هل اقتربت عملية إطالة العمر من الواقعية؟

"ريترو بايوساينسز" تسعى لابتكار يطيل أعمار البشر بنحو عقد يتمتعون خلاله بصحة وحيوية

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم تكن خطط جو بيتس-لاكروا في مايو 2021 تسمح بأن ينتظر المهندسين المعماريين وعمال البناء أو أياً مما يتطلبه تشييد مكتب، ناهيك عمّا يسلتزمه إنشاء مختبر. كان يريد أن يباشر تجارب كثيرة على الفور.

لذا ما كان منه إلا أن استحوذ، ومعه فريق صغير، على مبنى متاجر مهجور في ريدوود سيتي بولاية كاليفورنيا، ثم وضعوا فيه حاويات شحن لتكون مستقراً لفئرانهم، وركبوا نظام تدفئة وتكييف الهواء لحجيرات المختبر بأنفسهم، وكذلك نظاماً لتنقية الهواء، وحجيرات معدّة لتربية سلالات فئران تجارب معدلة وراثياً. بعد شهرين، كان معمل فريق بيتس-لاكروا جاهزاً لأولى تجاربه.

قال بيتس لاكروا: "أخبرتني شركة تطوير عقاري في المنطقة أنها تعكف على بناء مختبر بحجم مشابه منذ ما يزيد على عام بتكلفة 15 مليون دولار، بينما بلغ ما أنفقت ربما 200 ألف دولار. إنني أفضّل أن أجد طريقة لذلك وأن أنفذه بنجاح".

مات بكلي أحد مؤسسي "ريترو بايوساينسز"
مات بكلي أحد مؤسسي "ريترو بايوساينسز" المصدر: بلومبرغ

استراتيجية مختلفة

أسس بيتس-لاكروا بالتعاون مع العالمين مات بكلي وشينغ دينغ شركة "ريترو بايوساينسز" الناشئة، وهي لفكرة طموحة بقدر جموح الطموح في "وادي السيليكون". تسعى "ريترو" لإطالة عمر كل إنسان بقدر عشرة أعوام مفعمة بالصحة والحيوية. لتحقق ذلك سريعاً، خالفت عدداً من تقاليد الشركات الناشئة في مجال التقنية الحيوية.

أبرز ذلك، أنها قررت أن تباشر خمسة مسارات بحثية متزامنة، بدل أن تركز على مركّب أو علاج واعد فقط دون سواه. تلك استراتيجية باهظة الثمن وعالية المخاطر لم تكن "ريترو" لتعتمدها لولا ما حظيت به من دعم استثنائي، فقد جمعت 180 مليون دولار من مستثمر واحد هو سام ألتمان، المؤسس المشارك لشركة "أوبن إيه أي" ورئيسها التنفيذي، الذي عُزل حديثاً ثم أُعيد إلى منصبه.

تقتضي تقاليد التقنية الحيوية أن تتسم استراتيجيات الشركات الناشئة بقدر أكبر من الواقعية والصقل مقارنة مع نظيراتها في قطاع التقنية الأوسع نطاقاً.

في معظم الحالات، تلاحق الشركات ما تعتقد أنه قد يكون إنجازاً منفرداً، وغايتها النهائية، بعد جهد يستمر سنين في إجراء تجارب سريرية مكلفة. عادةً ما تكون هذه الغاية بيع ما توصلت إليه من نتائج إلى إحدى عملاقات صناعة الأجهزة الطبية والأدوية. غير أن أموراً مثل بناء مختبرات من حاويات مصنعة يدوياً والقفز من نتيجة واعدة إلى أخرى ليس له سابقة.

ناقش ألتمان وبيتس-لاكروا ذات مرة فكرة إنشاء شركة أصغر تركز على تقنية إطالة العمر عبر علاج واحد، لكنهما كانا يتحمسان لأفكار أخرى كلما تناقشا أكثر. قال بيتس-لاكروا: "عادة في هذا المجال، تستطيع أن تختار فكرة واحدة ثم تمضي تسع سنوات تعمل عليها، وقد تنجح أو تفشل في تحقيقها... كان سام مستعداً لأن يفعل شيئاً مختلفاً، ولأن ينفق مالاً جمّاً على مجموعة أفكار متوازية". ووصف دعم ألتمان بأنه "رائع وموفق ومدهش جداً"، وليس غريباً أن يقول ذلك أي شخص تلقى 180 مليون دولار ليحقق آماله وأحلامه.

اقرأ أيضاً: أربعيني يدفع مليوني دولار سنوياً ليرجع بعمر جسده ربع قرن

إعادة برمجة الخلايا

عملت "ريترو" بسرية خلال معظم عمرها الذي بالكاد تخطى عامين، وهذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها عن عملها بالتفصيل، وتتيح الاطلاع على مكاتبها ومختبراتها. تضم الشركة، التي لديها 50 موظفاً، فرقاً صغيرة تسعى لتحقيق اكتشافات في مجالات الالتهام الذاتي أو التخلص من الخلايا التالفة، وتجديد بلازما الدم، فضلاً عن العمل على ثلاثة برامج بحثية مرتبطة بما تسميه صناعة التقنية الحيوية، وإعادة برمجة الخلايا جزئياً.

أثبتت إعادة برمجة الخلايا في تجارب كثيرة على حيوانات، حيث يمكن معالجة خلايا كائن أكبر سناً بمزيج من البروتينات أو الجزيئات لتحويلها إلى خلايا أكثر شباباً. ترى "ريترو" وحفنة شركات ناشئة أخرى، استناداً إلى بحوث علمية حائزة على "جائزة نوبل"، أن إعادة برمجة الخلايا هي أكثر تقنيات إطالة العمر التي ظهرت حتى الآن حظاً في النجاح.

أحد روبوتات التعامل مع السوائل يساعد في إجراء الأبحاث داخل مختبرات "ريترو"
أحد روبوتات التعامل مع السوائل يساعد في إجراء الأبحاث داخل مختبرات "ريترو" المصدر: بلومبرغ

لعقود، كانت شركات من "وادي السيليكون"، أكثر من سواها، تأمل أن تتمكن من تأخير الشيخوخة، بل وأن تكتشف "علاجاً" فعلياً للموت. لقد جعل ذلك الهدف شركات التقنية والمولعين بها موضع تندر وانتقاد. حاول بيتس-لاكروا التخفيف من بعض أقصى المقولات حول فكرة إطالة العمر، لأنه يدرك جيداً تاريخها والتهكم بها.

قال: "الناس لا يريدون أن يموتوا... سيتعلقون بأي شيء إن أعطيتهم الأمل، وتلك بشكلٍ ما هي الفكرة التي أكافحها. العلم في هذا المجال ليس علاجاً لأزمتك الوجودية أو رغبتك في تجنب الموت كليةً. هناك كثير من الأشياء التي قد تقتلك، لكن هذه التقنية يمكنها إطالة حياة الإنسان وفق أنماط صحية لسنوات، وهي هدية رائعة للبشرية. الأمر يستحق العمل عليه".

تعتقد "ريترو" ونظيراتها أن الأمر مختلف حقاً هذه المرة، إذ يؤكد كثير من الباحثين في مجال التقنية الحيوية أنهم فكوا شفرة علم إعادة برمجة الخلايا، على وجه الخصوص، وأن العلاجات باتت الآن مشكلة هندسة. يرى الباحثون أن عكس آثار الشيخوخة ليس ممكناً فحسب، بل ربما يكون وشيكاً. هذا هو سبب احتدام السباق، ولهذا قد يرغب المرء في بناء مختبر على عجل.

قد تجد بيتس-لاكروا، 61 عاماً، يتجول أحياناً في مكاتب "ريترو" وبيده كرة من التنجستن بحجم برتقالة ويصعب حملها ،إذ إن زنتها 10 كيلوغرامات. يبدو أنه يستمتع بأن يناولها لضيوفه، وبأن يراقبهم ليرى ما إذا كانوا على قدر التحدي، أم أن معاصمهم ستلتوي على الفور فيما تسقط الكرة.

يتحدث بيتس-لاكروا عند حدوث ذلك على كثافة التنجستن العالية البالغة 19.25 غرام لكل سنتيمتر مكعب، كما يسرد أصول تسميته في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، بما في ذلك أنه مشتق من خام ولفراميت ويرمز له بحرف (W)، بينما يحمر وجه ضيفه خجلاً، ويتعهد في سره بأن يكثر من ارتياد صالة الرياضة. لكنني لم أُقرّ بأن هذا ما حصل معي.

نشأة متفردة

يعكس الحديث التفصيلي عن التنجستن أو فيزياء أنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء، طبيعة التعلم الذاتي لبيتس-لاكروا، التي تشكلت وصُقلت خلال طفولته غير التقليدية في ولاية أوريغون. فقد نشأ في قلب حركة الثقافة المضادة في الستينيات، حيث سمح له والداه أن يفعل ويستكشف ما يشاء. على سبيل المثال، فكك بيتس-لاكروا ماكينة الخياطة والثلاجة في منزله في السابعة من عمره، وكان ذلك مقبولاً. وإذا ما تأخر عن المدرسة، كان والداه يرسلان مذكرة ليطلبا العفو عنه بحجة أن كائنات فضائية اختطفته.

قال بيتس-لاكروا: "لقد علمني والدي أنه يمكنك إعادة تصميم أي شيء انطلاقاً من المبادئ الأساسية... نشأت في ثقافة فرعية اعتبرنا فيها أننا نعيد تعريف المجتمع. لقد بدأنا من الصفر، وكان بإمكاننا وضع قواعدنا الخاصة".

بيتس-لاكروا
بيتس-لاكروا المصدر: بلومبرغ

كان يكره المدرسة الثانوية، ونادراً ما كان يحضر الدروس باستثناء الفيزياء والرياضيات. فتخرج بتقدير ضعيف، ثم أقام لستة أعوام في منزل مشترك مع مجموعة من "الموسيقيين والفنانين وغريبي الأطوار".

أسس بيتس -لاكروا مختبر إلكترونيات في قبو المنزل، وثابر على إجراء تجارب كهروميكانيكية، وكان يغطي نفقات معيشته من عمله على مهام تتعلق بالإلكترونيات والأجهزة والبرمجيات لحساب الشركات المحلية، ويشغل بقية وقته بقراءة أعداد هائلة من الكتب.

في نهاية المطاف، التحقت صديقة بيتس-لاكروا بكلية هارفرد، فقرر أن يحذو حذوها. أمضى فصلاً دراسياً كاملاً في كلية محلية، فاجتهد وحصل على درجات ممتازة، ثم تقدم بما وصفه بأنه طلب نقل غير عادي أثار إعجاب مكتب القبول.

حين أصبح في هارفرد، اكتشف أن علاقته بالمدرسة والتعليم الأكاديمي قد تغيرت. قال: "لقد كان أمراً مذهلاً، إنه كنز دفين من الأسرار. يمكنني قضاء وقت مع هؤلاء الأساتذة الرائعين والتحدث معهم والتعلم منهم. تساءلت أين كان هذا طوال حياتي".

اقرأ أيضاً: إكسير الشباب.. جديد رحلة رجل مهووس بإطالة العمر

حصل بيتس-لاكروا على بكالوريوس في علوم الأرض البيئية من هارفرد بينما يجري أبحاثه في مجال الفيزياء الحيوية بمعهد كاليفورنيا للتقنية في أوقات فراغه. لاحقاً، صمم أنظمة روبوتات في معهد ماساتشوستس للتقنية، ودأب على نشر مجموعة أوراق بحثية عن هذه المجالات في الدوريات العلمية خلال ذلك كله.

بداية جديدة

بعد انتقاله إلى وادي السيليكون، شارك في تأسيس شركة "أو كيو أو" (OQO) عام 2000، وقد حققت شهرة واسعة برغم عدم نجاحها في صناعة أجهزة كمبيوتر شخصية ضئيلة الحجم، ثم عمل بعد ذلك في شركة "هالسيون مولكيولار" (Halcyon Molecular) الناشئة التي حظيت بشهرة كبيرة في أبحاث التسلسل الجيني، وإن لم يحالفها النجاح.

لقد غمر بيتس-لاكروا الشركات الناشئة بمساهماته كمستثمر تأسيسي كريم، فكان شخصية معروفة في أوساط التقنية الحيوية مثل التغيير البيولوجي وإطالة العمر وتتبع المؤشرات الذاتية.

بالإضافة إلى "أو كيو أو" و"هالسيون"، أمضى وقتاً يعمل لدى شركتي تقنية في مجال رأس المال الاستثماري وكرئيس لقسم التقنية في شركة "فيوم" (Vium) التي حاولت تعزيز دقة الاختبارات على الحيوانات بالأتمتة. وفي خلفية ذلك استضاف وحضر معارض وفعاليات خاصة بتقنيات إطالة العمر. وكانت هذه الأنشطة محض هواية وشغف حتى أثبتت سلسلة اكتشافات علمية أنها رهان قوي جداً.

نسعى لصياغة أفضل طريقة لاختبار أكبر عدد ممكن من مجموعات عوامل الانتساخ وللتنبؤ بما يستحق المتابعة منها

توصل الجراح الياباني شينيا ياماناكا، الذي تفرغ لإجراء أبحاث التقنية الحيوية، إلى اكتشاف مذهل في 2006، فقد أخذ خلايا من جلد فأر مسن وحولها إلى خلايا جذعية، أو تحديداً ما يعرف بالخلايا الجذعية متعددة القدرات. بمعنى آخر، تمكن ياماناكا من مسح ذاكرة مجموعة من الخلايا، التي كونها الجسم لأداء وظائف محددة، حتى يتسنى له إعادة برمجتها لتقوم بوظائف أخرى.

افترض الباحثون لفترة طويلة أن مثل هذا الإنجاز قد يكون ممكناً، لكنهم تصوروا أن التقنيات اللازمة لمسح ذاكرة الخلايا ستكون معقدة، وستتطلب سنوات من التجارب أو حتى عقوداً. غير أن ياماناكا وفريقه صادفوا عرضياً مجموعة من أربعة عوامل انتساخ، وهي بروتينات تنقل التعليمات إلى الحمض النووي، حثت الخلايا الأكبر سناً على تنشيط جينات لا تُفعل ولا تنشط عادةً سوى خلال اللحظات الأولى من الحياة.

فاز ياماناكا بجائزة نوبل بعد ست سنوات من نشر ورقته البحثية حول هذه المنهجية العلمية، وباتت مجموعة عوامل الانتساخ، المكناة بعوامل ياماناكا، معروفة الآن في كافة أنحاء عالم التقنية الحيوية.

خزانات النيتروجين السائل تحفظ الخلايا لفترات طويلة
خزانات النيتروجين السائل تحفظ الخلايا لفترات طويلة المصدر: بلومبرغ

تقنية واعدة

نبدأ حياتنا بخلايا أشبه بالصفحات البيضاء، حيث تحوي المضغة في البداية خلايا جذعية غير محددة تنقسم وتتطور إلى أجنة، وتضطلع بأدوار متخصصة مثل خلايا الكبد والخلايا العصبية وأنسجة عضلة القلب وما إلى ذلك. تكمن روعة هذه العملية في أن جميع الخلايا الجذعية تشترك بحمض نووي واحد، غير أن كلاً منها تبدأ في التركيز على أجزاء مختلفة من شفرتها الجينية لتشكل هويات فريدة بمرور الوقت.

كان لملاحظة كيفية حدوث هذه التحولات أهمية كبيرة بالنسبة للعلماء الذين يحاولون اكتشاف الأسباب الجذرية للأمراض وتنكس الخلايا. لم يمكن الحصول على الخلايا الجذعية قبل اكتشاف ياماناكا سوى من الأجنة، وهي عملية سببت جدلاً أخلاقياً ومحدودية بيولوجية. لكن بات بإمكان الباحثين الآن تصنيع خلايا جذعية متى شاؤوا بعد الطفرة العلمية التي أحدثها العالم الياباني وفريقه.

كان نتاج أبحاث ياماناكا مثيراً بما يكفي ليفتح المجال أمام عهد جديد من أبحاث الخلايا الجذعية. غير أن التجارب التي أشرف عليها العالم أليكس أوكامبو وزملاؤه في "معهد سولك للدراسات البيولوجية" كانت السبب الرئيسي وراء إعادة توجيه بعض الاهتمام الذي حظيت به عوامل ياماناكا إلى مضمار إطالة العمر. فقد ركز أوكامبو على تربية فئران خضعت للتعديل الوراثي عبر إدخال العوامل إلى جيناتها، مطوراً وسيلة لتفعيل آليات إعادة برمجة خلاياها ليومين متواصلين.

ظهر تجدد واسع في خلايا أعضاء الفئران بعد إجراء عملية تعديل العوامل الوراثية بشكل صحيح، وعاشت في النهاية فترة أطول بنسبة 30% مقارنةً بتلك غير المعدلة. كانت ورقة بحثية قائمة على هذة التجربة قد نشرت في 2016، وسرعان ما تمخضت عن ظهور عدد كبير من شركات التقنية الحيوية الناشئة التي تسعى إلى تعزيز تلك الأبحاث وتحويلها أساساً لعلاجات إطالة العمر.

"ريترو" واحدة من الشركات الناشئة المعدودة التي اعتمدت في كثير من أبحاثها وآفاق أعمالها على هذا التقدم في إعادة برمجة الخلايا. كانت شركة "نيو ليميت" (NewLimit)، التي شارك في تأسيسها بريان أرمسترونغ الرئيس التنفيذي لشركة "كوينبيس غلوبال" (Coinbase Global)، قد شرعت في إجراء مسح ضخم لآلاف من عوامل الانتساخ بحثاً عن أفضل مزيج بروتينات لإبطاء أو عكس آثار الشيخوخة.

اقرأ أيضاً: تطوير الذكاء الاصطناعي للعقاقير قد يُدر 50 مليار دولار

يستلزم هذا المشروع إجراء الشركة مقارنات بين خلايا دم مُجَمعة من متبرعين شباب ومسنين لرصد التباينات بينها، وإجراء سلسلة متصلة من اختبارات تسلسل الحمض النووي والتحليلات الحسابية لما يطرأ على الخلايا من تغيرات لدى خضوعها لتعديلات وراثية تنطوي عل إدخال عوامل الانتساخ المختلفة إلى حمضها النووي. قال جاكوب كيميل، المؤسس المشارك ورئيس قسم الأبحاث لدى "نيو ليميت": "نسعى لصياغة أفضل طريقة لاختبار أكبر عدد ممكن من مجموعات عوامل الانتساخ والتنبؤ بما يستحق المتابعة منها".

تمويل ضخم .. ولكن

وافق مستثمرون، بينهم شركات رأس المال الاستثماري "دايمنشن" (Dimension) و"فاوندرز فاند" (Founders Fund) و"كلاينر بيركنز" (Kleiner Perkins) وأفراد مثل إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل" والمستثمر التقني إيلاد غيل وغاري تان الرئيس التنفيذي لشركة "واي كومبينتور" (Y-Combinator)، على استثمار 40 مليون دولار في "نيو ليميت"، فيما تعهد مؤسسوها بضخ 110 ملايين دولار.

يعد ذلك تمويلاً ضخماً، لكنه يبدو ضئيلاً أمام إجمالي استثمارات بلغ ثلاثة مليارات دولار جمعتها شركة "ألتوس لابس" (Altos Labs) الناشئة لإعادة برمجة الخلايا في وادي السيليكون من جيف بيزوس والمستثمر يوري ميلنر وغيرهم. جذبت "ألتوس لابس" بعض أفضل العلماء من المختبرات الأكاديمية حول العالم في محاولة لتعزيز أبحاثهم من خلال توفير مزيد من التمويل والموارد لدعمهم، وقد رفضت الشركة التعليق.

اختصاصي الطب البيطري يتفقد أحد فئران التجارب داخل المختبر
اختصاصي الطب البيطري يتفقد أحد فئران التجارب داخل المختبر المصدر: بلومبرغ

في حين لا تختلف الأهداف المحددة لهذه الشركات، إلا أنها تشترك في المهمة العامة، فهي لا تتطلع إلى إعادة خلايا الجلد أو الكبد أو الدماغ إلى نقطة البداية حين كانت خلايا جذعية. بل يحاولون إيجاد طرق لإعادة الخلايا التالفة أو المتموتة إلى حال أكثر صحة وشباباً.

أُجريت تجارب كثيرة واعدة على حيوانات وخضعت الأنسجة لهذه التقنية تحديداً. مع ذلك، تخرج التجارب عن السيطرة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، أحياناً تنمو أورام تعرف باسم الأورام المسخية في جميع أنحاء أجسام الفئران المعدلة وراثياً عبر إعادة برمجة خلاياها. بالطبع، يفرض ذلك توخي الحذر الشديد قبل إجراء أي تجربة بشرية.

قال بيتس-لاكروا: "هناك اعتقاد بأنه يمكنك حقن فيروس ليغزو أنسجة شخص ما، وإدخال جينات عوامل الانتساخ تلك إلى الخلايا وتنشيطها لفترة بطريقة يمكن التحكم بها تماماً. عليك التوقف قبل التمادي وتخليق خلية جذعية متعددة القدرات، لأنها ستبدأ في محاولة إنماء جسد كامل فتشكل أوراماً حيثما توضع".

لدى أوكامبو الآن مختبر يركز على إعادة برمجة الخلايا جزئياً في سويسرا، وهو لا يزال متحمساً لهذه التقنية رغم بعض المحاذير المتعلقة بفكرة تطوير علاجات آمنة لإطالة أعمار البشر. إن مورثات إعادة برمجة الخلايا الجزئية مرتبطة بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان عند تنشيطها بمستويات عالية. كما تظل وسائل توصيل العلاجات المحتملة إلى مجموعة واسعة من أنواع الخلايا محدودة. قال أوكامبو: "يمكنك الوصول إلى أماكن مثل الكبد بسهولة، لكن الدماغ والقلب أصعب".

قد يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى تتمكن هذه الشركات الناشئة من استحداث علاجات آمنة ومعتمدة. شكك أوكامبو في احتمالية ابتكار علاج قائم على عوامل ياماناكا يمكن توصيله مباشرة إلى خلايا الجسم خلال العقد الحالي، وقال: "مع ذلك، أعتقد أن التوصل إلى التقنيات والعلاجات الأخرى التي تستخدم عوامل بديلة أو جزيئات صغيرة قد يكون ممكناً. بشكل عام، تتمتع تقنية إعادة البرمجة بالإمكانات الأقوى، ولا أعتقد أن أي تقنية أخرى تقترب حتى من إمكاناتها في مجال إطالة العمر".

ثقافة حالمة

ينقسم مقر "ريترو" الرئيسي إلى ثلاثة قطاعات رئيسية. فقد زينت بعض المكاتب بما يتناسب وأجواء الثقافة المضادة التي نشأ بيتس-لاكروا في ظلها. على سبيل المثال، يسبغ ورق جدران مزخرف بقناديل البحر روح الطبيعة على جدار إحدى الغرف الصغيرة، فيما تتناثر مادة تشبه كرات القطن على آخر لتحاكي السحب. كما يضمن تصميم دورات المياه مجموعة مصابيح تعكس أشكال نجوم بألوان متباينة. بينما يعج القطاع الثاني في منتصف المبنى بأجهزة المختبرات ومعدات فحص تسلسل الحمض النووي، التي حصلت شركة بيتس-لاكروا على كثير منها بأسعار زهيدة من "كيوراتيف" (Curative)، إحدى الشركات الرائدة في مجال اختبارات فيروس "كورونا" التي تحولت لاحقاً إلى شركة تأمين صحي.

اقرأ أيضاً: هل سيفتح فحص مورثات الأجنّة باب الشرور؟

تشغل مرافق احتجاز الفئران واختبار الأنسجة معظم مساحة المقر. كان لدى "ريترو" حاويتان تعجان بالفئران، وأخرى مجهزة لإجراء الاختبارات على غرار المختبرات المعقمة، والآن بات لديها أكثر من 12 حاوية، كما تضيف حاويات جديدة فيما تتوسع عملياتها. تتصل جميع الحاويات بشبكة أنظمة تدفئة وتكييف وتنقية الهواء المخبرية التي أنشأها بيتس-لاكروا وفريقه من الصفر.

فئران "ريترو بايوساينسز" داخل أقفاص فردية جيدة التهوية
فئران "ريترو بايوساينسز" داخل أقفاص فردية جيدة التهوية المصدر: بلومبرغ

تعاني عدة آلاف من الفئران ضعف المناعة نتيجة التجارب التي تجرى داخل خلاياها. لذا، يتعين على الباحثين ارتداء معدات واقية، والمرور عبر غرفة تحبس الهواء قبل دخول المستنبت الأحيائي. قال بيتس-لاكروا: "يمكن لجرثومة واحدة أن تقتل الفئران". تعيش الفئران داخل حاويات بلاستيكية بحجم صناديق الأحذية وفيها مكعبات خشبية صغيرة يمكنها مضغها، بالإضافة إلى مواد أخرى يمكنها استخدامها لبناء جحورها.

تحرت "ريترو" الدقة في ما يتعلق بالإضاءة ودرجة الحرارة المناسبين للفئران من خلال وضع أجهزة استشعار وأنظمة تحكم في كل حاوية بدل أن تعمم ذلك على الغرفة ككل، كما هو معتاد في مراكز الأبحاث الأخرى. قال بيتس-لاكروا: "لم يسعَ أحد لتحري أن بعض الفئران في تجاربهم كانت أقرب للجزء العلوي من رفوف الأقفاص، وليس السفلي، حيث قد يطالها قدر أقل من الضوء. ثم يتساءلون لماذا لا يستطيعون تكرار نتائج تجربتهم. إنها مشكلة كبيرة. لقد جعلت مجابهة مثل هذه الظروف لتحسين التجارب على الحيوانات أحد أهدافي في الحياة. هذه الفئران تقدم تضحيات، وعلينا أن نجعلها ذات قيمة".

تجارب مهمة

لدى "ريترو" مجموعة متنوعة من تجارب إعادة برمجة الخلايا، ومنها دراسات على الفئران وبعض الأنسجة البشرية المأخوذة من مرضى السرطان. في هذا السياق، عكف فريق بحث على إعادة برمجة الخلايا التائية لمهاجمة الأورام الصلبة بشكل أفضل، إذ عادةً ما تستنفد الخلايا التائية نفسها وتتوقف عن العمل أثناء محاولتها مكافحة النمو السريع للخلايا السرطانية.

برغم أن هذه الأبحاث لا تزال في مقتبلها، إلا أن "ريترو" تقول إنها قد تكون وجدت بعض الطرق للتحكم في الخلايا التائية لإبقائها في حالة هجوم. لقد أجرت تجارب على عينات أورام مأخوذة من مرضى وتسلط عليها الخلايا التائية المعاد برمجتها. كما يركز مشروع آخر على إعادة برمجة خلايا الكبد لاستعادة شبابها.

قد تكون أكثر جهود إعادة البرمجة الواعدة لدى "ريترو" هي التي تشرف عليها العالمة أناستازيا شينديابينا، وهي ترأس برنامجاً لإعادة برمجة خلايا أجهزة المناعة لدى البشر. شينديابينا، التي لديها افتتان ثقافي قديم بتقنيات إطالة العمر، تتحدر من روسيا، وقد التقت بيتس-لاكروا خلال تجمع لمناقشة التقنية الحيوية في وادي السيليكون، حيث أقنعها بالتخلي عن العمل الأكاديمي لتلاحق رهانات "ريترو" المتنوعة مرتفعة المخاطر. قالت: "كان ذلك في بدايات (ريترو)، ولم يكن أحد يعلم إن كان هذا سيكون جيداً أم سيئاً".

أنستازيا شينديابينا
أنستازيا شينديابينا المصدر: بلومبرغ

يمكن أن يكون للجهاز المناعي المجدد بعض من أوسع التأثيرات الممكنة على إطالة العمر، حيث سيكوّن أنواعاً كثيرةً من الخلايا في جميع أنحاء الجسم تستطيع منع وملاحقة الأمراض بشكل أفضل، فضلاً عن تجديد الجسم بسرعة أكبر كما يحدث في ريعان الشباب. بيّنت شينديابينا أن فريقها حقق خلال العام الماضي نتائج مشجعة أكثر من أي وقت مضى، وقالت: "عندما يتعطل جهازك المناعي، فإنه يؤثر على جميع الأنسجة. عليك السعي لتجديد جهاز المناعة أولاً، وهذا سيفضي إلى كل تحسن آخر".

يحوي جسم الإنسان أكثر من 1500 عامل انتساخ، ويمكن دمجها بعدد لا نهائي من الطرق. يتطلب اختيار العوامل التي ينبغي التركيز عليها استخدام خوارزميات التعلم الآلي، كونها تتميز في تحليل البيانات والبحث عن الأنماط. تعج مختبرات "ريترو" و"نيو ليميت" وغيرهما بأجهزة تحليل الحمض النووي من شركة "10 إكس جينوميكس" (10x Genomics).

اقرأ أيضاً: كائنات فضائية وأجنَّة معدَّلة... المستقبل سيكون أكثر غرابة مما نتوقع

تعد الأخيرة رائدة تقنيات التسلسل الجيني التي تتيح للعلماء دراسة التغيرات داخل الخلايا الفردية. قال بكلي، أحد مؤسسي "ريترو"، عن الأجهزة: "إنها تتيح لنا فهم علم الأحياء بدقة أكبر بكثير. إذا كان بإمكانك تجديد خلية واحدة، فربما يمكنك تجديد بعض الأنسجة، ثم ربما تجديد عضو ما، بل وربما كائن حي مكتمل النمو".

كان بكلي وأليكس تراب، من بين العلماء العاملين لدى "ريترو"، في طليعة ثورة الأحياء الحاسوبية لسنوات عديدة. ولا تقتصر أبحاثهما على إعادة برمجة الخلايا، بل تمتد لتشمل مجالات مثل الالتهام الذاتي وأبحاث بلازما الدم. على صعيد أبحاث الالتهام الذاتي، تحاول "ريترو" تطوير حقنة أو قرص بإمكانه محاكاة فوائد تقييد السعرات الحرارية، التي تدفع الجسم إلى تطهير نفسه من الخلايا القديمة التالفة. أما على صعيد أبحاث بلازما الدم، فتستكمل "ريترو" سنوات من الأبحاث التي تظهر أن الحيوانات المسنة تستفيد من حقنها ببلازما نظيراتها الشابة.

برغم أن الدراسات كانت مشجعة، إلا أن الوسائل الفعلية لنقل البلازما محبطة، لأنها من حيث الأساس تعني أن يتغذى المسنون على بلازما الشباب، فضلاً عن أنها تستغرق وقتاً طويلاً كما في حالة الغسل الكلوي. لذلك، تتطلع "ريترو" لإنتاج علاج على شكل حبوب أو حقن لإنتاج تأثير تبادل البلازما من دون الحاجة إلى تبادلها.

أليكس تراب
أليكس تراب المصدر: بلومبرغ

مع كل منعطف تجد "ريترو" أن مستقبلها معلّق على رهانات وأمل وإيمان بأن هذه هي اللحظة التي سيكتشف فيها علم الأحياء والحواسيب أسرار كيفية عمل الجسم. يشير تراب إلى معجزة طول عمر جرذ الخلد الأجرد على سبيل التشجيع. قال: "تعيش جرذان الخلد الجرداء 40 عاماً ولا تصاب بالسرطان ولا تعاني أي أمراض مرتبطة بتقدم العمر إطلاقاً. يمكننا البحث في كيفية تطور هذه الأنواع الأخرى على مدى ملايين السنين لإجراء تعديلات محددة وحصد ثمار تلك الملاحظات".

كما أشار تراب إلى الفكرة البسيطة المتمثلة في أن الأجسام البشرية تعرف كيف تجدد شبابها من دون شك. على سبيل المثال، تجمع الأجنة الجينات القديمة والتالفة وتعيد ضبطها إلى حالة أنقى وأصح عند الحمل. قال: "إن لم يحدث هذا، فسيتقدم الناس بالعمر وستتضرر خلاياهم من دون توقف. بالطبع، وجد الجسم طريقة للقيام بذلك مع حتمية التطور. إننا بحاجة الآن إلى معرفة كيف نحاكي ذلك اصطناعياً".

كانت التمويلات التي جمعتها "ريترو" و"نيو ليميت" و"ألتوس لابس" مذهلة وليست مذهلة في آن معاً. فمن جهة، تسعى هذه الشركات لابتكار التقنية التي قد تغير شكل الحياة البشرية. لذا سيكون صادماً ألا تهرع مزيد من الشركات لملاحقة ما قد يكون أفضل استثمار مالي على الإطلاق في عالم ستضع فيه هوليوود رهانات مالية تعادل ذلك على كثير من الأفلام خلال العام المقبل.

لكن من جهة أخرى، هنالك الحقيقة الصعبة وهي إفلاس كثير من شركات التقنية الحيوية الواعدة أثناء رحلتها لإثبات مزايا منتجاتها وسلامتها. على سبيل المثال، تعني خمسة مجالات بحثية إجراء خمس تجارب سريرية على الأقل، ويتطلب كل منها كثيراً من الوقت والمال. قال دينغ، المؤسس المشارك في "ريترو" والباحث الشهير في مجال إعادة برمجة الخلايا: "لن يتمكن سام ألتمان من تمويل هذا المشروع بالكامل. سيتطلب الوصول إلى المنتجات النهائية مزيداً من المستثمرين واكتتاب عام في مرحلة ما. لقد رأيت كثيراً من الشركات المبهرة تنهار في منتصف الطريق. لا يمكنك أن تروي قصص النجاح السحرية بصدق سوى لسنوات قبل أن ترى النتائج".

يؤكد دينغ، في الوقت نفسه، على أن تمويل "ريترو" وعملياتها الذكية لا يمنحها فرص نجاح تفوق سواها. وبيّن أنه على ثقة من أن حل مشكلة الشيخوخة بات أقرب من أي وقت مضى، وقال: "فيما يتعلق بالاكتشافات العلمية، يمكنك أن تواصل البحث عن حل للمشاكل لسنوات أو حتى قرون في معظم الأحيان... لكن في هذا الشأن نحن نعرف الحل".