الأفكار الاقتصادية السيئة لا تموت. وإنما تعود بعد عشر سنوات حتى تطارد جيلاً جديداً. ويبدو أن هذا هو الموقف في صناعة الصلب بالصين.
تعتزم وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الإشارة إلى فائض الطاقة الإنتاجية في صناعة الصلب أثناء رحلتها إلى الصين هذا الشهر كمثال يبرر ما يبدو أنه تضييق وشيك على واردات البلاد من منتجات التكنولوجيا النظيفة.
في كلمة أدلت بها الأسبوع الماضي في مصنع للألواح الفوتوفولطية في نوركروس بولاية جورجيا، قالت الوزيرة: "في الماضي، وفي صناعات مثل الصلب والألمنيوم، أدى الدعم الذي تقدمه الحكومة الصينية إلى مبالغة كبيرة في الاستثمار وفائض في الطاقة الإنتاجية. والآن نشهد ظهوراً لفائض الطاقة الإنتاجية في صناعات جديدة مثل قطاع الطاقة الشمسية، والسيارات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم أيون".
يعود هذا المثال بالذاكرة إلى حالة الذعر التي انتشرت من عام 2016. ففي ذلك الوقت، كتبت نقابة عمال الصلب المتحدون في الولايات المتحدة: "إن مصانع الصلب الصينية تتعمد إغراق الأسواق العالمية بإنتاجها الغزير". ومعدل النمو في مصانع البلاد "يتجاوز في سرعته بكثير ما يتطلبه مستوى الطلب محلياً وعالمياً".
رسوم مكافحة الإغراق
كانت هذه الفكرة من القوة في منطقها حتى أنها أدت إلى فرض رسوم لمكافحة الإغراق على بعض منتجات الصلب، وبلغت في ارتفاعها مستوى 256.44% في عهد الرئيس باراك أوباما في 2015، وذلك قبل أن يلحقها الرئيس دونالد ترمب بعد ذلك بثلاثة أعوام برسوم بنسبة 25% أخرى على جميع منتجات الصلب الصينية.
المشكلة أن كل ذلك لم يكن صحيحاً. فلم تسع الصين إلى إنتاج كميات من الصلب تتجاوز ما يحتاجه الطلب في المدى الطويل. بل إنها لم تكن حتى من الدول الكبيرة المصدرة للصلب. كذلك لم تكن مسؤولة عن انخفاض أسعاره في الولايات المتحدة، ولم يترتب على فرض رسوم الإغراق توقف انخفاض عدد الوظائف في الصناعات المعدنية بالولايات المتحدة.
ويكفي أن تلك النزعة الحمائية المضللة في قطاع الصلب على مدى العقد الماضي لم ينتج عنها سوى ارتفاع التكاليف وتراجع القدرة التنافسية بالنسبة لبقية الاقتصاد الأميركي. والأسوأ من ذلك طريقة استخدام هذه السياسة الفاشلة نفسها في الوقت الحالي في تبرير فرض حواجز أشد ضرراً بكثير على التكنولوجيا النظيفة، مما يضعف قدرتنا على وقف ارتفاع درجات الحرارة العالمية.
زيادة الطاقة الإنتاجية من الصلب
لننظر أولاً على إنتاج الصلب. قامت المصانع الصينية بالفعل بزيادة الطاقة الإنتاجية زيادة كبيرة في النصف الثاني من العقد الأول من الألفية، حتى أنها رفعت إنتاجها المحتمل بما يتجاوز الضعف إلى 1.06 مليار طن متري من 489 مليون طن متري خلال الفترة من 2006 وحتى 2010، قبل أن تبلغ ذروتها عند 1.22 مليار طن متري في 2014.
ومع عجز الطلب في قطاعي البناء والتصنيع عن مواكبة هذه الزيادة في الإنتاج، انخفض معدل استغلال الطاقة الإنتاجية –أو الإنتاج الفعلي كنسبة من الحد الأقصى الممكن للإنتاج– إلى 67% في عام 2015، وهو معدل يقل كثيراً عن مستوى 75% الذي يُعتبر مناسباً لتحقيق أرباح مستدامة.
ومع ذلك، فحقيقة الأمر أن إنتاج الصين من الصلب لم يبلغ ذروته آنذاك. وبدلاً من ذلك، أدى ازدهار نشاط البناء والتصنيع إلى استمرار الزيادة في الاستهلاك، بمقدار 249 مليون طن على مدى السنوات الخمس اللاحقة. وعلى عكس التصور السائد عن حدوث أزمة في عام 2015، لم تبالغ الصين في بناء الكثير من مصانع الصلب، إنما قامت ببناء العدد المناسب إلى حد كبير لمستوى الطلب الذي كان يتزايد. وظل استخدام الطاقة الإنتاجية منذ عام 2018 عند مستويات صحية باستمرار تزيد عن 80%.
ويمكنك أن تطرح حجة قوية جداً مفادها أن الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين غالباً ما كانت نسبة استغلال الطاقة الإنتاجية فيهما أقل بكثير من 75%، تعانيان من فائض في تلك الطاقة الإنتاجية. ومع ذلك، فإن الموقف الأفضل يستند إلى تقبل وجود اختلال في كثير من الأحيان بين القدرات الإنتاجية ومستوى الطلب، وأن هذه عمليات طبيعية في الاقتصاد الحديث وليست دليلاً على نوايا جيوسياسية خبيثة.
مزاعم خاطئة حول الإغراق
ولكن، ربما كانت الصين تغرق السوق الأميركية حتى تتجنب الآثار الناجمة عن قراراتها الاستثمارية السيئة؟ غير أن تلك المزاعم خاطئة هي الأخرى. ذلك أن حجم صادرات الصين صغير إلى حد ما كنسبة من إجمالي الإنتاج. وهي لا تبدو كبيرة هكذا إلا لأنها تنتج أكثر من نصف إنتاج العالم من الصلب، لذا فإن أي فارق بين الطاقة الإنتاجية والإنتاج الفعلي يبدو هائلاً من حيث الحجم. ففي ذروة حالة الذعر المرتبطة بفائض الطاقة الإنتاجية في عام 2015، بلغت صادرات الصين من الصلب إلى أميركا الشمالية 4.4 مليون طن فقط، أي نحو 8% من إجمالي 55.5 مليون طن أنتجتها البلاد آنذاك.
كان أفضل تفسير لضعف الأسعار في الولايات المتحدة هو ببساطة أن استهلاك الولايات المتحدة من الصلب قد بلغ ذروته وكان في انخفاض، حيث انتقلت البلاد إلى مرحلة ما بعد الصناعة والتنمية التي تعتمد على الخدمات. فلم يستطع أي قدر من السياسات الحمائية تغيير حقيقة أن إنتاج الولايات المتحدة من الصلب الآن يمثل نحو 80% من مستواه في عام 2008.
علاوة على ذلك، لم تكتف شركات صناعة الصلب الصينية بتطوير الطاقة الإنتاجية التي قامت ببنائها فحسب، بل حققت أرباحاً من خلال ذلك. وهذه علامة على عدم وجود أي فائض في العرض مقابل الطلب على المدى الطويل.
عندما يحقق منافسوك أرباحاً مستدامة، لا يكون اتهامهم بالإفراط في بناء الطاقة الإنتاجية إلا طريقة في الشكوى من أن تفوق إنتاجيتهم يمكنهم من الاستيلاء على حصتك في السوق.
هناك فرق واحد كبير عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا النظيفة. فعلى عكس الصلب، فإن تجارة المركبات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم أيون تنمو بسهولة على مستوى عالمي، كما أن حجم الشركات الصينية وإنجازاتها التكنولوجية تجعلها قوية في المنافسة. ولكن هذا لا يعني أنها تستفيد من مزايا غير عادلة، كما أوضحنا.
غير أن ما يجري بناؤه هنا ليس طاقة إنتاجية زائدة، بل إنها بالكاد هي الطاقة الأساسية التي يحتاجها العالم إذا قُيض له تشييد اقتصاد منخفض الانبعاثات حتى يصل بالكوكب إلى صافي صفر. وإذا كانت الصين تنتج الأدوات اللازمة لتجنب الاحتباس الحراري بتكلفة أقل مما نستطيع نحن بأنفسنا، فعلينا أن نتبع نصيحة آدم سميث ونشتريها.