تطوران مهمان حدثا في عالم العملات المشفرة خلال الشهر الجاري، تمثلا في المصادقة على إطلاق صناديق متداولة، وتجاهل من مجموعة شبه خاصة. وكلا الأمرين ينذران بسوء لمستقبل هذا المجال.
جاء الاعتماد الرسمي في صورة موافقة لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية على صندوق "بتكوين" المتداول في البورصة، ما سيسهّل على المضاربين الاستثمار في "بتكوين". أما التجاهل فقد حدث خلال نسخة العام الجاري من المنتدى الاقتصادي العالمي، والتي حضرتها شخصياً، حيث كانت "بتكوين" -أو أي عملة مشفرة، بالفعل- في طي النسيان. خلال العام الماضي طغى الحديث عن العملات المشفرة على فعاليات دافوس. أما في العام الجاري، فقد استحوذ الذكاء الاصطناعي على محور المناقشات، وغابت العملات المشفرة، مثلي، عن اللقاءات المهمة فعلاً، فضلاً عن كونها الأقل حظاً بالاهتمام.
تناقض
ربما تظهر هذه التطورات وكأنها متناقضة: فمن جهة، تضفي صناديق "بتكوين" المتداولة في البورصة الشرعية على العملات المشفرة بوصفها فئة أصول. ومن جهة أخرى، تكاد تكون الفعالية السنوية الصاخبة التي تجمع النخبة قد استبعدت مجتمع العملات المشفرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن كلاهما يدل على حقيقة أن العملات المشفرة، بوصفها فئة أصول، باتت استثماراً واسع الانتشار بصورة كاملة، ما يعني أنها بلغت ذروتها.
صناديق التشفير المتداولة تسجل تدفقات خارجة وسط تراجع الطلب
لكي نكون منصفين، تحدى قطاع العملات المشفرة التوقعات حتى الآن. صعدت أسعار هذه العملات، على الرغم من أن قيمتها لم تكن واضحة مطلقاً. كما قال يوجين فاما، الأب الروحي للتمويل الحديث، مؤخراً: "ما لم تتحول بتكوين إلى وسيط للتداول يجري استخدامه بطريقة كبيرة، فلا بد أن هذه العملة ستنهار في نهاية الأمر، وإلا فإن كل ما تعلمته من النظرية النقدية حول طريقة اكتساب العملات للقيمة لا معنى له".
إنه على حق. العملات المشفرة لا توزع أرباحاً، والعملة التي لا تدعمها حكومة ليست لها قيمة حقيقية، لأنها لا تُعد جزءاً من الأصول الحقيقية. ربما تكون للتكنولوجيا قيمة باعتبارها وسيلة لتسهيل المدفوعات. لكن هذا لا يكفي لتبرير قيمتها الحالية.
بالتأكيد، أي عملة معينة تُعد محدودة المعروض. نظرياً، ينبغي أن يجعلها هذا أصلاً تحوطياً مقابل الدولار. لكن العديد من الأشياء تُعتبر محدودة العرض -مثل مقتنيات شركة "فرانكلين مينت" (Franklin Mint)- ولا أحد يعتقد أنها تساوي مليارات الدولارات. علاوة على ذلك، يصعب القول إنه حتى "بتكوين"، الأكثر رسوخاً في العملات المشفرة، تشكل تحوطاً جيداً لأي شيء عندما يكون متقلباً بشدة. تُعد أكثر تقلباً بالمقارنة مع الدولار الأميركي (الأصل الذي يهدف إلى التحوط ضده) أو مع سوق الأسهم، وهي تمثل تحوطاً أفضل ضد ارتفاع معدل التضخم.
أصل تحوطي
الاستثمار في العملات المشفرة للتحوط من مخاطر الدولار الأميركي يشبه إغراق منزلك بالمياه لتأمينه ضد فرص اندلاع حريق.
على ما يبدو، إن أفضل حالة استخدام يتمثل في سوق موازية، أو في دولة عملتها منهارة. هذا ما جعل منها جذابة دائماً. كانت العملات المشفرة غير تقليدية وثورية، وهي صفات خارجة عن الأصول الشائعة المستخدمة على نطاق واسع، وربما يمكن استخدامها باعتبارها تأميناً ضد احتمالات بعيدة لحدوث انهيار للاقتصاد الأميركي بالكامل (لكن ليس بالكامل لدرجة أنها لن تكون قادرة على توفير قوة الحوسبة اللازمة للوصول إلى محفظتك الرقمية).
ترخيص صناديق بتكوين المتداولة بالبورصة يخيب آمال المستثمرين
وفقاً لهذا المفهوم، فإن التحول إلى أصل واسع الانتشار يمثل حكماً بالإعدام. باتت "بتكوين" حالياً أحد الأصول الخاضعة للرقابة التنظيمية ويمكن شراؤها عبر البورصة. إذن ما الفائدة حالياً؟ لا يوجد شيء غير تقليدي أو ثوري يتعلق بالصناديق المتداولة في البورصة المعتمدة من قبل لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية.
تفرض السوق ببطء واقعها البشع. كما يشير أيضاً جو وايزنتال من "بلومبرغ"، هبط سعر "بتكوين" مع كل خطوة نحو الدخول لسوق الأصول شائعة الاستخدام. بدأت العقود المستقبلية لـ"بتكوين" في بورصة شيكاغو لعقود الخيارات التداول خلال ديسمبر 2017، ثم جاء الاكتتاب العام لشركة "كوين بيس" خلال أبريل 2021، وفي الوقت الراهن يوجد صندوق "بتكوين" المتداول في البورصة. لا تتوقع أن يتراجع السعر وكأنها أصل عادي، لأن كلاً من هذه التطورات لا بد أنه يجذب مشترين جدداً، ويحسن وفرة السيولة النقدية. لكن حدث العكس.
تراجع "بتكوين"
أُلقي باللوم في الانخفاض الأخير -20% تقريباً- على أسباب تقنية أو رسوم مرتفعة وبيع شركة "إف تي إكس" (FTX) المفلسة لأصولها. لكن سعر العملات المشفرة يهبط في كل مرة يصبح الوصول إليها أكثر سهولة لسببين. أولاً، يعني التداول بالبورصة تأثير توافر المزيد من المعلومات على السعر، وتقول الأسواق إنها لا تستحق قيمة كبيرة. ثانياً، حقيقة أن العملات المشفرة باتت حالياً أحد الأصول المستخدمة على نطاق واسع تتسبب في تغيير الميزة الأساسية لقيمتها، حيث لم تعد جزءاً من فئة الأصول "الخارجة" التي يمكنها تجاوز نطاق مسؤولية الإشراف الحكومي.
ربما لا ينهار سعر "بتكوين" مطلقاً، كما يتوقع فاما، ومن الممكن أن تكون هناك ارتفاعات محدودة للأسعار مستقبلياً. لكن هذه لم تعد عملة "بتكوين" كما كان الحال خلال 2021. على ما يبدو، فإن تراجعها منذ اعتمادها كأصل متداول في البورصة يؤكد صحة فرضية الأسواق الكفؤة التي منحت فاما شهرته. كشف التحول لأصل واسع الانتشار عن قيمتها الحقيقية. وفي الوقت الراهن تُعد مجرد فئة أصول أخرى جذابة تقريباً مثل صندوق السندات، لكنها أكثر تقلباً، ولديها قدرة أقل كثيراً على تنويع مخاطرها.
عند الحديث عن أصل واسع الاستخدام، ما الذي يمكن أن يكون عادياً أكثر من تجاهله خلال المنتدى الاقتصادي العالمي؟ تحولت العملات المشفرة من حلّ لجميع مشكلاتنا إلى مجرد أصل عادي آخر. لم أكن أعرف بالضرورة مكان إقامة أفضل الحفلات في دافوس، لكني متأكد بدرجة كبيرة أن العملات المشفرة لم تحظ بالاهتمام. خلال السنة المقبلة، إذا دُعيت مجدداً إلى دافوس، يمكن أن ترافقني العملات المشفرة.