يحفظ من يدرِّسون مبادئ الاقتصاد عن ظهر قلب رسماً بيانياً تجتمع فيه خطوط العرض والطلب والسعر. إن ما يشمله هذا الرسم البياني هو ما يحرك الأسواق سواءً كان ما يعرضه بيانات عن هواتف"أيفون" أو عن الأرز.
حرصت سييلو ماغنو على حفر مخطط العرض والطلب في أذهان طلابها حين كانت أستاذة مشاركة في كلية الاقتصاد بجامعة الفلبين قبل أن تنتقل لعمل حكومي. عادةً ما يميل العرض للصعود مع ارتفاع الأسعار، إذ يتجه الموردون لزيادة إنتاجهم، بينما يهبط الطلب عموماً مع ارتفاع الأسعار، لأن المستهلكين يشترون كميات أقل.
حين أصبحت ماغنو وكيلة وزارة المالية في بلادها، وباتت معروفة بأنها لا تتردد بالتعبير عن آرائها. نشرت نسخة شائعة من الرسم البياني عبر وسائل التواصل الاجتماعي في 1 سبتمبر، وعلّقت: "أفتقد التدريس...". لقد فُصلت من عملها بعد فترة وجيزة، فبرغم أنها لم تقل ذلك صراحةً آنذاك، إلا أن منشورها كان تشكيكاً بحصافة قرار حكومي يحدد سقفاً لسعر الأرز.
سياسات متناقضة
إذا كان مخطط العرض والطلب هو أول ما يتعلمه طلاب الاقتصاد، فإن وضع حدود قصوى للأسعار من أبجديات عمل الحكومة، وهذا يغير الطريقة التي يُفترض أن تعمل بها الأسواق. لكن الأرز بات الآن هدفاً لكثير من الحكومات، وللأسف معاناة ماغنو في الفلبين ليست استثناءً. تحاول الدول في جميع أنحاء آسيا أن تحرف منحنيات العرض والطلب لتحاول السيطرة على أسعار الأرز. لكنهم، وبشكل واقعي، يزرعون بذور أزمة غذائية محتملة بلا مبالاة.
بلغت أسعار الأرز العالمية أعلى مستوياتها في 12 عاماً، متجاوزة ً 600 دولار للطن منذ شرعت الهند، أكبر مُصَدِّر للأرز على مستوى العالم، في انتهاج سياسة إفقار الجار عبر خفض صادراتها. رداً على ذلك، تتبنى الدول المستوردة مثل الفلبين سياسات معاكسة عبر وضع حد أقصى لأسعار الأرز، ما يؤدي عملياً إلى تعزيز الطلب. ولكم أن تتخيلوا ماذا يحدث لأسعار البيع بالجملة العالمية عندما يقوم كبار المصدرين بخفض المعروض، فيما يحاول كبار المستوردين تحديد سقف الأسعار محلياً. بالتالي، يصبح هذا المزيج المدمر أشبه بقنبلة على وشك الانفجار، والأسعار العالمية هي صمام الإغاثة الوحيد.
يحتل ارتفاع الأسعار أهميةً كبيرة، لكون الأرز هو الغذاء الأساسي لنصف سكان العالم، بما في ذلك قرابة مليار نسمة يعانون نقص التغذية في آسيا وأفريقيا. في حين يركز معظم المحللين على حبوب القمح والذرة وفول الصويا، المتداولة جميعها بكثافة في سوق العقود الآجلة في شيكاغو، إلا أن المعاملات المادية لتداول الأرز أهم من حيث الأمن الغذائي.
غير أن تجارة الأرز، رغم أهميته، محدودة للغاية على المستوى العالمي نظراً لاستهلاك معظم المحاصيل محلياً. لكن التغيرات الطفيفة التي تطرأ على معدلات الصادرات مقابل الواردات، والإنتاج مقابل العرض، تؤثر بشكل كبير على الأسعار العالمية. في حين بلغ الإنتاج العالمي من الأرز في موسم الحصاد الأخير 513 مليون طن، إلا أن إجمالي حجم تجارته عالمياً لم يتجاوز 10% من هذا الرقم. في المقابل، تستوعب التجارة العالمية أكثر من 25% من إنتاج القمح و40% من إنتاج فول الصويا.
أسباب الأزمة
تعاني آسيا وطأة مشكلة حقيقية وهي تراجع وفرة محاصيل الأرز عما كان متوقعاً، ما يعزى في معظمه إلى موجات الجفاف المرتبطة بظاهرة "إل نينيو" المناخية. بل يبدو أن موسم الحصاد المقبل لن يكون أفضل من سابقه. نظرياً، تعد المخزونات العالمية من الأرز أكثر من كافية لسد أي عجز في إنتاج المحاصيل، إذ يُتوقع أن تصل إلى 173.8 مليون طن بنهاية موسم 2022-2023 الحالي، أي أكثر من ضعف مستواها الذي بلغ 82 مليون طن خلال الفترة من 2007 إلى منتصف 2008، حينما ارتفعت أسعار الأرز آخر مرة. المشكلة هي من يحتفظ بتلك المخزونات، حيث تحكم الصين والهند قبضتهما على ما يزيد قليلاً عن 80% منها، ولا تسمحان بتصدير الكثير.
بدأ كل ذلك في يوليو، عندما أعلنت الهند حظر صادراتها من الأرز ما دون الممتاز، وفرضت مذَّاك مزيداً من القيود التي شملت غالبية صادراتها إلى الخارج. صحيح أن نيودلهي تسمح بالتصدير في إطار صفقات خاصة تبرمها الحكومة الهندية مع نظيراتها، لكنها أكثرتعقيداً وتعسفاً مقارنةً بالصفقات التجارية السابقة.
من الناحية النظرية، تملك الهند أرزاً يغطي استهلاكها المحلي ولديها فائض للتصدير. لكن مع خوضها انتخابات جديدة في العام المقبل، لن تجازف حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بتضخم أسعار الغذاء. في المقابل، أصيبت البلدان المستوردة بالذعر واتخذت تدابيرها، لكن حتى البلدان التي لم تفرض قيوداً رسمية عانت من مشاكلها الخاصة مع احتكار التجار للأرز خشية ارتفاع الأسعار لاحقاً.
فكانت النتيجة ذعراً من ارتفاع أسعار يشير تحليل العرض والطلب أنها غير مبررة. صحيح أن سوق الأرز الفعلية باتت أضيق من المتوقع، لكن لو أن الحكومات الإقليمية عملت معاً لتجنب أزمة ما، لما وقعت من الأساس.
لكن للأسف لم تلتفت الحكومات إلى الدروس المستفادة من أزمة ارتفاع أسعار الأرز خلال الفترة بين عامي 2007 و2008، حين تضاعفت الأسعار إلى أكثر من ثلاثة أمثالها في غضون أسابيع قليلة، محققةً ما يزيد عن ألف دولار للطن. ثم حولت سياسات مثل حظر تصدير الأرز ووضع حد أقصى للأسعار واحتكار التجار له الوضع الصعب إلى مأساة، وآسيا مهددة بالوصول إلى نفس النتيجة الآن.
حلول بديلة
بطبيعة الحال، يتعين على الدول الآسيوية حماية مواطنيها الضعفاء من الزيادات الحادة في تكاليف الغذاء، لكنها لديها أدوات أدق من فرض قيود واسعة على التصدير ووضع حدود قصوى للأسعار في جميع الأحوال. على سبيل المثال، تعطي برامج الدعم الموجه، بما فيها الدعم المقدم عبر شبكات الرعاية الاجتماعية القوية، نتائج أفضل، فضلاً عن كون تكلفتها أقل بكثير مقارنةً بالتدابير سالفة الذكر.
تسلط المشكلة الحالية الضوء على الحاجة لتخصيص مزيد من الدعم لمنتجي الأرز، لكن الخبر السار هو أن الحكومات الآسيوية تعلمت دروساً عديدة من أزمة الغذاء خلال عامي 2007 و2008. تجلى ذلك في زيادة الدعم المقدم لمزارعيها، فارتفعت معدلات الإنتاج مذّاك؛ محققةً أرقاماً قياسية كل عام تقريباً. بل يتوقع حتى في 2023، برغم الجفاف المرتبط بظاهرة "إل نينيو"، أن تقفز معدلات الإنتاج إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
أما الخبر السيئ فهو أن الطلب آخذ في الارتفاع بسرعة أكبر، مدفوعاً بتزايد النمو السكاني وتراجع معدلات الفقر المدقع في مناطق من آسيا وأفريقيا. وعليه، تحتاج الحكومات لزيادة الإنتاج لمواكبة الطلب المتضخم، وهو أمر صعب في زمن التغير المناخي، حيث تسعى الدول لتقليل استخدامها من الأسمدة والمياه.
يتمثل أحد الخيارات المطروحة في زيادة الاستثمار في بذور أفضل، بما في ذلك البذور المعدلة وراثياً. لسنوات، عارضت الصين تعديل الكائنات الحية وراثياً، لكنها الآن تفتح الباب أمام الاستثمار في هذا القطاع بدءاً بالذرة. كما أن تحسين البنية التحتية الزراعية حلاً بديلاً آخر، بما في ذلك تطوير الصوامع لتجنب خسائر المحاصيل بعد الحصاد. كما تستطيع بنوك التنمية الإقليمية فعل المزيد لضخ الاستثمارات في القطاع الزراعي.
أخيراً، يتعين على آسيا تقبل منحنى العرض والطلب والسماح للأسواق الحرة بالعمل كما ينبغي، بدلاً من محاولة حرفها. عادت ماغنو للتدريس، حيث تدرس هذه المرة منهج الاقتصاد العام، ولا يسعنا إلا أن نأمل في أن يحضر بعض المسؤولين صفها للاستفادة.