدة على اتخاذ بعض الخيارات الصعبة. بصفتها تمثل اقتصاداً متوسط الحجم، لا يمكنها الاستثمار بنفس النطاق، كما أنَّ اختيار الشركات المستفيدة ليس سهلاً، خاصة بعد أن أفلست الشهر الماضي شركة تصنيع البطاريات الكهربائية الضخمة المدعومة من الحكومة "بريتيش فولت" (Britishvolt).

ما الذي يجب أن تفعله حكومة ذكية؟

إذاً، ما الذي يجب على حكومة ذكية ومتفوقة تقنياً فعله؟ يُقدّم تقرير اشتركت أحزاب عدة في إعداده بتصريح من رئيس الوزراء السابق عن حزب العمال لثلاث فترات، توني بلير، والزعيم السابق لحزب المحافظين، ويليام هيغ، بعنوان: "هدف قومي جديد.. الابتكار قد يعزز ازدهار مستقبل بريطانيا" اقتراحات تأتي في الوقت المناسب.

بريطانيا تتجنب الركود لكن اقتصادها ما زال أصغر من 2019

يريد رجلا الدولة الأكبر سناً "دولة استراتيجية" جديدة تحتضن أحدث التطورات في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المناخ في الوقت الذي تتخلف به الحكومة والمؤسسات العامة عن القطاع الخاص والأفراد من حيث تبني الابتكار. يستشهد بلير وهيغ باستجابة المملكة المتحدة السريعة لتطوير وتوزيع اللقاحات لمكافحة كوفيد باعتبارها تمثل نموذجاً لنهج جديد من التعاون بين القطاعين العام والخاص، كما يرغبان في أن تصبح البلاد رائدة بين الدول المماثلة خلال 5 سنوات عن طريق زيادة استثمارات الدولة في البحث والتطوير وتشجيع صناديق التقاعد على الاستثمار في الأصول البريطانية.

"المالية" البريطانية تتبنّى "عقلية المحاسب"

يلقي التقرير باللوم على وزارة المالية لتبنّيها "عقلية المحاسب" ونظرة قصيرة الأجل فيما يخص الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، ويدير موظفو الوزارة الإنفاق على البحث والتطوير برغم افتقارهم إلى المعرفة العلمية أو التكنولوجية، ولم تشهد الوزارة أي تجديد، وفي ستينيات القرن الماضي، حاول هارولد ويلسون، أنجح رئيس وزراء لحزب العمال قبل بلير، تقليص حجم وزارة المالية عن طريق إنشاء وزارة منافسة للشؤون الاقتصادية للاستفادة من مزايا زخم التطور التكنولوجي، لكنَّه فشل.

بنك إنجلترا يخطط لوضع سقف لحيازة الأفراد من "الإسترليني الرقمي"

يشير تقرير بلير وهيغ إلى أنَّ هيئة الخدمات الصحية الوطنية المتداعية مهيأة لأن تكون من أكبر المستفيدين من ابتكارات التكنولوجيا الحيوية الثورية واستخدام التكنولوجيا الرقمية، وما تملكه من منجم ذهب من البيانات الواجب استغلالها نظراً لقدرتها على تطويع آلاف المرضى في التجارب السريرية.

الحديث عن الابتكار أسهل من تطبيقه

لكنَّ الحديث عن الابتكار أسهل من تطبيقه، فقد انتهى مشروع حكومة بلير بتكلفة 10 مليارات جنيه إسترليني، الذي يهدف إلى تطوير خدمة صحية رقمية، نهاية كارثية، وهذا أحد مشروعات البحث والتطوير الحكومية التي تفادت الإشراف الوثيق من وزارة المالية.

"فيتش" تخفض النظرة المستقبلية لاقتصاد المملكة المتحدة إلى "سلبية"

انتقد الليبرتاريون (مؤيدو مذهب الحرية) اقتراح بلير وهيغ وضع بطاقات الهوية الرقمية على الموبايل، وقالت جماعة الضغط "بيغ براذر ووتش" (Big Brother Watch)، التي يدعمها العديد من المحافظين الذين يعادون بشدة لفكرة اضطرار البريطانيين لإثبات هويتهم: "نظام الهوية الرقمية الواسع سوف يصبح أحد أكبر الاعتداءات على الخصوصية في تاريخ المملكة المتحدة".

كما يخشى آخرون من اتساع الفجوة الرقمية، بينما لا يمتلك العديد من كبار السن أو الفقراء هواتف ذكية، وإذا امتلكوها؛ فلن يستفيدوا كثيراً من تلك الخاصية.

إستونيا نموذج يحتذى به في الإصلاح الرقمي

في البداية كنت معارضاً لاستخدام هاتف ذكي، لكنَّني غيّرت وجهة نظري عقب رؤيتي فوائد الهوية الرقمية في إستونيا، إذ تساهم تلك الأنظمة بالفعل في الحد من الأعمال الورقية التي تُهدر الوقت كما تقضي على البيروقراطية في كل شيء بدايةً من حجز المواعيد الطبية إلى وقوف السيارات. كان النظام في إستونيا مصمّماً بشكل مناسب لمنع الدولة من التجسس على أي فرد، لكنَّنا لن ننسى أنَّها بنت نظامها بالكامل عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، فهل تحتاج المملكة المتحدة صدمة مماثلة لتحفيز طموحاتها الرقمية والعلمية؟

كيف تخطط لندن لاستعادة جاذبيتها المالية بعد "بريكست"؟

إذا كان الأمر كذلك؛ فلا يبدو أنَّ صدمَتي "بريكست" ووباء كورونا قد قاما بالمهمة. ترى كيت بينغهام، مستثمرة رأس المال المغامر، التي كرمتها الدولة لكونها العقل المدبر لطرح لقاح كوفيد، أنَّ التغيير الذي طالب به بلير وهيغ في طريقة تفكير الحكومة فات موعده، وتستشهد بالقرار المعلن عنه في "بيان الخريف" الذي تقلصت بموجبه حوافز البحث والتطوير لشركات التكنولوجيا الصغيرة والمبتكرة، مما يُمثل نموذجاً محبطاً للبيروقراطية عديمة الرؤية.

ومقالها الافتتاحي الأحدث عن حالة العلوم الحياتية في المملكة المتحدة بمثابة عريضة من المآسي.

كما أنَّ هناك آفة أخرى في المملكة المتحدة تتجاوز الانقسام الحزبي؛ فنحن نتحدث عن الإصلاح القائم على التكنولوجيا بشكل أنيق للغاية بالفعل، لكن يبدو أنَّ التطبيق هدف بعيد المنال، وإن كان أكثر أهمية من أي وقت مضى.