حل سنغافورة للكهرباء قد يساعد عالمنا المتناحر

على الرغم من أن استيراد الكهرباء يمنح الدول المجاورة كثيراً من السطوة إلا أن سنغافورة محقة بأن تتقبل المخاطرة

استيراد الطاقة الكهربائية
استيراد الطاقة الكهربائية المصدر: بلومبرغ
David Fickling
David Fickling

David Fickling is a Bloomberg Opinion columnist covering commodities, as well as industrial and consumer companies. He has been a reporter for Bloomberg News, Dow Jones, the Wall Street Journal, the Financial Times and the Guardian.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تكتنف أسواق الكهرباء مفارقة هي أن هذا النوع من الطاقة هو الأقل تداولاً رغم أنّ تداوله أيسر مما سواه. إن سألت أي مخطّط لشبكات الكهرباء عن أفضل وسيلة تصل عبرها كيلوجولات الكهرباء من داخل طبقات الفحم في المناطق النائية إلى قوابس الكهرباء في منشآت المستهلكين الحضريين، فسيعطيك إجابة بدهية هي أن بناء مولّد في المنجم ونقل الكهرباء بواسطة الأسلاك الكهربائية أسهل من نقل صخور مغبرة إلى معمل كهرباء قرب كل منزل.

إلا أن هذا المنطق ينقلب إن تجاوزنا حدود دولتين. فيما أن 85% من إجمالي النفط في العالم يُستهلك في دول غير التي تنتجه، وتبلغ هذه النسبة 25% للغاز و20% للفحم، فإن نسبة الكهرباء التي تعبر الحدود لا تتخطى 2.1%.. حتى أنه باستثناء التبادل بين دول الاتحاد الأوروبي، وبين الولايات المتحدة وكندا، وبين البرازيل والباراغواي، وبين البرّ الرئيسي الصيني وهونغ كونغ، فإن الكهرباء تكاد تكون غائبة عن التجارة العابرة للحدود.

شراء الكهرباء عبر الحدود

لهذا السبب، فإن موافقة سنغافورة الشهر الماضي على خطة لاستيراد 2 غيغاواط من كهرباء مولدة من الطاقة الشمسية و مخزنة في بطاريات من إندونيسيا، بعد اتفاق مشابه لاستيراد غيغاواط من الكهرباء من كمبوديا في وقت سابق من العام، اختراق مهم، وقد تكون له تبعات تتخطى قطاع الطاقة لتمتد إلى الدبلوماسية وحالات الحرب والسلم في القرن الواحد والعشرين.

إن تجارة الكهرباء محدودة بما أنها تضع كثيراً من النفوذ في أيدي القوى المجاورة. فإن كنت تظنّ أن فلاديمير بوتين ألحق ضرراً كبيراً بالاتحاد الأوروبي حين قطع إمدادات الغاز العام الماضي، لك أن تتخيّل ما كان ليفعل لو أنه يتحكم بشبكات الكهرباء في القارة بكبسة زرّ من موسكو. لذا فإن الدول الصديقة جداً هي وحدها التي يمكن أن تضع نفسها تحت رحمة عواصم أجنبية إلى هذا الحدّ.

لكن نظراً للظروف الجغرافية الفريدة من نوعها في سنغافورة المكوّنة من جزيرة حضرية بشكل شبه كامل، فهي لا تملك كثيراً من الخيارات غير الاعتماد على دول أخرى من أجل الحصول على الكهرباء. فمساحتها الصغيرة تعني أنها لا تقدر على إنتاج ما يكفي من الطاقة المتجددة أو الطاقة النووية، و95% من إجمالي الكهرباء التي تستهلكها تقليدياً مُولّدة من غاز تستورده بكميات ضخمة عبر أربعة أنابيب من ماليزيا وإندونيسيا. جعل ذلك سنغافورة رهينة أزمة الطاقة العالمية التي أعقبت غزو أوكرانيا. فقد ارتفعت أسعار عقود غاز الأنابيب طويلة الأجل وعقود الغاز الطبيعي المسال طويلة الأجل بنسبة 20% و50% على التوالي خلال العام حتى أغسطس 2022، فيما ارتفعت تكلفة صفقات الشراء الآنية للغاز الطبيعي المسال بما يصل إلى 224%.

سنغافورة أغلى مدن العالم للمعيشة الفاخرة ودبي تقفز للمرتبة السابعة

تكلفة أقل

الأسوأ من ذلك هو أن حقول الغاز التي تغذي الأنابيب الماليزية والإندونيسية تُستخدم أكثر فأكثر من أجل إمداد المستهلكين المحليين بالطاقة، ما يهدّد بجعل المدينة الدولة أكثر اعتماداً على الغاز الطبيعي المسال الأعلى كلفةً. حسب تصنيفات "أس أند بي غلوبال"، فإن مثل هذه الشحنات ستشكل أكثر من نصف كمية الغاز المستوردة بحلول منتصف العقد الرابع من القرن.

يعني كلّ ذلك ارتفاع التكاليف التي تتكبدها الأسر. وبما أن سنغافورة لا تملك أي طاقة متجددة أو طاقة نووية منعدمة التكلفة لدعم استهلاكها، فإن سعر مبيعات الكهرباء بالجملة في سنغافورة هذا العام كان أعلى بنسبة 60% مقارنةً بالكمية الموازية في بريطانيا. كما أن تكلفة شراء الطاقة بالعملة المحلية ارتفع بحوالي 25% في 2022 وحده. إلا أن تكلفة شراء الطاقة الشمسية التي تنتجها إندونيسيا وماليزيا تبلغ أقل من نصف ما يدفعه السكان المحليون في سنغافورة اليوم، حتى مع احتساب التكلفة العالية لنقل هذه الكهرباء عبر كابلات تمتد عبر قاع البحر.

تخطط سنغافورة حالياً لاستيراد غيغاواط واحد إضافي من الطاقة المتجددة، لترتفع الكمية الإجمالية من الطاقة المتجددة التي تستوردها إلى 4 غيغاواط بحلول 2035، أي ما يوازي ثلث سعتها التوليدية الحالية البالغة 12 غيغاواط، وسدس إجمالي احتياجاتها من الطاقة. قد يبدو هذا الهدف متواضعاً مقارنةً بمساعي الولايات المتحدة وبريطانيا لإقامة شبكات خالية من الكربون بحلول الموعد نفسه، إلا أنه يتماشى مع مخاوف سنغافورة التقليدية حيال أمنها القومي، وهو ما يدفعها للسير بخطوات حذرة في البداية.

"تماسيك" السنغافورية تدرس بيع وحدة غاز بملياري دولار

تجارب ناجحة

مع ذلك على السياسيين ألا يدعوا مثل هذه المخاوف تعيق اتخاذ إجراءات جريئة، بل الأجدى أن يستقوا العبر من واحدة من القصص غير المتوقعة عن التعاون الناجح في مجال الطاقة العابر للحدود. فعقب الحرب العالمية الثانية، اقترح وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان خطة مغامرة تنصّ على الاستخدام المشترك لاحتياطات الفحم وخام الحديد قرب مصب نهر الراين التي تسببت في ثلاث حروب قارية منذ عام 1870.

كان الرهان على أن فرنسا وألمانيا ستحققان مزيداً من الازدهار إذا ما استفادتا معاً من غنائم التطور الصناعي بدل التقاتل عليها. بالفعل، شكّل اقتراح شومان أسس الاتحاد الأوروبي وبقيت رؤيته صامدة. بالتالي، لم يكن تعزيز أمن الطاقة هو الذي جلب السلام إلى أوروبا، ولكن القرار بتقديم المصلحة الجماعية على التفوق الوطني قصير الأجل.

يمكن لسنغافورة أن تستقي كثيراً من العبر من المثال الأوروبي. فهي مثل لوكسمبرغ، مسقط رأس شومان، دولة صغيرة ثرية في محيط يشهد توترات من حين إلى آخر. والدرس المُستقى من مشكلتها المتعلقة بالطاقة المتمثّلة بحاجة العالم الذي يطمح لتحييد الانبعاثات لبناء شبكات كهربائية عابرة للحدود لا بل القارات، ينطبق على كافة الدول من الأميركتين حتى أفريقيا ومن أوروبا حتى آسيا.

حوّلت لوكسمبرغ حلّ مشاكل أمنها القومي إلى نموذج يجمع قارة بأكملها انطلاقاً من الروابط التجارية السلمية. وعلى سنغافورة أن تفعل الأمر نفسه لحلّ مشكلتها الكهربائية.