عودة هوس "بتكوين" لكنه خاوٍ كما كان

منتقدو قطاع التشفير يصفون موافقة هيئة الأوراق المالية على الصناديق المتداولة بأنها خطأ تاريخي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في الخريف، بدا الهوس بـ"بتكوين" كأنما ولّى زمنه. أدين سام بانكمان فريد، الرئيس التنفيذي السابق لبورصة العملات المشفرة "إف تي إكس"، في نوفمبر بتدبير مخطط احتيالي ضخم، وبعد ذلك بأسابيع، أقرّ تشانغبنغ جاو، المؤسس المشارك في بورصة "بينانس" المنافسة لـ"إف تي إكس"، بضلوعه في غسل الأموال كما جاء في اتهامات اتحادية وتنحى عن رئاسة الشركة.

فيما يبدو أن رجلين من أغنى شخصيات قطاع التشفير وأكثرها إثارة للإعجاب متجهان إلى السجن بتهم ذات علاقة بإدارة كل منهما للعمليات الأساسية في شركته، فقد بات يصعب تصور أن أي شخص عاقل قد يُفضل تقلبات قطاع التشفير على النظام المالي التقليدي.

طرح بول كروغمان السؤال الآتي في مقالة بصحيفة "نيويورك تايمز" في نوفمبر: "هل هذه هي نهاية اللعبة لقطاع العملات المشفرة؟". توقع كروغمان أن "بتكوين" في طريقها "لأن تصبح نسياً منسياً".

أما اليوم، فيبدو أن الأمور تسير في اتجاه معاكس تماماً. منذ أن بدأت أولى جلسات محاكمة بانكمان فريد في أكتوبر، ارتفع سعر "بتكوين" قرابة 55%. كما ارتفعت أسعار الأصول المشفرة الأصغر والأكثر عرضة للتقلبات (والأكثر غموضاً) بأكثر من ذلك.

ارتفعت قيمة "إف تي تي" (FTT)، وهو رمز رقمي يُفترض أن الغرض منه كان تقديم خصومات على الرسوم التي فرضها بانكمان فريد على البورصة التي أغلقت أبوابها، لأكثر من الضعف. أما "سولانا" (Solana)، وهي إحدى عملات بانكمان فريد وقد حصلت على دعم مالي منه ثم واجهت صعوبات في أعقاب انهيار "إف تي إكس"، فقد ارتفعت قيمتها أربعة أضعاف.

عودة الاهتمام

عاود مستثمرو رأس المال الجريء في وادي السيليكون، الذين توقفوا منذ أشهر عن استخدام عبارة "ويب 3" (Web3)، وهي مصطلح مثير للامتعاض يتنبأ بأن قطاع التشفير سيبتلع الإنترنت بأكملها بشكل ما، ترويج تلك الفكرة غير الواقعية على الفور. لاقت الرموز غير القابلة للاستبدال، التي كانت مادة للسخرية بسبب الاهتمام المفرط بالعملات المشفرة خلال الجائحة، رواجاً من جديد.

بدأ من أنفقوا عشرات الآلاف من الدولارات مقابل رسومات طفولية كرتونية لحيوان الشمبانزي يدفعون الآلاف مقابل رسومات قبيحة لمشعوذين. بل إنه حتى "أكسي إنفينيتي" (Axie Infinity)، وهي لعبة فيديو قائمة على فكرة اللعب لتحقيق الربح كان منتقدوها قد قالوا إنها تبيع مخططاً مضللاً للثراء السريع للفقراء في الدول النامية، يُفترض أنها مهيأة لتعود للساحة مجدداً.

يُعزى ارتفاع الأسعار في الأغلب لحماسة المستثمرين قبل موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية المتوقعة على صناديق تتيح للمستثمرين الرهان على سعر "بتكوين" في البورصة، إلى جانب صناديق المؤشرات المتداولة الأكثر تقليدية. جاءت موافقة الهيئة أخيراً في 10 يناير على عشرة من الصناديق المتداولة للتعامل الفوري في "بتكوين"، لكن ذلك وقع بعدما اخترق شخص حساب الهيئة على منصة "إكس" وأعلن عن الخبر قبل أوانه، ليستفيد على الأرجح من قفزة الأسعار المؤقتة التي أعقبت ذلك.

أميركا تمنح الضوء الأخضر لصناديق "بتكوين" المتداولة في البورصة

صوّر منتقدو قطاع التشفير، الذين احتفوا بمعارضة غاري غينسلر، رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات، للقطاع في السابق، الخطوة على أنها خطأ تاريخي ومن شأنه أن يُعرّض صغار المستثمرين للمخاطر. قال دينيس كيلير، المؤسس المشارك في "بتر ماركتس" (Better Markets)، وهي منظمة غير هادفة للربح تروج لمزيد من تنظيم القطاع المالي: "أمامنا شخص يُعتبر بلاءً على (وول ستريت) يصوت لصالح إغراق المتقاعدين بمنتج مالي عديم القيمة والفائدة وينطوي على مضاربات وتقلبات ويفضله مجرمون".

وجهة نظر معاكسة

ليس مفاجئاً أن قطاع التشفير لديه وجهة نظر معاكسة. وصف براين أرمسترونغ، الرئيس التنفيذي لبورصة "كوين بيس" (Coinbase) الأميركية الرائدة، الصناديق المتداولة بأنها "خطوة عظيمة" بيّنت "القوة التي تكسب هذا القطاع شرعيته". قال أرمسترونغ في مقابلة عبر قناة "سي إن بي سي" (CNBC) إن هيئة الأوراق المالية والبورصات أقرّت ضمنياً أن قطاع التشفير "باقٍ"، ما عزز قناعته بأن "هذا هو مستقبل النقد".

هناك أسباب تدعو للتشكيك في هذا الطرح، بدءاً بموافقة غينسلر التي جاءت على مضض بشكل يكاد يكون هزلياً. قارن غينسلر الصناديق بالأدوات المالية المدعومة بالمعادن النفيسة، لكن هنالك فارق رئيسي واحد: المعادن النفيسة مفيدة مجتمعياً لكن "بتكوين" ليست كذلك. قال رئيس مجلس الإدارة خلال الإعلان عن الخطوة إن العملة "تُعتبر بشكل رئيسي أداة استثمار متقلبة ومضاربية كما أنها تُستخدم في أنشطة غير قانونية منها برامج طلب الفدية وغسيل الأموال والتهرب من العقوبات وتمويل الإرهاب".

لماذا يعول قطاع التشفير على إطلاق صناديق "بتكوين" اليوم؟

أوحى غينسلر بأن السبب الوحيد وراء موافقته على الصناديق الجديدة، التي طرحتها شركات مثل "بلاك روك" و"فيديليتي"، كان توقعه بأن هيئة الأوراق المالية والبورصات ستخسر دعوى شبه حتمية تُرفع ضدها إن رفض طرح الصناديق.

علاوة على ذلك، فإن المقاييس المتاحة للجميع لقياس مدى الحماسة بشأن العملات المشفرة، مثل الإفصاحات التي تتلقاها هيئة الأوراق المالية والبورصات من البورصات المتداولة، والبيانات من موقع بيانات العملات المشفرة "كوين غيكو" (CoinGecko)، تشير إلى أن الطلب على العملات الرقمية ما يزال أدنى بكثير من مستوياته قبل أعوام قليلة. في 2021، أعلنت "كوين بيس" أن حجم التداول الفصلي من الزبائن بلغ 177 مليار دولار. أما في أحدث الفصول، فقد كان حجمه 11 مليار دولار.

تفسير مختلف

ما الذي يحدث؟ تطرح إحدى النظريات أن مطلعين على معلومات غير متاحة لعامة الناس رفعوا الأسعار بالمضاربة في محاولة لتوليد فقاعة. حاجج ديفيد جيرارد، وهو مؤلف وأحد المشككين في قطاع التشفير، بأن ارتفاع سعر "بتكوين" حديثاً لم يكن مدفوعاً بطلب عضوي من جانب صغار المستثمرين ولكن من شركات تقامر بمليارات الدولارات على هيئة قروض جديدة من "تيذر" (Tether)، وهي شركة مثيرة للجدل مسؤولة عن إصدار العملات المستقرة. قال: "أسعار (بتكوين) لا تتغير بسبب إشارات السوق، بل إن الألاعيب هي السبب على الدوام".

ترخيص صناديق بتكوين المتداولة بالبورصة يخيب آمال المستثمرين

يراهن أنصار القطاع أن الصناديق المتداولة الجديدة، التي نالت تأييد مؤسسات مالية لها وزنها حيث تجعل رسومها المنخفضة أرخص من شراء الأصول المشفرة مباشرةً، ستغير هذا التصور. لكن ذلك الرهان ينطوي على مشكلتين:

قد تصبح الصناديق المتداولة منافساً لبورصات العملات المشفرة كوسيلة لإيجاد زبائن جدد من خلالها. لِم تزعج نفسك بالمشاكل والرسوم المرتبطة بشراء عملات مشفرة فعلية إن كان هذا البديل متوفراً؟ ستحصل "كوين بيس" على بعض الإيرادات الإضافية من خلال الاحتفاظ بأصول رقمية للشركات التي تدير الصناديق المتداولة، لكن ذلك قد لا يُعوض الإيرادات التي تخسرها من الزبائن الأفراد الذين يتوقفون عن شراء "بتكوين" بأنفسهم.

يُتداول سهم "كوين بيس" عند أقل بنحو 30% من مستواه في أواخر ديسمبر، حين بدأت الأسواق تثير ضجةً حول الموافقة الممكنة من جانب هيئة الأوراق المالية والبورصات.

نهج متهكم

إضافة لذلك، حتى لو باتت الصناديق المتداولة أداة لمتفائلين يؤمنون بالعملات المشفرة كي يجذبوا مستثمرين جدداً، يصعب ألا نتفاجأ بمقاربة قطاع التشفير التسويقية التي تثير السخرية: إذا كانت الصناديق المتداولة هي الخطوة الأولى في الرحلة، فما هي وجهة المستثمرين المفترضة بالضبط؟

كما أشار غينسلر، ليست هناك أوجه عديدة لاستخدام "بتكوين" اليوم، ولا يوجد سبب وجيه للتفكير بأن أي شخص لديه هدف استثماري عادي، مثل الادخار للتقاعد، عليه أن يضيفها لبرنامج (401K) للادخار لتقاعده. في 11 يناير، خالفت "فانغارد غروب" جانباً كبيراً من القطاع بعدما رفضت طرح الصناديق المتداولة الجديدة لزبائنها من شركات الوساطة، قائلة إن العملات المشفرة لا تنتمي إلى المحافظ الاستثمارية المتوازنة.

لماذا تتسابق شركات كبرى لإطلاق صناديق "بتكوين" مُدرجة؟

تنفق "كوين بيس"، إلى جانب نظيراتها ومستثمري رأس المال الجريء الذين يدعمونها، المال ببذخ لتثبت أن العكس صحيح. بعد مرور أقل من عام على دفع نحو 14 مليون دولار لتضيف رمز استجابة سريعة (QR) إلى سلسلة من إعلانات مباراة "سوبر بول" الشهيرة، تدير الشركة حملة أكثر دهاءً تستهدف المخاوف المالية للجيل "زد". شعار الحملة هو "آن أوان تحديث النظام"، وتقدم الحملة العملات المشفرة على أنها ترياق لعجلة ديون الرهن العقاري، وديون الدراسة الجامعية، وارتفاع التكاليف، التي تدور باستمرار.

حتى الآن، خسر كل من اتبع نصيحة أرمسترونغ، واشترى "بتكوين" يوم صدور موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات. والأهم هو أنه لا يوجد سبب يدعو للاعتقاد بأن "بلوكتشين" ستحل مشاكل النظام المالي.

إن من يستثمرون في صناديق تداول "بتكوين"، أو من يحاولون ركوب أحدث موجات قطاع العملات المشفرة، لا يشبهون المشاركين في ثورة ما. بل يبدون مرشحين ليكونوا أحدث مجموعة من المستثمرين الذين يحتفظون باستثمارات ضعيفة الأداء، أي من يقول المتداولون إنهم يدفعون أكثر مما ينبغي مقابل عملات بلا قيمة.